تزايدت في السنوات الأخيرة إعلانات براقة تروج لزراعة الأسنان في تركيا كحل “سحري” وسريع وبأسعار تنافسية، ما أغرى آلاف المغاربة بحجز تذاكر طيرانهم بحثاً عن ابتسامة هوليوودية. لكن خلف هذه العروض المغرية تكمن حقيقة أكثر تعقيداً يحذر منها أخصائيو الأسنان في المغرب، وعلى رأسهم الدكتور هشام المنتصر، طبيب أسنان أخصائي اللثة وزراعة الأسنان الذي يدق ناقوس الخطر حول العواقب الصحية والمادية لهذه المغامرة غير محسوبة النتائج.
يروج المسوقون لزراعة الأسنان في الخارج أنها إجراء بسيط يمكن إنجازه خلال عطلة لا تتجاوز أسبوعاً، لكن الدكتور هشام المنتصر يوضح أن هذا التصور بعيد كل البعد عن الواقع الطبي، قائلا ضمن حديث مع هسبريس: “زراعة الأسنان ليست عملية تجميلية بسيطة، بل هي تدخل جراحي معقد يتطلب شروطاً صارمة. في كثير من الحالات يعاني المريض من مضاعفات تستدعي عمليات إضافية لترميم العظام (greffe osseuse) أو رفع الجيوب الأنفية. هذه الإجراءات تحتاج وقتاً للشفاء لا يمكن اختصاره في بضعة أيام”.
ويضيف المنتصر أن المريض قد يحتاج إلى أشهر بين مرحلة زرع الغرسة المعدنية والمرحلة النهائية لتركيب التاج، وهو ما تتجاهله العروض السياحية التي تضغط كل شيء في جدول زمني غير واقعي، ما يرفع من خطر فشل العملية والتهاب الأنسجة المحيطة بالزرع، وزاد: “سوق زراعة الأسنان في المغرب منظم ويخضع لرقابة صارمة تضمن الجودة وحماية المستهلك، على عكس ما يحدث في بعض العيادات بتركيا التي تستغل الانفتاح التجاري وتقدم خدمات بأسعار مغرية، لكنها تفتقر في كثير من الحالات إلى الجودة الطبية الحقيقية. وقد صادفتُ حالات عديدة لمرضى عادوا من هناك يعانون انتفاخات وتعفنات حادة، ما يضطر الأطباء في المغرب إلى إزالة ما تم زرعه وإعادة العلاج من جديد، الأمر الذي يكلف المريض وقتاً وألماً وأموالاً إضافية”.
من أبرز المخاطر التي يسلط عليها المنتصر الضوء فوضى العلامات التجارية للمستلزمات الطبية المستخدمة. ويشرح الدكتور أن سوق زراعة الأسنان عالمي، وأن العلامات التجارية الرائدة والمعتمدة علمياً أسعارها متقاربة في جميع أنحاء العالم.
وتابع المتحدث ذاته: “هناك مئات أنواع الزرعات التي تحمل علامات تجارية مختلفة، بحيث كل علامة تجارية هي عبارة عن نظام قائم بذاته ومختلف عن الباقي؛ بمعنى أن جميع الأدوات المستعملة في تثبيت الزرعة في العظم وفي وقت لاحق تثبيت السن فوق الزرعة، أو أي تدخل خاص بها، هي حصرا خاصة بالعلامة التجارية نفسها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال لأدوات علامة تجارية أخرى أن تحل محلها”.
وأوضح الطبيب المختص ذاته أنه “حينما يأتي مريض من الخارج بزرعة من علامة تجارية غير معروفة أو غير متوفرة في المغرب يجد الطبيب نفسه عاجزاً عن التدخل لإصلاح أي خلل، لأنه ببساطة لا يملك الأدوات المناسبة لفكها أو التعامل معها”، مردفا: “عندما يستفيد المراجع من زراعة الأسنان في عيادة معينة فإنه يصبح مرتبطا إلى حد كبير بهاته العيادة، ومن الصعب بمكان التعامل مع عيادة أخرى، أو بمعنى أدق مع طبيب آخر، لأنه بكل بساطة عليه أن يكون ملما بنوع الزرعة المثبتة، ومن ثم البحث عن طبيب يشتغل بالعلامة التجارية نفسها، ناهيك عن تفاصيل أخرى تتعلق بخصوصية كل حالة على حدة”.
هذا الوضع يحول المريض إلى ضحية، فإما أن يتعايش مع مشكلته، أو يضطر لإجراء عملية جراحية جديدة ومكلفة لإزالة الزرعة القديمة بالكامل واستبدالها بنظام معتمد، ما يضعه في دوامة من التكاليف والألم تفوق بكثير ما كان سيتحمله لو أجرى العملية في بلده منذ البداية.
“مجاناً”، “شامل كل شيء”… كلمات رنانة تُستخدم في الإعلانات، لكنها تخفي تكاليف باهظة غير مباشرة. فالمريض الذي يعود من الخارج بمضاعفات يجد نفسه أمام فاتورة مزدوجة: تكلفة العملية الأصلية في الخارج، وتكلفة إصلاح المضاعفات في المغرب، التي غالباً ما تكون أكثر تعقيداً وتكلفة من العملية الأولى.
ويؤكد الدكتور المنتصر أن العديد من الحالات التي يستقبلها في عيادته هي لمرضى عائدين من الخارج، انتهى بهم الأمر إلى دفع أموال إضافية طائلة لمعالجة الالتهابات وفشل الزرعات، ما يثبت أن التوفير المبدئي المزعوم لم يكن سوى وهم.
وواصل الطبيب ذاته: “عندما يقوم المراجع بالاستفادة من زراعة الأسنان فإنه يكون مطالبا بزيارة الطبيب الذي قام بتقديم العلاجات بشكل دوري، حيث يقوم بإزالة الجسور أو الأطقم المثبتة فوق الزرعات وتنظيفها ثم إعادة تثبيتها.
وكذلك فإن حدوث أي مشكل مهما كان بسيطا يستدعي زيارة عاجلة للطبيب، وهو الأمر الذي يقتضي أن يكون المراجع قريبا من الطبيب، أو أن يكون الطبيب متواجدا بمكان يتردد عليه المراجع باستمرار لمآرب أخرى، كما هو الحال بالنسبة للجالية المقيمة بالخارج، التي تتردد على زيارة أرض الوطن بشكل منتظم، وبالتالي فلا ضير أن يتلقى أفرادها علاجاتهم في المغرب”.
يختتم المنتصر حديثه بدعوة المواطنين إلى التفكير بعقلانية قبل اتخاذ قرار السفر للعلاج، فزراعة الأسنان ليست سلعة يمكن شراؤها بناءً على السعر الأدنى، بل هي استثمار طويل الأمد في صحة الفم. يجب على المريض أن يدرك أن المتابعة الدورية مع الطبيب الذي أجرى العملية جزء لا يتجزأ من نجاحها، وهو ما يستحيل تحقيقه عند السفر آلاف الكيلومترات.
خلاصة القول إن البحث عن الجودة والخبرة والمتابعة الطبية المستمرة يجب أن تكون له الأولوية على حساب البحث عن أرخص سعر، لأن التكلفة الحقيقية لا تقاس فقط بما يتم دفعه في البداية، بل بما يمكن أن يترتب على الاختيارات الخاطئة من أضرار صحية ومادية في المستقبل.
وأكد المتحدث أن “التواصل بين الطبيب والمراجع يعتبر عاملا مهما يساهم في بناء الثقة بينهما، إذ غالبا ما تكون لطبيب الأسنان علاقة خاصة مع مرضاه بخلاف تخصصات أخرى بحكم تكرار المواعيد، وكذلك لأنه غالبا ما يكون طبيب جميع أفراد الأسرة أو العائلة”، وزاد: “تشكل هذه العلاقة المميزة نوعا من الضغط الإيجابي الذي يحفز الطبيب على تقديم خدمات ذات جودة عالية. هذه العلاقة المميزة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنشأ بين طبيب في عيادة تركية ومراجع مغربي عابر لا يعدو أن يكون مجرد رقم في إطار عملية تجارية محضة”.
وخلص المختص إلى القول: “ليست المشكلة في تركيا كدولة، فهناك عيادات تركية محترمة تقدم خدمات بمستوى أوروبي وبأسعار مرتفعة، لكن الإشكال يكمن في العيادات التجارية التي تستقطب المرضى الأجانب بإعلانات مضللة. وزراعة الأسنان تبقى من أدق وأصعب العمليات التي تتطلب وقتاً وخبرة ومعايير صارمة، وهو ما يستدعي التفكير ملياً قبل اتخاذ قرار العلاج خارج المغرب”.