آخر الأخبار

فصل الصيف يلفح الأجساد والأفكار .. ظلال ومظلات وأكاذيب وأشياء أخرى

شارك

ما الذي يكشفه الصيف حين يمد ألسنة ناره على الأجساد والأفكار؟ أهو زمن الاسترخاء أم زمن الانكشاف حيث لا يبقى للزيف مكان يختبئ فيه؟ وهل المظلة مجرد أداة للاحتماء من القيظ، أم استعارة تخفي أكثر مما تكشف؟ أليس الصيف مسرحا يضع فيه المجتمع أقنعته الخفيفة ليخفي ثقل الأوهام القديمة؟ وما جدوى الفلسفة إذا لم تجرؤ على تفكيك هذا الفصل اللاهث، حيث تتحول الظلال إلى استعارات، والحرارة إلى محك يفضح هشاشة الأكاذيب التي نسميها حياة يومية؟

الظل باعتباره ترفا صيفيا

حين يهبط الصيف على المدن، لا يعود الظل مجرد نتيجة طبيعية لحركة الشمس؛ ذلك أنه يتحول إلى عملة نادرة، وإلى نوع من الرفاهية التي لا يحصل عليها الجميع. الظل في الصيف ليس مساحة هندسية سوداء على الأرض بقدر ما هو حق إنساني مؤجل، وساحة صراع غير معلن بين الجسد وبين الحرارة، بين العابر الذي يسابق خطواته بحثا عن بقعة رحيمة وبين المقيم الذي يحتكر مكانه تحت شجرة وارفة أو مظلة مقهى.

في ثقافة الصيف، يصبح الظل لغة اجتماعية: من يملك مقعدا في ظل ثابت هو شخص مرفه، ومن يضطر إلى الجلوس تحت شمس عمودية يعلن فقره من دون كلام. حتى السياح في المدن الجنوبية يكتشفون سريعا أن الظل هو بنية تحتية غير مرئية، أهم من الطرق المعبدة.

الظل أيضا نوع من الفن: المصممون المعماريون يرسمونه بالزوايا والمشربيات، والباعة الجائلون يصنعونه بأقمشة ممزقة فوق عرباتهم، والعابرون يبتكرونه بأجسادهم حين يلتصقون بجدران البنايات العالية. في كل هذه الحالات، يتضح أن الظل ليس مجرد غياب للنور؛ بيد أنه حضور لوعي جديد: وعي بأننا كائنات هشة تحتاج دوما إلى حماية.

والأجمل هو أن للظل ذاكرة مشتركة؛ نتذكر أول يوم في المدرسة حيث اصطففنا في ساحة يغمرها حر يوليوز، كيف كنا نتزاحم تحت أية زاوية ظل صغيرة كأنها حضن أم خفي. نتذكر انتظار الحافلة في الظهيرة، كيف كنا نتحرك كل بضع دقائق لنتبع تحول الظلال مثل مؤمنين يطاردون معبودهم.

بهذا المعنى، يصبح الصيف مدرسة أخلاقية خفية: فهو يعلمنا أن الظل ليس مضمونا، وأن البحث عنه فعل مقاومة ناعمة، وأن الذين يجلسون مطمئنين في برودة المكيفات لا يعرفون أن هناك خارج جدرانهم أناسا يعيشون حياة كاملة تحت ديكتاتورية الشمس.

ليس الظل وهما بصريا ولا ترفا عابرا، إنه مكسب وجودي خفي؛ هو المسافة التي تزن كفة الصمود أمام كفة الانكسار، وتحول قسوة الصيف من قدر جحيمي إلى رواية قابلة للعيش.

رحلة الصندل

لا أحد يصدق أن قطعة جلد أو مطاط رقيقة، مفتوحة على الهواء، يمكن أن تختصر فلسفة كاملة في الحرية. الصندل في ثقافة الصيف ليس مجرد حذاء، إنه إعلان وجود، بلغة القدمين.

في تاريخه العميق، كان الصندل حذاء الفقراء والرحل، الحذاء الذي لا يفرض على القدم قيودا، ويتركها نصف عارية، تواجه العالم بخفة؛ لكنه مع الوقت تحول إلى أيقونة عالمية: من نعال الرهبان البوذيين إلى صنادل هيبيي الستينيات، وصولا إلى صنادل الماركات الفاخرة التي تعرض في واجهات باريس وميلانو كأنها تيجان للأقدام.

الصندل يفضحنا. من يلبسه يظهر ما يخفيه الحذاء: الأصابع، العظام، آثار المشي الطويل، تشققات الكعب. إنه أصدق من أية سيرة ذاتية مكتوبة؛ فقدمك حين تكشف تقول عنك أكثر مما تقول شهاداتك. في الصيف، يفرض الصندل شفافية إجبارية: لا يمكنك أن تدعي الانضباط وأظافرك متعبة، ولا أن تزعم الرفاه وقدمك متشققة. لكن في المقابل، يمنح الصندل إحساسا نادرا بالانعتاق. المشي به يذكرنا أن الأرض ليست عدوا ينبغي أن نضع بيننا وبينها طبقات من الجلد الصلب؛ ذلك أن المشي بالصندل هو نوع من المصالحة مع التراب، مع الحصى، ومع حرارة الأرصفة.

الأجمل هو أن الصندل يتنقل بين الثقافات بخفة أيضا: في الشرق يلبس في المساجد والبيوت، في الغرب على الشواطئ والرحلات، وفي المدن الكبرى صار رمزا لرفض الجدية المبالغ فيها، كأن مرتديه يقول: “قدماي في عطلة، حتى لو لم أكن أنا في عطلة”.

رحلة الصندل إذن هي رحلة الإنسان نفسه: من الفقر إلى الرفاه، من الضرورة إلى الموضة، من الحرج إلى الفخر. إنه حذاء الصيف الذي يعلمنا درسا بسيطا وعميقا: أن التحرر يبدأ من أبسط الأشياء، من ترك الهواء يمر بين أصابعنا، ومن الاعتراف بأننا نمشي إلى الحياة بأقدام عارية نسبيا، مهما كانت أسماء الماركات التي تغطيها.

الكتاب على الشاطئ

لا يقرأ الكتاب على الشاطئ دائما، لكنه يعرض. قد يكون أثقل من المناشف وأخف من القشعريرة الأولى عند ملامسة الماء؛ لكنه يظل إكسسوارا ثقافيا بامتياز. إن حمل كتاب إلى البحر يشبه ارتداء نظارات شمسية ضخمة: إعلان عن هوية أكثر من كونه ضرورة.

من يفتح كتابا على الرمل يعرف مسبقا أنه لن يقرأ سوى صفحة أو اثنتين، قبل أن تقطع تركيزه صرخة طفل أو رائحة شواء أو صوت الموج وهو يفاوض جسدا جديدا على الانغماس. القراءة على الشاطئ إذن ليست قراءة بمعناها التقليدي بقدر ما هي طقس اجتماعي: إثبات أن الفكر يمكن أن ينجو حتى في أقسى الظروف التافهة.

الأجمل هو أن هذا الكتاب يكتسب حياة جديدة بمجرد أن يوضع قرب البحر: صفحاته الملتوية من الرطوبة، حبات الرمل التي تختبئ بين فصوله، أثر الكريم الواقي من الشمس على غلافه. كل هذا يجعله كتابا فريدا، نسخة شخصية تماما لا يملكها أحد غير صاحبه. الكتاب الذي يعود من الشاطئ لا يعود كما ذهب: إنه يحمل أثر الصيف في جسده الورقي. هناك مفارقة لذيذة: من يقرأ فعلا على الشاطئ ينظر إليه بريبة، كأنه خائن للطقس الجماعي للهو، بينما من يكتفي بوضع الكتاب قربه يندمج بسلاسة في المشهد. الكتاب هنا ليس أداة للمعرفة، إنه زينة للهوية، إعلان صامت: “أنا لست مثلكم، عندي حياة فكرية، حتى لو لم أمارسها الآن”.

لكن ثمة حقيقة لا يمكن إنكارها: الكتاب على الشاطئ هو صورة عن حلم قديم للإنسان، أن يوفق بين اللذة والفكر، بين الماء والورق، بين الجسد والعقل؛ حتى وإن لم يقرأ، يظل وجوده هناك تذكيرا بأن الصيف ليس فقط حرارة وعرقا وصخبا، لعله ما يمكن أن يكون أيضا مساحة هشة لاحتمال التأمل.

الكتاب على الشاطئ لا يقاس بعدد صفحاته المقروءة، وإنما بما يخلفه من أثر عابر: جسد ممدد في العراء، موجة تنسحب في خجل، وكتاب نصف مفتوح يشبه وعدا تأجل اكتماله.

أخلاقيات المسبح

ليس المسبح في ثقافة الصيف مجرد حفرة ماء زرقاء بقدر ما هو مسرح مصغر للعلاقات الإنسانية. كل شيء فيه يدار بقواعد غير مكتوبة: أين تضع منشفتك، كيف تقفز إلى الماء، متى تفسح الممر، وكيف تبتسم أو تتجاهل الغرباء، كأننا أمام دستور خفي، لا تعلنه إدارة المسبح وإنما تفرضه نظرات الموجودين.

في المسبح، تتجلى ديمقراطية الجسد: الماء لا يفرق بين غني وفقير؛ لكنه يكشف سريعا الفوارق في الثقة بالنفس. ثمة من يقفز بقوة، كأنه يعلن سيادته على الفضاء المائي، وثمة من ينزلق بخجل من طرف الدرج، يحاول أن يصبح شفافا، وهناك أيضا من يحتكر الحافة لساعات كأنه يملكها، ومن يتصرف مثل شرطي أخلاق يراقب ملابس الآخرين وحركاتهم.

الأطفال في المسبح يمثلون الفوضى الأصلية: يصرخون، يرشون الماء، يسرقون كرات عائمة. الكبار يبتسمون مجاملة، لكن ابتسامتهم تخفي نزعة تأديبية: المسبح بالنسبة لهم فضاء يجب أن يبقى مرتبا، أما بالنسبة للصغار فهو مساحة للانفجار.

اللافت هو أن المسبح يفضح أيضا أشكال الحميمية: العشاق يمارسون لعبة الغطس المشترك، الأسر تستعرض لحظتها السعيدة بعدسة الهاتف، والأصدقاء يتبارون في القفز الجماعي. كل مجموعة تصنع قوانينها الصغيرة، كأن الماء مرآة تكشف عن طريقة عيشها خارج المسبح.

لكن المسبح ليس فردوسا؛ إنه أيضا مختبر للصراع: من يرش الآخرين عمدا، من يضع موسيقاه الخاصة، من يختطف العوامة الأخيرة، ومن يصر على السباحة في الخط السريع رغم بطئه. هنا تظهر أخلاقيات التفاوض: إما أن يتحول المسبح إلى جحيم مصغر، أو إلى واحة مشتركة يتعلم فيها الجميع معنى التعايش. المسبح في ثقافة الصيف اختبار صغير لمدى قدرتنا على احترام الآخر ونحن نصف عراة، نصف أحرار، ونصف أطفال من جديد.

الكرسي البلاستيكي الأبيض

لا شيء يختصر صيفنا مثل ذلك الكرسي البلاستيكي الأبيض؛ بسيط، رخيص، وهش، لكنه حاضر في كل مكان: من شاطئ مهجور إلى عرس شعبي، من سطح بناية إلى فناء قصر. إنه عرش الصيف الديمقراطي، يجلس عليه الجميع بلا استثناء: الوزير بعد خطابه، والعامل بعد جولة شاقة، والعروس لحظة التجميل، والطفل حين يقطر بقايا المثلجات.

هذا الكرسي هو أكثر الفلاسفة تواضعا: لا يحتج، لا يتباهى، لا يطلب الكثير. يتقبل ثقل الأجساد مهما كانت أحجامها، ولا يمانع أن يجر فوق الحصى أو يلقى في الماء. ومع ذلك، يتصدع بسهولة، كاشفا هشاشة كل جلوس مطمئن. الأجمل هو أن الكرسي البلاستيكي الأبيض يرفض الحدود الطبقية: قد تراه في أفخم حفلات الفنادق، كما قد تراه أمام بائع بطيخ على الطريق. في الحالتين يؤدي المهمة نفسها: توفير مكان مؤقت للجلوس. كأنه يقول: “الجسد واحد، مهما اختلفت الأزياء والديكورات”.

لكن في صمته هذا، يكمن لغز لاذع: لماذا، رغم قبحه وتواضعه، لم يهزم بعد أمام الكراسي المعدنية والخشبية؟ ربما لأنه يملك قوة الانتشار؛ إنه كائن فيروسي، يتكاثر بسهولة، يملأ المخازن والبيوت والشواطئ، ويعيد احتلال الفضاء كل صيف بلا مقاومة.

ليس الكرسي البلاستيكي الأبيض مجرد أثاث عابر، إنه أيقونة للزمن الصيفي: هش لكنه صامد، قبيح لكنه عملي، رخيص لكن لا يستغنى عنه. إنه صورة صريحة عن حياتنا نفسها: بسيطة، مؤقتة، وقابلة للانكسار في أي لحظة، ومع ذلك نستمر بالجلوس عليها وكأنها عرش أبدي.

ثقافة المظلة الشمسية

ليست المظلة الشمسية مجرد قماش ملون على عصا معدنية، إنها علم صغير يرفع فوق الرمال، يعلن أن هذه البقعة محتلة رسميا من قبل أسرة أو عشيرة أو حتى عاشقين هاربين. إنها ليست للحماية من الشمس بقدر ما هي حدود رمزية: كل مظلة ترسم دولة مؤقتة، لها سكانها وحقها في الأرض.

على الشاطئ، تتحول المظلات إلى خرائط سياسية: واحدة حمراء، أخرى زرقاء، ثالثة مخططة، كلها مصطفة في صفوف عشوائية، كأننا أمام نسخة ساخرة من الأمم المتحدة. الفارق أن الجلسات هنا لا تنتهي بقرارات، وإنما بفضلات بطيخ وألعاب رملية وصور جماعية مشوشة.

بهذا المعنى، تكشف المظلة أيضا عن طبائع أصحابها: هناك من يزرعها بعنف، وهناك من يغرسها برفق كمن يطلب إذنا من الرمل. هناك المظلة التي تصمد رغم الريح فتدل على عناد أصحابها، وتلك التي تتهاوى كل بضع دقائق لتفضح هشاشة علاقتهم بالتقنية وبالحياة.

ثم إن المظلة ليست بريئة: إنها أداة طبقية أيضا. فمظلة “السوبرماركت” الرخيصة شيء، والمظلة الأنيقة ذات العلامة الفاخرة شيء آخر، وبينهما مسافة ثقافية لا تقل عن المسافة بين الشاطئ الشعبي والشاطئ الخاص.

والأجمل هو أن المظلة تعلمنا درسا فلسفيا في التواضع: مهما كانت كبيرة أو جميلة، تظل عاجزة عن حماية الجسد كله.

الظل يتزحزح، الشمس تتسلل، والحرارة تذكرك أنك لست في مملكة كاملة، بقدر ما أنت مقيم في وهم صغير من البرودة. هكذا، تتحول المظلة الشمسية إلى أكثر من أداة: إنها بيان صيفي قصير عن الملكية، عن الهوية، عن حدود الجسد في مواجهة الطبيعة. وربما، لو تأملناها جيدا، لوجدنا أن كل حياتنا ليست سوى محاولات متكررة لغرس مظلات صغيرة في رمال لاهبة.

أكاذيب العطلة

تقدم العطلة الصيفية لنا بوصفها جنة موعودة: راحة، متعة، هروب من الروتين؛ لكن ما إن تبدأ حتى نكتشف أنها مجرد عمل مقنع، أصعب من العمل نفسه. الفرق الوحيد هو أننا ندفع ثمنه من جيوبنا بدل أن نتقاضى أجرا عليه. إليكم البيان:

الكذبة الأولى: “سنسافر لنرتاح”؛ السفر في الصيف ليس راحة، بقدر ما هو سلسلة من الحقائب المكدسة، والطوابير في المطارات، الصراخ في محطات القطار، والزحام على الطرقات الساحلية. ينتهي بك الأمر متعبا أكثر مما كنت في مكتبك، لكنك تبتسم في الصور كي تبرر الإنهاك.

الكذبة الثانية: “سنقترب كأسرة”؛ في الواقع، العطلة هي مسرح للمشاجرات الصغيرة: أين نجلس على الشاطئ، ماذا سنأكل، من ينام بجانب النافذة في الفندق. كل خلاف صغير يكبر تحت شمس حارقة، حتى يصبح أشبه بمحاكمة جماعية.

الكذبة الثالثة: “الصور دليل السعادة”؛ نلتقط مئات الصور على الشاطئ والجبال والمطاعم، لكن معظمها تمثيل مرتبك لفرح لم يحدث فعلا. هكذا، تتحول العطلة إلى حملة إعلانية شخصية على “إنستغرام”، أكثر منها تجربة حقيقية عشناها بكل جوارحنا.

الكذبة الرابعة: “سنعود متجددين”؛ الحقيقة أننا نعود إلى العمل ونحن أكثر إنهاكا، وقد أفرغنا جيوبنا وملأنا ذاكرتنا بمزيج مربك من الحر والزحام والبعوض؛ على أن التجديد الوحيد لا يحدث إلا في حسابات وكالات السفر وأصحاب الفنادق.

في النهاية، ليست العطلة الصيفية سوى كذبة جماعية ضرورية: نحن نعرف أنها متعبة ومكلفة ومليئة بالخيبات الصغيرة؛ لكننا نستمر في تصديقها عاما بعد عام، ربما لأنها تمنحنا وهما جميلا بأن الحياة ليست فقط دواما وضرائب وفواتير، بيد أنها قد تحمل في طياتها احتمال الهروب، حتى لو كان هروبا مرهقا.

لنتأمل، وإلى حديث آخر.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا