نبه أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أحمد بوز، إلى تزايد الهوة بين المجتمع من جهة، والأحزاب السياسية والبرلمان والحكومة من جهة أخرى، واقترح “خروجا سياسيا” كوصفة لكسر رتابة السياسة بالمغرب.
وقال أحمد بوز، في مقال نشره على جريدة “العمق”، إن السياسة في المغرب تعاني من أزمة رتابة، حيث “تتكرر نفس الشعارات دون أثر ملموس”، واعتبر أن الأحزاب السياسية “فقدت الكثير من قدرتها على التعبئة، والبرلمان لا يثير اهتماما كبيرا لدى الرأي العام، والحكومة في الغالب تحكمها إكراهات تقنية واقتصادية داخلية وخارجية أكثر مما تحكمها رهانات سياسية كبرى”.
ومع مرور الوقت، يضيف بوز “تزايدت الهوة بين المجتمع وهذه المؤسسات، وصار المواطن ينظر إليها بريبة أو بلامبالاة”، داعيا إلى التوقف، في ظل هذا الوضع، عن الترويج لطقس الدخول السياسي كما لو كان احتفالا ديمقراطيا، “بل الأجدر هو التفكير في الخروج السياسي كإشارة إنذار وكأداة ضغط على النظام المؤسساتي والحزبي لكي يستعيد المصداقية.
وأوضح أن تكرار طقس الدخول السياسي بالمغرب بهذا الشكل جعله يفقد الكثير من معناه، حتى صار “أقرب إلى واجب بروتوكولي يؤديه الفاعلون أكثر مما هو محطة لمراجعة المسار السياسي وتقييمه”، مستنتجا أن الحاجة ماسة اليوم إلى قلب المعادلة والحديث عن الخروج السياسي بدل الدخول السياسي، أي “التفكير في الكيفية التي يمكن بها للمجتمع أن يخرج من رتابة السياسة السائدة ومن أفقها المسدود”.
وتابع أنه لا يقصد بالخروج السياسي دعوة للانسحاب من الشأن العام أو مقاطعته نهائيا، “بل بالعكس هو شكل من أشكال النقد الفعلي للمنظومة القائمة وطريقة لإعادة مساءلة معنى السياسة وجدواها، فإذا كان الدخول السياسي يعيد إنتاج نفس الملفات التي تحددها الحكومة والبرلمان، فإن الخروج السياسي يسعى إلى تجاوز هذه “الأجندة المعلبة” وطرح قضايا أخرى مسكوت عنها تماما أو لا تحظى بالانشغال اللازم”.
” قضايا تمس يوميات المواطنين ومشاغلهم العميقة لكنها لا تجد لها مكانا في النقاش الرسمي. بهذا المعنى يصبح الخروج السياسي نوعا من استعادة المبادرة ومحاولة لإعادة تعريف أولويات المجتمع خارج منطق الدولة والأحزاب والمؤسسات”، يسترسل بوز.
هذا الخروج السياسي، يقول الأستاذ الجامعي، قد يظهر أحيانا في ضعف الإقبال على المشاركة الانتخابية، الذي يعكس احتجاجا على ضعف البدائل المعروضة وعلى غياب الثقة في المؤسسات. وقد يتجسد في مبادرات سلمية أو مدنية تسعى إلى التعبير عن قضايا اجتماعية أو محلية معينة وإبرازها في النقاش العمومي.
وقد يتخذ هذا الخروج السياسي، يقول بوز، أشكالا أخرى أكثر هدوءا عبر شبكات التواصل أو الفضاء المدني، حيث تفرض مبادرات مختلفة أجندتها على الرأي العام وتدفع الفاعلين السياسيين إلى التفاعل معها. وفي جميع الأحوال، لا يتعلق الأمر بخيار سلبي أو استسلامي، بل هو فعل واع يترجم الرغبة في التحرر من قوالب السياسة التقليدية التي أثبتت محدوديتها، بحسب تعبيره.
وإذا كان الدخول السياسي في سنوات الانتخابات لا يعدو أن يكون سباقا محموما نحو استقطاب الأصوات وتوزيع الشعارات، يقول بوز، فإن الخروج السياسي يصبح ضرورة للتذكير بأن الديمقراطية لا تختزل في صناديق الاقتراع وحدها، وأن المشاركة لا يمكن أن تتحقق بمجرد تعبئة المواطنين ليوم التصويت ثم تركهم لمصيرهم باقي السنوات.
واستدرك بأن الخروج السياسي تكتنفه مخاطر، إذ يمكن أن يتحول إلى عزوف دائم يقود إلى فراغ سياسي تستفيد منه النخب القائمة لإعادة إنتاج نفسها بلا مقاومة. كما قد يتحول إلى لامبالاة عامة تفقد المجتمع القدرة على الضغط والتأثير، يحسب تعبيره.
لذلك، يضيف الاستاذ الجامعي، فإن فعاليته مشروطة بمدى قدرته على أن يكون خروجا واعيا منظما لا مجرد انسحاب فردي صامت. فحين يتحول الخروج إلى حركة مجتمعية ذات أهداف واضحة، فإنه يفتح الباب أمام تجديد الحياة السياسية وإعادة بنائها على أسس أكثر مصداقية. أما إذا بقي مشتتا وعشوائيا، فقد ينقلب إلى عامل ضعف إضافي يكرس الأزمة بدل أن يحلها.
واعتبر أن التفكير في الخروج السياسي ضرورة لقياس حدود السياسة الرسمية القائمة، “فمن دون هذا التفكير سنظل ندور في الحلقة نفسها: وعود انتخابية متكررة، دخول سياسي بروتوكولي، أزمات بنيوية لا تجد حلا، ثم إعادة إنتاج الوضع نفسه. في المقابل، الخروج السياسي يدعونا إلى طرح أسئلة أكثر جذرية: ما معنى التمثيل؟ ما جدوى البرلمان؟ كيف يمكن للمواطن أن يمارس مواطنته خارج التصويت؟ وأي أفق ديمقراطي نريده لمستقبل البلاد؟”.
ويبرز الخروج السياسي، يضيف كاتب المقال، أن السياسة لا تختزل في المؤسسات الرسمية وحدها، وأن المجتمع يملك دائما طرقا أخرى لإسماع صوته وإيصال رسائله. معتبرا أن الحقيقية لأي نظام سياسي تقاس بمدى الثقة التي يمنحها له المواطنون وبمدى قدرتهم على الشعور بأنهم جزء من اتخاذ القرار.
وشدد على أن الحديث عن الخروج السياسي ليس دعوة إلى هدم المؤسسات ولا إلى القطيعة مع الدولة، “بل إلى إعادة صياغة علاقة المجتمع بهما. إنها دعوة إلى كسر الرتابة التي جعلت الدخول السياسي موسما بلا معنى، وإلى استعادة المبادرة من القاعدة نحو القمة. فالمجتمع الذي يعرف كيف يخرج من السياسة الشكلية، هو نفسه الذي يعرف كيف يعيد إنتاج سياسة حقيقية تعكس حاجاته وتطلعاته بدل أن تفرض عليه من فوق”.
وخلص إلى أن الخروج السياسي محاولة لفتح أفق جديد في زمن انتخابي قد يغري بالعودة إلى نفس الطقوس القديمة، “وإذا كان الدخول السياسي هذه السنة سيعيد إنتاج نفس الخطاب المألوف، فإن الخروج السياسي يطرح بديلا للتفكير وللمساءلة، ولإعادة تخيل السياسة بما هي أداة للتغيير، لا مجرد مسرح للوجوه المألوفة والشعارات المكرورة”.