تشهد أقسام الموارد البشرية في عدد متزايد من الشركات العالمية تحوّلاً جذرياً في طريقة عملها، وسط تسارع الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي، التي باتت تضطلع بمهام طالما اعتُبرت حكرًا على العنصر البشري. هذا التحول، الذي رصدته صحيفة “فاينانشل تايمز” في تقرير مطوّل، يثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل الدور البشري في عمليات التوظيف، التدريب وإدارة الأداء، ويطرح إشكاليات تتعلق بالعدالة الوظيفية، حماية البيانات وتوازن القوى داخل المؤسسات.
ففي شركة “رينغ سنترال” الأمريكية، التي شهدت توسيعاً ضخماً لقسم الموارد البشرية خلال فترة الجائحة، انخفض عدد موظفي القسم إلى النصف تقريبًا في أقل من عامين. المسؤول عن القسم أكد أن بإمكانه مواصلة تقديم مستوى الخدمة نفسه، حتى في حال اضطراره لمزيد من الخفض، بفضل الاعتماد على أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل المساعد الآلي “رينغو”. هذه المرونة التقنية لا تعكس فقط التحولات داخل قسم الموارد البشرية، بل تمثل نموذجًا لما تشهده مختلف الأقسام الإدارية في الشركات الكبرى، التي تتلقى ضغوطًا مباشرة من الإدارات العليا لتقليص عدد العاملين وتعزيز الإنتاجية عبر الذكاء الاصطناعي.
ويبدو أن هذا التوجه يتجاوز التجريب إلى الترسيم، إذ أظهرت بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي أن أكثر من 9 في المئة من الشركات باتت تعتمد بالفعل على الذكاء الاصطناعي في إنتاج السلع والخدمات، وهي نسبة مرشحة للارتفاع سريعًا. وفي هذا السياق، أعلنت مسؤولة في بنك “جي بي مورغان” أن قسم العمليات التابع للمصرف يستخدم بالفعل أدوات ذكاء اصطناعي في مكافحة الاحتيال ومعالجة البيانات، متوقعة أن يتراجع عدد الموظفين في القسم بنسبة 10 في المئة خلال خمس سنوات، رغم النمو المتوقع في حجم الأعمال.
وتطرح هذه التغيّرات تحديًا مركبًا أمام المسؤولين التنفيذيين في الموارد البشرية، الذين يجدون أنفسهم بين مطرقة الأوامر الاستراتيجية لخفض التكاليف، وسندان المخاوف من تفكيك البنية التشغيلية الحيوية لأقسامهم. بعضهم يخشى أن تتحول أدوات مثل “رينغو” إلى بديل مباشر للعنصر البشري في إدارة شؤون الموظفين، دون منح وقت كافٍ لتقييم النتائج أو التأكد من العدالة الوظيفية.
وفي سياق موازٍ، يتساءل خبراء في شؤون العمل عمّن سيجني فوائد الارتفاع المتوقع في الإنتاجية: هل ستكون أرباحًا رأسمالية تعزز مكافآت التنفيذيين، أم ستنعكس على الموظفين عبر تحسين الأجور وتقليص ساعات العمل؟ هذا الجدل أعاد طرح سؤال قديم بصيغة جديدة: هل الموارد البشرية أداة في يد الإدارات العليا، أم حامية حقيقية لحقوق العاملين؟
وبينما تتحوّل بعض أقسام الموارد البشرية إلى ساحات اختبار لبرمجيات الذكاء الاصطناعي، تُبدي جهات تشريعية وتنظيمية مخاوف متزايدة من الأثر القانوني والمعنوي لهذه الأدوات. إذ تنظر بعض القوانين، مثل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي، إلى أدوات التوظيف الآلي على أنها عالية الخطورة، نظرًا لتأثيرها المحتمل على مستقبل الموظفين وحقوقهم. أما في ولاية كاليفورنيا الأمريكية فتتم دراسة قانون جديد يمنع استخدام خوارزميات آلية لاتخاذ قرارات الترقية أو الفصل دون تدخل بشري.
في المقابل، تعتمد شركات مثل “آي بي إم” بشكل متزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة استفسارات الموظفين، إذ تتم معالجة أكثر من 94 في المئة من هذه الاستفسارات بواسطة نظام . “AskHR” كما بدأت بعض الشركات في استخدام روبوتات محادثة لإجراء مقابلات مبدئية عبر الهاتف، مما يوفر آلاف الساعات من عمل الموارد البشرية سنويًا، على غرار ما تقوم به شركة “فنداستا” الكندية. غير أن بعض هذه الأدوات أصبحت بحاجة لمواجهة ذاتها، إذ باتت تُستخدم أيضاً لرصد طلبات عمل مصاغة بواسطة برامج ذكاء اصطناعي من قبل المرشحين أنفسهم.
ويبدو أن خفض التكاليف ليس هو الدافع الوحيد وراء هذا التوجه، فوفق تقرير صادر عن “ماكنزي” جاءت الموارد البشرية ضمن أول أربعة أقسام أعلنت عن تخفيضات ملموسة في النفقات بفضل استخدام الذكاء الاصطناعي، رغم أنها في الوقت نفسه من أقل الأقسام استخدامًا منتظمًا للتقنية. وفي شركة “موديرنا” للأدوية تم دمج قسم الموارد البشرية مع قسم التكنولوجيا، في إشارة إلى تلاشي الحواجز التقليدية بين الموارد والأنظمة الرقمية.
لكن هذه الموجة التقنية لا تخلو من تحديات قانونية. ففي الولايات المتحدة رفع موظف سابق دعوى قضائية ضد شركة “وورك داي”، متهمًا إياها باستخدام خوارزمية تميّز ضده على أساس العرق والعمر والإعاقة، بعدما رُفضت طلباته لأكثر من 100 وظيفة. ورغم أن الشركة نفت التهمة، فإن القضية أثارت قلقًا واسعًا في قطاع تقنيات التوظيف.
وفي الوقت الذي تظهر مؤشرات متباينة حول أثر الذكاء الاصطناعي على التوظيف، تؤكد بيانات موقع “إنديد” لتوظيف الكفاءات أن معدلات التوظيف في أقسام الموارد البشرية انخفضت في عدد من الاقتصادات الكبرى بعد إطلاق برنامج “تشات جي بي تي”، مما يصعب الفصل بين ما هو انعكاس للذكاء الاصطناعي وما هو جزء من التباطؤ الاقتصادي العام.
ومع أن بعض الشركات ترى في الذكاء الاصطناعي فرصة لتطوير طبيعة العمل وليس إلغاءه، تظل الشهادات الميدانية متفاوتة. فقد خفّضت شركة “آي بي إم” عدد أنظمتها المستخدمة في إدارة الموارد البشرية بنسبة كبيرة، وقلصت نفقاتها في هذا المجال بأكثر من 40 في المئة منذ عام 2020. ومع ذلك يشير بعض الموظفين إلى أن التكنولوجيا سمحت لهم بالتركيز على مهام أكثر استراتيجية، بعدما تخلصوا من عبء المهام الإدارية اليومية.