آخر الأخبار

إثنوغرافيا "آيت وراين" بين الأرض والثقافة .. ثمرة عمل ميداني يفوق 20 سنة

شارك

صدر حديثاً للباحث عبد الله هرهار، أستاذ بشعبة الأنثروبولوجيا بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بمدينة القنيطرة، كتابٌ جديدٌ بعنوان “إثنوغرافيا آيت وراين، الأرض والثقافة”، وهو ثمرة عمل ميداني ومعرفي امتد لأكثر من عشرين سنة، يسعى من خلاله صاحبه إلى الغوص في عالم هذه القبيلة، عبر مقاربة شاملة تجمع بين الثقافة والعادات وأنماط العيش.

الكتاب رأى النور ضمن منشورات “مركز روافد للدراسات والأبحاث في حضارة المغرب وتراث المتوسط”، ويقع في 265 صفحة من الحجم المتوسط، ويتزين غلافه بزربية نسجتها أيادي نساء أمازيغيات من آيت وراين.

ويعُتبر الكتاب الأول من نوعه لأنه يتعلق بقبيلة محددة، وهو عبارة عن بحث من طبيعة إثنوغرافية، ولذلك يعتبر بحثاً نادراً، بحسب تقديم للباحث والأكاديمي المغربي محمد مزوز، أستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط، الذي أضاف أن “الباحث ينتمي إلى القبيلة عينها إلا أنه عاد إليها بعُيون مغايرة وآذان مختلفة مع ما يقتضيه ذلك من وضع مسافة بين الذات والموضوع”.

جهد علمي متميز

يركز الكتاب على منطقة تاهلة الواقعة في الجهة الشمالية الشرقية لجبال الأطلس المتوسط، ضمن النفوذ الترابي لإقليمي تازة وصفرو. وتمتد منطقة تواجد قبائل آيت وراين على حوالي 2500 كيلومتر مربع، وجغرافياً تستقر جنوب ممر تازة وتمتد أراضيها من وادي إيناون في الشمال الغربي إلى وادي ملولو، وتحد جنوباً بجبال بويبلان وبوناصر.

ويتجاوز الكتاب الطرح الأكاديمي الجاف، إذ يدمج السرد الوصفي بالملاحظة الميدانية، فيُعطي للأحداث والأماكن والطقوس حياة محسوسة. وقد حرص الكاتب على التقاط التفاصيل الصغيرة التي تُشكل ملامح الثقافة المحلية: إيقاع الخطو في رحلات الرعي، لغة الألوان في النسيج، الكلمات التي تسبق الطقس أو تفتتح الاحتفال، فضلاً عن الروائح التي تفوح من مطابخ الأعراس والمواسم.

في تقديمه يصف الأستاذ مزوز الكتاب بأنه “جُهد علمي متميز، يجمع بين تنوع الموضوعات وغناها، حيث يتناول الكاتب مجالات متشابكة، من سياسة الأرض وروحها الاحتفالية، مروراً بثقافة الرعي والفخار والنسيج، وصولاً إلى السحر والمعتقدات والطقوس، وانتهاءً بذاكرة الغذاء”، ثم بيان حول ساكنة الجبال.

ويؤكد مزوز على الصعوبات التي واجهها المؤلف، سواء في غياب الدعم المؤسسي أو في تعقيدات البحث الميداني، مشيداً بعزيمة الباحث في مواجهة هذه التحديات، وكان أصعبها معاندة الذات كي تتخلى عن بداهتها، لأن الكاتب كان يعمل “إثنوغرافياً في عقر داره”.

كتاب بروح الميدان لا بروح المكتب

جاء في تقديم الكتاب أن “هذا العمل شجاعٌ في زمن تراجع البحث الميداني لحساب الدراسات المكتبية”؛ فقد اختار الكاتب أن يضع نفسه في قلب المجتمع المدروس، وأن يعيش تفاصيل الحياة اليومية لأهالي آيت وراين، متحملاً مشقة التنقل، وصعوبة الوصول إلى بعض المناطق، ومواجهة تحفظ السكان في البداية قبل كسب ثقتهم؛ ولذلك قال عنه أستاذ الفلسفة مزوز: “هذا كتاب مكتوب بروح الميدان لا بروح المكتب، وهو ما يمنحه حياة ومصداقية”.

يمزج الكاتب عبد الله هرهار بين الوصف الدقيق والتحليل الاثنوغرافي، فيُعيد صياغة المشهد اليومي وكأنه لوحة فسيفسائية: من رائحة الخبز الطازج في الصباح، إلى التجمعات التقليدية، إلى أصوات “أحيدوس” التي ترتفع ليلاً، إلى مشاهد الغابة في بداية الخريف؛ فهو لا يكتفي بتوثيق الطقوس، بل يربطها بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها المنطقة.

وينقسم المؤلف إلى عشرة فصول، تبدأ بسياسة الأرض وسبل التنمية، وتستعرض الخصائص الطبيعية والبشرية، والعلاقة الروحية والاقتصادية بالأرض. يلي ذلك فصل حول الغابة وسبل الانتفاع، ثم ثقافة الرعي وما تحمله من رموز الانتقال بين الترحال والاستقرار.

وفي فصل الفخار يتحدث الكتاب عن رمزيته الأسطورية ووظيفته العملية ويرصد مساره من التراب إلى صناعة الأدوات التي كانت صناعة نسائية بامتياز، بينما يأخذنا فصل الزربية إلى عوالم الألوان والنقوش. من هناك يعبر المؤلف إلى طقوس السحر وسلطان القداسة، قبل أن ينتقل إلى إيقاعات “أحيدوس” كطقس يحكي المعركة، وصولاً إلى “تزريبت ن الرما” كشكل تنظيمي تقليدي، ثم ذاكرة الاغتداء التي يصف فيها التجربة الاغتذائية المحلية بهدف الكشف عن الفعل الإنساني المرتبط بعادات الطعام وتحليل مغزاه.

مصدر الصورة

الانتقال من البداهة إلى الغرابة

“لم يكن الكتاب وصفاً خارجياً لحياة آيت وراين، بل شهادة داخلية، كتبها من عاش بينهم وشاركهم تفاصيل حياتهم، من طقس أحيدوس في ليالي الصيف، إلى موسم جني النباتات الطبية في بدايات الخريف”، بحسب تقديم الأكاديمي مزوز، ذاكراً أن “الصعوبة تكمن في كون الكاتب ابن المنطقة وكان عليه الانتقال من البداهة إلى الغرابة والتخلص من الذاتية والنظر بموضوعية في تجليات عيش الإنسان”.

في فصل “سياسة الأرض وسبل التنمية” يصف هرهار الأرض بأنها “كائن حي”، لها روحها الاحتفالية وذاكرتها الخاصة. وفي الغابة وسبل الانتفاع يلتقط مشاهد من حياة الناس بين الأشجار والنباتات العطرية والطبية؛ أما عبر ثقافة الرعي فيأخذ القارئ إلى مسارات القوافل ومواسم التنقل بين المراعي، حيث تتقاطع الأسطورة بالمعيش.

سر قوة هذا الكتاب، كما يراه مزوز، أن هرهار لم يكتب كزائر عابر، بل كشخص تسكنه روح تلك الأرض وجبالها، فهو يشارك أهلها تفاصيل حياتهم… “لم يكتف بوصف الزرابي أو طقوس أحيدوس، بل عاشها، وشم رائحة الخبز وتذوق الأطباق الجماعية التي تُطهى في المواسم”. وبذلك يكون هذا الكتاب إضافة نوعية للمكتبة الأنثروبولوجية المغربية، توثق جانباً من التراث اللامادي الأمازيغي، وتمنح صوتاً لأرض مازالت تحفظ توازنها بين الحداثة والجذور.

هرهار: كتبتُ بحب وشغف

في أحد لقاءات توقيع كتابه الجديد الشهر الماضي بجماعة الزراردة، إحدى مناطق تركز أهالي آيت وراين، قال عبد الله هرهار في كلمة مُؤثرة: “الكتاب له ميزة بالنسبة لي لأنه كُتب بشغف وحُب، والآن إذا جاءت الموت فمبرحباً بها”، في إشارة إلى أنه حقق إنجازاً كبيراً وأدى ديناً عظيماً تجاه منطقته.

وأشار هرهار إلى أن هذا الكتاب كان حلماً راوده منذ قرابة العقدين، وأضاف: “هو الذي قادني إلى الفلسفة أولاً كتكوين ثم إلى السوسيولوجيا وأعادني إلى الإثنولوجيا”، قبل أن يُشير إلى صعوبة الحفاظ على الحياد في عملية الكتابة، وزاد: “أنا ابن المنطقة، ترعرعت ولعبت ونمت وأكلت وفرحت وبكيت هنا، كيف لي أن أنفصل عما عشته هنا؟ والعلم لا يظهر إلا مع الغرابة، أي التخلص من الألفة، لذلك فإن العمل الإثنولوجي صعب جداً. وقد فاقت مدة اشتغالي على هذا العمل عشرين سنة إن لم أقل 25 سنة”.

شغف هرهار بالعلوم الاجتماعية جعله أحد أبرز المُساهمين في إحداث أول شعبة للأنثروبولوجيا في المغرب بجامعة القنيطرة، ويدعو بشدة إلى خروج كل من “الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية بصفة عامة، بأُطرها النظرية ومفاهيمها ومناهجها، من الدائرة الأكاديمية الضيقة إلى عموم القراء”، مؤكداً أن “ميزة البحث الإثنولوجي أنه يعتمد على الوصف المكثف، والمفاهيم في هذه الحالة تولد وتظهر من المعاينة الدقيقة لظاهرة من الظواهر؛ أما الأنثروبولوجيا فهي مستوى ثان يمكن وصفه بالمستوى الفلسفي المتأمل في التجربة الوصفية لاستخراج مفاهيم صادقة ومعبرة عن حقيقة ما وصفناه لنصل إلى مستوى التأويل”، بحسبه.

واختتم الباحث كتابه بـ”بيان من أجل ساكنة الجبال”، يترافع فيه من أجل المجال الترابي الذي درسه، حيث قال إنه رغم أهمية الجبل على مستوى الخريطة الوطنية ووظيفته الاقتصادية والبيئية وبُعده التاريخي والثقافي والاجتماعي فقد مسه نوع من الإهمال والتهميش، تسبب في الهجرة القروية وتفاقم المحيط البيئي.

البيان دعا إلى تدعيم الاستقرار في هذه المنطقة وباقي المناطق الجبلية، وتحسين ظروف العيش التي تضمن كرامة ساكنة الجبال، من خلال توفير الخدمات الأساس وفك العزلة، والرفع من أداء الأنشطة الاقتصادية، كالزراعة وتربية الماشية والنحل، واستغلال معقلن للغابة، والبحث عن مرتكزات جديدة للتنمية، قبل أن يؤكد على ضرورة طرح سؤال الأرض موضوعاً لنقاش وطني، معتبراً أن تأجيل ذلك هو صمت إزاء قنبلة اجتماعية حقيقية.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا