في عوالم النور والظل، تنبعث قصة الإنسان، تلك الرحلة المتقلبة بين الألم والأمل، الصحة والمرض، الحياة والموت بكل تناقضاتها. وتخترق السينما جسور النفس إلى مكامن القلق والخوف والتحدي، وحينما يدلف مرض السرطان إلى إطار الكاميرا، يتحول الفيلم إلى مرايا مرهفة لرؤانا اللاعقلانية، بحثنا عن معنى الحياة في مواجهة الموت. ما الذي يجعل السينما التي تتناول السرطان أكثر من مجرد سرد مرضي؟ وأي نوع من السينما تنتمي إليه؟ وكيف تقرأ في الأسئلة التي لا تنتهي: وكيف نعيش حين نعلم أننا نقترب من خط النهاية؟ وكيف يصنع الحب ضوءه وسط ضباب الوجع والآهات؟ وكيف يصبح الموت عتبة للتعاطف والجمال والرؤية الفنية؟ هذا ما نحاول مطاردته في هذه المقاربة النقدية من قصص ” سينما السرطان”…
تندرج السينما التي تتناول مرض السرطان غالبا في تصنيفات “الدراما الروحية ” أو “دراما المرض” أو “دراما الحياة والموت”، وهي تنتمي بصورة أوسع إلى ما يمكن تسميته “السينما الإنسانية” أو “السينما النمطية الاجتماعية”، والتي تسعى إلى كشف الجراح النفسية من خلال جرح الجسد. وهذه السينما لا تستولي على الحبكة وحسب، فهي تنحو نحو ما وراء الحدث، نحو المناخ الفكري والثقافي والجمالي.
وتموه الكثير من هذه الأفلام بشعارات الحب والحياة؛ لكن جوهرها هو مواجهة الفناء، وسؤال “لماذا نعيش رغم النهاية المحتومة؟”. ويبدو التضامن الإنساني كطريق نجاة في رحلة المريض ورفيقه، حيث يبرز المشهد الاجتماعي، ويظهر كيف تحول المحبة إلى درع ضد العزلة. ويغدو الجسد كمسرح الظل حيث جسم المريض ليس موضوعا للشفقة فقط؛ ولكنه يصبح موقعا للصراع، ورمزا لفسيفساء الحياة والموت.
ويترنح الجمال ضد الألم في مشاهد إبداعية وبصرية تتأسس على خلفيات فكرية. ويحاول المخرج أن يضبط الألوان والصور والحوار وإيقاع الموسيقى من أجل ثبات النفس أمام الذبح البنيوي للمرض.
وتستعين هذه الأفلام فنيا بمتن سينمائي يحافظ على “اللامبالاة المهيبة”: لقطات ثابتة طويلة، أو كاميرا يدوية تتنقل داخل ممرات وغرف المستشفى، ممرضون لباس أبيض، زوج أو صديق يجلس إلى سرير المريض. ويصاحبها أيقونات جمالية: ضوء باهت، لون يكدر، موسيقى ترتجف.
وتحيل هذه الأفلام فلسفيا إلى تقليد أدبي طويل: “أسئلة العدم” و”معنى الحياة” و”الحنين إلى الخلود”؛ لكنها لا تشخصنها، وإنما تجعلها حالة جماعية. وتصادر ثقافيا أحيانا، تاريخا من الألم الجماهيري – كالحروب أو الأوبئة – لتدمج السياق العائلي بالكوني.
يكمن في قلب هذه السينما سؤال وجودي: هل تحتفى بالجدول الزمني للمرض، أم يروى عبر ذاكرة؟ وتبدأ بعض الأفلام بالنهاية ثم تعود إلى البداية: لحظة اكتشاف العدوى، ولحظة فقدان السيطرة على الجسم، ولحظة العناق الأخير. وتطالعنا الحكاية في ضوء الصدمات، وتتبدل الراوية بين المريض والأحبة، وبين المحيط به، ذاك الذي يكتب، وذاك الذي يشاهد. وتتداخل الأصوات بين توثيق الطبي والعاطفي، وشفرة التناص بين النصوص (الرسائل، مفكرون، قصائد) تبتكر سردا مفجرا ومختلفا بين فيلم وأخر لكنها تحصد نهايات حزينة تكسر من قسوتها في بدايات الفيلم وكسر الصدمات السردية.
وتطرح سينما السرطان مجموعة من الأسئلة: إلى أي حد يكون التركيز على المرض ذاته؟ وإلى أي حد يكون اهتمامه بالمريض كذات؟ هل ينتهي الفيلم بأن يتحول المرض إلى رمز، أم يبقى مرضا دون أي استعارة معنوية؟ كيف يعالج اختزال مرضى السرطان في بساطة التعاطف العاطفي، من دون تمكين قصصي حقيقي؟ هل يمكن السينما أن تتعامل مع الألم الجسدي بمعزل عن الشعور؟ هل تستجلب فيضا من العواطف السطحية، أم تشيد عزفا بصريا وفلسفيا؟
ويحكي فيلم “راقصة في الظلام” Dancer in the Dark (2000)، للمخرج لارس فون ترير، عن امرأة تدعى سيلما جيشكوفا تعاني من مرض وراثي نادر يؤدي إلى العمى وفقدان البصر في ظل فقر مؤلم، لكن البطلة تقف أمام الموت بأغانٍ حالمة وصورة بالأسود والأبيض تتحول تدريجيا إلى ألوان باهتة، تلك الألوان التي اختفت من عينيها ولكن تحيا في مخيلتها. وفي فيلم “بداهة ” Wit، للمخرج الحامل للجنسية الأمريكية مايك نيكولز (2001) عن أستاذة أدب إنجليزي تدعى ففيان بيرين (إيما تومبسون) تتلقى تشخيص سرطان المبيض، فتبدأ رحلة نقدية وجمالية في الوقت ذاته. تقول الشخصية في أحد المونولوجات: “أنا لست جسدا مريضا، بل أنا مشهد يعرض في غرفة مشرحة”.
وفي فيلم ” قبل أن أموت”Before I Die إخراج: أول باركر(2012) عن تحدث عن فتاة تسمى تيسا (تؤدي دورها داكوتا فانينغ) تريد أن تكتب قائمة أحلامها قبل أن يلتهمها مرض اللوكيميا (سرطان الدم)، وتعرف أن وقتها في الحياة محدود جدا. وتلتفت إلى السماء كل ليلة، تسأل: “هل يكفي أن يقرأ الآخرون عني ليعيشوني؟”.
وفي فيلم “الخطأ في أقدارنا “،The Fault in Our Stars من إخراج جوش بون (2014) مقتبس من رواية جون جرين أيضا. ويحكي الفيلم عن فتاة مصابة بسرطان الوريد العصبي، ترزح تحت قلق الموت؛ لكنها تكتشف معنى العشق الأول، وقدرتك على أن تحب حتى لو كنت تعرف أنك ستموت، وضمن الحوار تعلق البطلة: “المأساة ليست الموت، بل أن يعيش الإنسان بدون أن يشع”.
في هذه السينما عندما تلتقي بالمرض، تتوارى السينما عن المعنى الظاهر، لتغوص إلى معنى أعمق حيث يمزق ألم السرطان الجسد، لكنه يقفز عبر الشاشة إلى روح المشاهد، في أي بقعة من الأرض. ويعيد شظايا سؤال: لماذا الحياة؟ كأنها مصانع أقاصيص تعيد صياغة الجسد كحلم، والوعي كما ملكته أسئلة يتردد صداؤها: هل يخيفنا السرطان لأنه يعلمنا أننا كلنا مصابون؟ وهل نعيش أحلامنا بطريقة أشد إخلاصا حين يحل السرطان؟ وكيف يصنع الفيلم الجمال من الألم، والحب من الزوال؟
ويلمس المخرج أنسجة الجسد والشوق والموت، في إطار روحي عابر، وحكايات تسطر على الزمن قصائد من الألم والأمل والرجاء. أنت هنا أمام تعداد تأملي لحالات أدمجت بينها رئتي الحضور والغياب، في صورة نهائية: أن السينما التي تنحت مرض السرطان على الجسد، تنحت في الوقت ذاته روح المشاهد، وتزاحم الموت بخبرة الحب والإبداع.
وتقول هذه السينما بحساسية مفرطة: هذا الجسد لي، هذا الموت ممكن كموت كل إنسان، ولكننا نخترقه بصوت، بنص بصري، بقصة تجعل الحياة أكثر رحابة، بحوار أكثر جرأة، وبمشاهد ولقطات أكثر وفاء لروح نقرها مع الألم.
في قلب الظلال التي ترسمها سينما السرطان، ينبثق البطل ككائن متصدع، هش، يطل من شاشة لا تلمع بالانتصار وإنما تهمس بحالات من الانكسار، هنا لا تروى الحكاية لتطمئن، بل لتقلق، لتفتح جرحا في وعي المتلقي، وتدعوه إلى التأمل في معنى الحياة حين تصبح مهددة، في معنى البطولة حين تعرى من المجد وتلبس ثوب الألم، في هذه السينما لا يحتفى بالبطل لأنه انتصر، ولكن لأنه قاوم، لأنه تردد، لأنه بكى، لأنه لم يختفِ رغم كل شيء.
وفي فيلم “أفتقدك منذ الآن” Miss You Already، (2015) للمخرجة الأمريكية كاترين هاردويك، لا تظهر ميلي كضحية مثالية، بل كامرأة فوضوية، ساخرة، لا تتغير حتى في لحظة المرض، لا تقدم نفسها متعالية وقديسة وإنما إنسانة بسيطة، تقول عنها صديقتها إنها “كانت فوضى عارمة”. وعندما مرضت لم تتغير، هذه الجملة تختزل فلسفة الفيلم، ترفض تمجيد الألم، وتعيد إلى البطل هويته البشرية المربكة المتناقضة التي لا تصقل بالمرض؛ بل تكشف من خلاله، ميلي لا تبحث عن خلاص، بل عن لحظة صدق، عن أن تكون كما هي، حتى في لحظة الانهيار
أما في فيلم “50/50″، يظهر آدم كمن يشرح عاطفيا، لا طبيا فقط، شاب في السابعة والعشرين، يكتشف مرضا نادرا في عموده الفقري، ويبدأ رحلة اكتشاف الذات عبر صداقات وعلاقات متصدعة، ليست المعاناة هنا عبئا فقط، وإنما مرآة لأولويات الحياة، ومن يبقى حين يقترب الرحيل، من يصمد حين يتهاوى الجسد، ومن يهمس في أذن البطل ويقول له: أنت لست وحدك. لا يقدم الفيلم علاجا لكن يقدم صحبة، لا يقدم نهاية وإنما يقدم لحظة مفعمة بالمعاناة، لحظة إدراك أن الحياة ليست طويلة بما يكفي لنؤجل الحب أو نؤجل البكاء.
وفي فيلم “الخطأ في أقدارنا”، The Fault in Our Stars، (2014) للمخرج الأمريكي جون بون، يتحول السرطان إلى سؤال وجودي ببعد شكسبيري، لا إلى خصم خارجي، تقول هازل: “إن الشيء الوحيد الأسوأ من الموت بالسرطان هو أن يموت طفل بسبب السرطان”. وتكشف هذه العبارة عن عمق الألم، عن خوف لا يقال، وعن مستقبل يمحى قبل أن يكتب، أما أوغستوس، في لحظة تأمل، يقول: “إن السرطان هو هو، الأورام منه، كما أن دماغه وقلبه منه، إنها حرب أهلية، لها فائز محدد مسبقا”، وهي جملة ليست للمواساة ولكنها أداة للتفكير والتأمل، ولتضع المتلقي أمام سؤال: هل يمكن أن نحارب أنفسنا، هل يمكن أن ننتصر على ما هو جزء منا، هل يمكن أن نحب ما يقتلنا؟
لا تكتفي “سينما السرطان” وحكاياتها وقصصها بتصوير الألم، بقدر ما تفضحه كنظام هش، كما في فيلم “أفتقدك منذ الآن” حيث العلاج ليس مضمونا، والنجاة ليست عادلة، ولا يتجاهل الفيلم الطب، وإنما يكشف هشاشته، ويكشف أن الوصول إلى العلاج مرهون بمنظومة غير عادلة، حتى أن المخرجة نفسها زارت الأطباء لتعيش بعضا من تجربة ميلي، لتفهم أن المرض ليس فقط في الجسد، لكنه في النظام، في المجتمع، في الطريقة التي ننظر بها إلى من يتألم.
أما في فيلم “50/50″، (2011) للمخرج الأمريكي جوناتان ليفين، ويكشف أن المعالجة ليست قرارا طبيا فقط، فهي رحلة نفسية، يتشكل خلالها البطل (جوزيف غوردون ليفيت) ويعيد تعريف هويته، ويعيد ربط الروح بالجسد المنهار، لا يشفى آدم لأنه تناول دواء؛ بل لأنه واجه نفسه، لأنه بكى أمام أمه، لأنه ضحك مع صديقه، لأنه أحب معالجته، لأنه أدرك أن الحياة لا تقاس بعدد الأيام بقدر عدد اللحظات التي نكون فيها صادقين.
وفي فيلم “The Fault in Our Stars”، لا يبدو السرطان شريرا، فهو “كائن حي، يريد أن يعيش”، كما يقول أوغستوس. وتختزل هذه الجملة جوهر الفيلم، لا يمثل المرض خصما خارقا، وإنما كائن حي، يطلب الحياة كما نطلبها نحن. هذا الابتعاد عن الاستسهال المعنوي يضع البطل في مواجهة وجودية، لا مع الموت فقط؛ ولكن كذلك مع المعنى، مع السؤال: لماذا نعيش؟ لماذا نحب؟، لماذا نخاف؟، لماذا نكتب الشعر ونحن نعلم أن الورق سينتهي؟
لا تقدم البطولة في صور مثالية على المستوى الجمالي؛ فشخصية ميلي تحلق شعرها بالكهرباء، وأوغستوس يربط كلمة “حسنا” بالأبدية، ربما سيكون “حسنا” هو “دائمنا”. هذه الجملة لا تطمئن بقدر ما تربك، لتقول إن الأبدية ليست في الزمن، بل في الكلمة، في الوعد، في النظرة، في أن نقول “أنا هنا” رغم كل شيء.
ولا يتبع السرد في هذه الأفلام خطا زمنيا مستقيما؛ ولكنه متقطع، يبدأ بلقطة خوف أو تأخير، ثم يعود إلى ذكرى، يطفو برأسه فوق البحر الماضوي، ثم يعود إلى سراديب المستشفى، السرد لا يطعنه الزمن، بقدر ما يشتت فيه البطل، فيدمج الأسئلة: هل تتحقق الهوية بالمقاومة أم بالاستسلام؟، هل البطولة في أن نصرخ أم في أن نهمس؟، هل الحياة في أن نعيش أم في أن نحب؟
وفي هذه السينما، تضمحل الذات، وتستمر الأسئلة، لا يرتكن إلى مفهوم البطولة ولا إلا مفهوم الانتصار، وإنما في لغة البقاء، في التردد، في النزف، في أن تظل حيا رغم كل شيء، في أن تقول: “أنا موسيقى تريد أن تسمع”، هذه الجملة تعتبر أن إنسانا، في لحظة مواجهة، في ضوء خافت، يضيء الجسد المريض، ويهمس بأن الحياة، رغم الانكسار، تستحق الصدى ويقدم نفسه سينمائيا في حالات الضعف والانهيار كحالات للتأمل.
وراء الشاشة، نرى أن السرطان يبقى صوتا لصدى الروح، وأن القصة الحقيقية ليست عن وفاة الجسد؛ ولكنها عن ولادة المشاع، أن نحب أكثر حين نقترب من النهاية، أن نكون باهظين في لحظاتنا القليلة، بشجاعة منهكة، ببطولة سردية وبصرية لا تنطفئ. ولا تعلمنا هذه السينما كيف ننتصر، بقدر ما تعلمنا كيف ننهار، كيف نحب، كيف نكتب الشعر ونحن نعلم أن الورق سينتهي، كيف نكون أبطالا لأننا لم نسقط، وإنما لأننا نهضنا رغم كل شيء، ورغم كل الكبوات.
وهكذا، يصبح البطل في سينما السرطان شاعرا هشا، يقف على أعتاب الموت، ويهمس في النهاية: أنا لست خارقا، أنا إنسان، أنا لحظة، أنا صدى، أنا حياة تكتب في الهامش، وتقرأ في القلب، أنا وعد لا يقال، أنا “حسنا” التي ستكون “دائمنا”.
لا تعتبر سينما السرطان ولا تتأسس على أنها فقط سرد لحكاية مرض ومريض، فهي مرآة متعددة بأوجه مختلفة، وتتشابك جميعها لتصنع صورة البطل الذي لا يعرف بالقوة وإنما يعيش على إيقاع الهشاشة، لا قدرة له على الانتصار ولكنه يتملكه وعي، لا يطالب بالخلود ويكتفي بلحظة الحياة..
وتكشف هذه السينما في البعد الاجتماعي، عن عزلة المريض في مجتمع لا يعرف كيف يتعامل مع الألم؛ فالبطل غالبا ما يحاط بأصدقاء لا يفهمون، أو عائلة تخاف من المواجهة، أو مجتمع يفضل الصمت على الاعتراف، كما في فيلم 50/50، حيث يواجه آدم نظرات شفقة، وأحاديث سطحية، ويجد نفسه مضطرا إلى تعليم الآخرين كيف يتحدثون إليه، وكأن المرض جعله خبيرا في التواصل الإنساني، يقول في لحظة ضيق: «يعاملني الجميع وكأني قد مت بالفعل».
ويتجلى البعد السياسي، في كشف هشاشة الأنظمة الصحية، كما في فيلم “أفتقدك منذ الآن” (2015)، حيث الوصول إلى العلاج ليس مضمونا؛ فهو مرهون بالبيروقراطية وبالطبقة الاجتماعية وبالقدرة على الدفع، وحتى بالصدفة. ولا يعالج المرض هنا فقط في المستشفى؛ لكنه يناقش في البرلمان، في السياسات العمومية، وفي القرارات التي تحدد من ينجو ومن يترك، تقول ميلي في لحظة غضب: «لست مستعدة للموت فقط لأن النظام لا يهتم».
أما على المستوى الاقتصادي، ينهك المرض الجسد كما ينهك الجيب، فتكاليف العلاج مكلفة وباهظة، وكذا الغياب عن العمل، وفقدان التأمين، كلها تتحول إلى عبء إضافي، كما في فيلم ” الخطأ في أقدارنا”، حيث السفر إلى أمستردام للقاء الكاتب المفضل يصبح حلما مكلفا، لا يتحقق إلا بدعم من مؤسسة خيرية، وكأن الحلم نفسه يحتاج إلى تمويل، تقول هازل: «لا يمكنك أن تختار إن كنت ستتأذى في هذا العالم… لكن يمكنك أن تختار من يؤذيك».
أما البعد النفسي، فهو قلب هذه السينما، حيث البطل لا يحارب المرض فقط، بل يحارب ذاته، شكوكه، خوفه، ذاكرته، ورغبته في الحياة، في فيلم 50/ 50، يخضع آدم للعلاج النفسي، ليعيد ترتيب فوضى الداخلية والنفسية، يقول لمعالجته: «لا أعرف إن كنت خائفا من الموت أم فقط خائفا من ألا أعيش».
وتتجاوز الرمزية في هذه الأفلام، المرض، فالسرطان يصبح استعارة للزمن، للانهيار، للبحث عن المعنى، كما في فيلم “الخطأ في أقدارنا”، حيث تقول هازل إن السرطان ليس شريرا، إنما له رغبة في العيش، وكأن المرض نفسه يطلب الحياة، كما نطلبها نحن، تقول أوغستوس في لحظة فلسفية: «أفكاري نجوم لا أستطيع أن أرتبها في كوكبات».
لا تقدم هذه السينما خاتمة مطمئنة؛ ولكنها تقدم بالضرورة لحظة تأمل، لحظة شعر، لحظة صدق، لا ينتصر البطل فيها، بقدر ما يهمس، لا يصرخ، بقدر ما يكتب، لا يختفي، وإنما يترك أثرا، كما في جملة أوغستوس التي تختزل كل شيء: «لقد منحتني أبدية داخل أيام معدودة».
وهكذا، يصبح البطل في سينما السرطان إنسانا، شاعرا، وكاتبا، متألما، وواعيا، يواجه العالم بجسد منهك وروح لا تزال تقاوم، يهمس في النهاية: “أنا موسيقى تريد أن تسمع”.