آخر الأخبار

القراءة المؤجلة والوحي القرآني .. الفجوة بين أمر "اقرأ" وتفشي الأمية

شارك

من اللافت أنّه رغم حضور القراءة بقوة منذ اللحظة الأولى للدعوة الإسلامية، بوصفها أول أمر إلهي في الوحي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، ظلّت القراءة والكتابة بين المسلمين محدودتين لعقود طويلة. وجه الغرابة الأول هو أن أهل مكة، وفق الروايات التراثية، لم يكن فيهم إلا عدد قليل يعرفون القراءة والكتابة. ولذلك، يبدو الأمر بالقراءة في تلك المرحلة، كأول آية، وهو أمر موجه إلى أهل مكة، غير مفهوم تماما.

هذا ما دفع بعض المفسرين إلى تأويل فعل “اقرأ” بأنه “التلاوة”؛ غير أنّ تتمة الآيات: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ تضيّق من هذا التأويل، إذ تشير بوضوح إلى فعل الكتابة، لا مجرد التلاوة من الذاكرة. ثم نجد سورة كاملة تحمل اسم “القلم”، وتفتتح بقسم صريح: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾. وتعود الإشارات إلى الكتابة والمداد في مواضع أخرى؛ مثل آية سورة الكهف: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾، وفي سورة لقمان: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾. هذا التكرار يكشف كيف أن القرآن رفع من شأن القلم والمعرفة المكتوبة، بل وضعهما في قلب رسالته الحضارية.

لكن على أرض الواقع، لا نجد أثرا لسياسة واضحة تنظم التعليم أو تنشر القراءة والكتابة، لا في مكة ولا في المدينة، لا زمن الرسول بعد استقرار الدعوة، ولا في عهد الخلفاء الراشدين. كل ما يروى لا يتجاوز خبر أسرى بدر الذين فدى بعضهم نفسه بتعليم عشرة من صبية المسلمين. ورغم دلالة هذه الحكاية على قيمة التعليم، فإنها تظل استثناءً معزولا؛ بل هي حكاية غريبة في ذاتها، إذ توحي بأن عددا كبيرا من الأسرى كانوا يعرفون الكتابة. وهذا يتعارض مع ما نُقل عن محدودية من يقرأ ويكتب في قريش، وكذلك يظهر الخبر أهمية تعليم صبية المسلمين؛ لكن لا يوجد أي خبر عن وجود ممارسة متواصلة لتعليم القراءة والكتابة.

والأغرب هو أنّ في الحيرة (العراق) قبل الإسلام مدارس يتعلم فيها الناس الكتابة (العربية والآرامية) تعليما نظاميا، سواء لتخريج كتبة الملوك أو رجال الدين أو المشتغلين بالتجارة. ومع ذلك، لم يُحتذَ هذا النموذج في المدينة لا في عهد الرسول ولا في عهد الخلفاء، رغم أن النص القرآني زاخر بالإشارات التي تمجد القلم والكتابة. ونعرف أن القرآن نفسه بقي متفرقا في الرقع والصحف والجرائد دون عناية كبيرة بتجميعه مصحفا إلا بعد استشهاد عدد كبير من حفظة القرآن في معركة اليمامة، وبصعوبة وافق أبو بكر على تدوين القرآن كاملا بعد إصرار عمر بن الخطاب ونفور أبي بكر من فعل أمر لم يفعله الرسول من قبل.

ولدينا من أخبار العرب الحكاية الشهيرة عن صحيفة المتلمس. فقد غضب عمرو بن هند ملك الحيرة على الشاعرين المتلمس وطرفة بن العبد، فكتب لهما رسالتين مختومتين أوهمهما أنهما جائزتان، وأمرهما بتسليمهما إلى عامله في البحرين. شك المتلمس في الأمر، وأراد فض الرسالتين؛ لكن طرفة امتنع، فافترقا. اعترض المتلمس غلاما (وبعض النسخ تقول امرأة) من عبد القيس في الطريق، وطلب منه قراءة ما في الصحيفة. فلما قرأها وجدها تحمل الأمر بقتله، فألقى بها المتلمس في النهر ونجا بنفسه هاربا إلى الشام. أما طرفة فقد مضى حتى بلغ البحرين بالرسالة التي تحمل أمر قتله، فقتل. والمفارقة هي أن المتلمس، وهو من إقليم البحرين أصلا؛ لكنه نشأ سنوات من حياته في مكة بين أخواله بني يشكر، لم يكن يعرف القراءة، بينما كان يعرفها غلام من عبد القيس، وهي قبيلة قريبة من البحرين، متصلة بالحيرة حيث وجدت مدارس التعليم.

حاول البعض تبرير هذه المفارقة بحجج تبدو منطقية للوهلة الأولى؛ لكنها تسقط عند أول فحص جدي لها، فقول بعضهم إن الأولويات العسكرية والسياسية حالت دون الاهتمام بالتعليم يجافي أبسط قواعد الاستراتيجية. فأي قائد يدرك أن الجيش المتعلم أقوى وأكثر فاعلية من الجاهل. القدرة على قراءة الخرائط، وكتابة التقارير العسكرية، وتنظيم سجلات الأسلحة والمؤن، وإدارة المراسلات بين الجبهات المختلفة… كل هذا يتطلب معرفة بالقراءة والكتابة؛ بل إن الحاجة العسكرية كانت ستكون دافعا إضافيا قويا لنشر التعليم، لا عائقا أمامه.

والقول بأن التقليد الشفهي القوي في المجتمع العربي كان كافيا ولا حاجة إلى الكتابة والقراءة يصطدم بحقيقة مركزية: إذا كان القرآن نفسه يضع القراءة والقلم في مقدمة رسالته الحضارية، فإن الاستمرار في الاعتماد على الشفهية وقوة الذاكرة وحدها يصبح تجاهلا صريحا وغريبا لهذا التوجيه الإلهي الأساسي.

أما من يقول إن الظروف الاقتصادية المحدودة لم تسمح ببناء سياسة تعليم منظمة فقول لا معنى له أمام واقع الغنائم التي تدفقت على المسلمين من الغزوات والفتوحات. الغنائم كانت وفيرة، والقدرة على استقدام معلمين من المناطق المتعلمة كانت متاحة تماما. حادثة أسرى بدر نفسها تثبت هذا بوضوح: إذا كان بالإمكان الاستفادة من معرفة الأسرى بالكتابة مقابل حريتهم، فبالأولى كان يمكن الاستفادة من معلمين أحرار مقابل أجور مناسبة؛ بل إن هذا كان سيحقق عوائد اقتصادية أكبر على المدى الطويل من خلال تحسين إدارة الدولة وتجارتها.

وأما القول بالتطبيق التدريجي للمبادئ القرآنية فهو حجة واهية، لأن القراءة ليست مبدأ ثانويا يمكن تأجيله؛ بل هي الأمر الأول في الوحي. إذا كان هناك شيء يستحق الأولوية والبدء الفوري، فهو هذا الأمر بالذات. والتدرج لا يعني التجاهل، بل يعني البناء المنهجي المتواصل.

تشير هذه المفارقة بين الدعوة القرآنية الصريحة لتعلم القراءة وبين الوضع على أرض الواقع إلى فجوة خطيرة بين النص وبين الممارسة العملية في أخطر المراحل التكوينية للحضارة الإسلامية. إذا كانت “اقرأ” هي البداية الحقيقية للرسالة الإلهية، فكيف لم تترجم إلى برنامج حضاري واضح ومؤسسي راسخ؟ وكيف اكتفي بالحفظ والمشافهة في مجتمع يتلقى وحيا يمجد القلم ويقدس الكتابة؟

وأمّا في زمننا فإننا نكرر دون توقف أننا “أمة اقرأ”، وأننا “خير أمة أخرجت للناس”؛ غير أن واقع حالنا، ويا للأسف، مزر، والقراءة آخر همنا. نردد الشعارات ونتغنى بالنصوص؛ لكننا نظل في أسفل السلم في معدلات القراءة والبحث العلمي والإنتاج المعرفي.

هكذا يتجلى التناقض وتتسع الفجوة: القرآن يضع القراءة والقلم في قلب رسالته الحضارية؛ لكن المسلمين، من الأوائل إلى المعاصرين، ظلوا يكتفون بالحفظ والترديد. ويبقى السؤال: كيف غابت القراءة، وهي أول أمر نزل من الوحي، عن أن تكون ممارسة مؤسسية راسخة منذ البدايات؟ وكيف نخرج من هذه الدائرة المفرغة التي تجعلنا نردد “اقرأ” ولا نقرأ؟

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا