آخر الأخبار

صيف الأغنياء يقابله صيف الفقراء.. العطلة بالمغرب مرآة لفوارق اجتماعية صارخة - العمق المغربي

شارك

مع قدوم فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، تتحول الحياة اليومية في المملكة المغربية، إذ تصبح المدن الساحلية التي حباها الله بشواطئ ممتدة ومياه مالحة ورمال ذهبية، قبلة لملايين الأسر الباحثة عن نسمة هاربة من حر الصيف ولهيب المدن الداخلية.

لكن هذه الهجرة الجماعية نحو البحر، وإن بدت في ظاهرها طقوس استجمام موسمية، فإنها في باطنها تفضح هشاشة الواقع الاجتماعي وتسلط الضوء على تباينات فاضحة في القدرة على الولوج إلى أبسط مظاهر “الترفيه” والراحة، حتى لو كان ذلك على رمال بحرية مشاعة يفترض أن تكون في متناول الجميع.

فبمجرد أن يحل شهر يوليوز، تمتلئ المناطق الساحلية عن آخرها، وتستنفر الفنادق المصنفة والمطاعم والمقاهي والمراكز التجارية الكبرى، لإطلاق العنان لموسم الصيف، عبر عروض مغرية ومهرجانات صاخبة وملصقات إشهارية تستعرض رفاهية العطلة، وكأنها متاحة لكل المواطنين دون استثناء. لكن الحقيقة غير ذلك تماما.

في المدن الساحلية الكبرى، مثل أكادير، طنجة، الحسيمة، الجديدة، سيدي إفني، والدار البيضاء، يتجسد التناقض الصارخ على الشواطئ الممتدة، تصطف الأسر المحظوظة، تحمل المظلات الملونة والكراسي القابلة للطي، وعلب المشروبات الباردة، وألعاب الأطفال البحرية، وكأنها تعيش عالما لا يمت بصلة للعالم الآخر الذي يقبع خلف الكثبان الرملية، عالم الأسر المهمشة التي لا تجد حتى ما يكفي لوجبة إفطار بسيطة.

وراء هذه الصورة “البراقة”، تخفي الرمال الذهبية قصصا كثيرة لمواطنين لم يستفيدوا من “العدالة الترفيهية”، إذا صح التعبير. آلاف الأسر المغربية، خصوصا تلك القادمة من أحياء شعبية أو قرى نائية، تجد نفسها مجبرة على قضاء عطلة الصيف في منازلها، أو في أفضل الأحوال، تكتفي بنزهة خاطفة إلى الشاطئ، دون قدرة على تحمل تكاليف النقل أو الطعام أو حتى مظلة تقيها من الشمس.

بعيدا عن الفنادق والمطاعم، هناك شريحة واسعة من المغاربة ترى في الصيف فصلا مريرا لا يحمل معه إلا مزيدا من الأعباء. فالعطلة الصيفية، بدل أن تكون مساحة للراحة النفسية والجسدية، تتحول إلى اختبار قاس لقدرة الأسر على الصمود وسط غلاء المعيشة، وتكاليف الدراسة المقبلة، وحاجيات الأطفال المتزايدة.

على أرض الواقع، يبدو الصيف المغربي مقسما إلى عالمين: عالم يرتاد المسابح الخاصة والمنتجعات السياحية، ويملأ إنستغرام وتيك توك بصور السهرات والرحلات البحرية، وآخر يرزح تحت وطأة الحاجة، مكتفيا بالمشاهدة من خلف الشاشات أو من زوايا الأرصفة.

فصل لا يرحم

على بعد أمتار فقط من مياه شاطئ عين الذئاب بالدار البيضاء، لا يشبه أمين، ابن الرابعة عشرة، أولئك الأطفال الذين يتقاذفون كرات الشاطئ أو يسبحون بحرية تحت مراقبة ذويهم.

أمين يحمل في يده اليمنى كيسا بلاستيكيا فيه علبتا بسكويت، وفي اليد الأخرى علبة من الحلوى العودية، يعرضها على المارة والمصطافين، وكله أمل أن يعود في المساء ببعض الدراهم التي ستساعد أسرته في شراء مستلزمات الدخول المدرسي.

في حديثه الحزين، قال: “هذه الخدمة مفروضة عليّ، ماشي اختيار. والدي مريض، وأمي كتخدم بعض المرات في البيوت. أنا الكبير، خاصني نعاونهم.”

كلمات أمين تلخص واقعا يعيشه آلاف الأطفال المغاربة، ممن تسلب منهم براءة الطفولة لصالح أعباء تفوق أعمارهم. لا وقت لديهم للعب أو الترفيه، فكل دقيقة تقضيها أقدامهم في التنقل بين المصطافين قد تساوي درهما، وكل درهم هو أمل في دفاتر، أقلام، أو حتى قطعة خبز.

ما يزيد من ألم أمين، وغيره من أبناء الطبقات الشعبية، هو التفاوت الصارخ الذي توثقه منصات التواصل الاجتماعي. “تيك توك” و”إنستغرام” صارا كتابًا مصورا لفوارق لم تعد خفية.

قال أمين بصوت خافت: “الإنترنت كيبين لينا الحياة ديال ولاد الناس، وكيخلينا نحسو أننا مختلفين بزاف. أنا كنشوف دراري في عمري كيسافرو، كيمشيو للبحر، وكيشربو فكوفيات غالية، وأنا كنبيع بسكويت”، يضيف المتحدث.

وأشار إلى أنه “رغم المشاريع الاجتماعية التي أطلقتها الحكومة، من دعم مباشر، وبرامج الحماية الاجتماعية، وتحسين الدخل، لا تزال الفوارق الاجتماعية حاضرة بقوة، ولا تزال الطبقات الفقيرة تكافح يوميًا من أجل البقاء، لا الاستجمام”.

واستفسر أمين قائلا: هل من المنصف أن يتحول الحق في الاستجمام إلى امتياز طبقي؟ ألا يحق لكل مواطن، بصرف النظر عن دخله، أن يحظى ببعض الراحة النفسية في فصل الصيف؟ ألا يجدر بالدولة أن تعيد النظر في مفهوم “السياحة للجميع”، من خلال توفير فضاءات مجانية آمنة، أنشطة موجهة للأطفال من الفئات الهشة، ودعم مباشر لقضاء العطلة بالنسبة للأسر محدودة الدخل؟

عبء ثقيل على الأسر الهشة

يجمع عدد من المراقبين الاقتصاديين المغاربة على أن العطلة الصيفية الموسمية باتت تمثل عبئا ثقيلا على كاهل الفئات الاجتماعية الهشة، في تناقض صارخ مع مبدأ “العدالة الترفيهية” الذي يفترض أن يكفل حق الاستجمام لكافة المواطنين دون تمييز طبقي. هذا الوضع، وفقا للخبراء، يسهم في تأجيج التوترات الاجتماعية والاقتصادية داخل البلاد.

ويرجع المتابعون للشأن الاقتصادي هذا الخلل إلى التحولات العميقة التي شهدتها الدورة الاقتصادية الوطنية، خاصة منذ جائحة “كوفيد-19″، والتي أدت إلى تراجع القدرة الشرائية لدى شريحة واسعة من المواطنين.

كما أشاروا إلى أن العديد من الأسر التي كانت تُصنف ضمن الطبقة المتوسطة أصبحت مضطرة اليوم إلى اللجوء للقروض البنكية من أجل تغطية نفقات العطل والمناسبات، في محاولة للحفاظ على نمط حياة اجتماعي لم يعد يتناسب مع واقعها الاقتصادي الجديد.

في هذا الإطار، قال رشيد الساري، رئيس المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة، إن المشهد الاجتماعي بالمغرب شهد خلال السنوات الأخيرة تحولات واضحة، أبرزها اتساع الهوة بين الطبقات، مما أدى إلى بروز فوارق صارخة بين فئات المجتمع، خاصة في فترة الصيف، التي تعد عادة موسما للراحة والاستجمام.

وأوضح الساري أن الطبقة الفقيرة أو الهشة أصبحت تعاني من غياب تام لمقومات قضاء عطلة صيفية، نظرا لتدهور أوضاعها المعيشية، ما يعكس واقعا اجتماعيا مقلقا ويزيد من حدة التوترات الاقتصادية داخل المجتمع المغربي.

وفي تصريحه لجريدة “العمق المغربي”، أكد أن الطبقة المتوسطة، التي كانت تشكل في السابق عماد التوازن الاجتماعي، أصبحت بدورها تعاني من ضغوط اقتصادية متزايدة، حيث تتراوح كلفة الإنفاق اليومي بالنسبة لها بين 300 و600 درهم، وقد تصل في بعض الأحيان إلى 1500 درهم يوميا إذا تم احتساب مصاريف الإقامة والمأكل والتنقل.

وأشار إلى أن هذه الأرقام ليست تقديرات نظرية، بل تستند إلى معطيات واقعية تعكس الحالة الاقتصادية لأغلب الأسر المغربية، التي تجد نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في أنماطها الاستهلاكية.

وتابع المتحدث أن جزءا كبيرا من الأسر المتوسطة أصبح يلجأ إلى القروض البنكية لتغطية تكاليف السفر والعطل، سواء داخل التراب الوطني أو خارجه، وهو ما يشكل عبئا إضافيا يثقل كاهل هذه الفئة التي تعاني أصلا من تآكل قدرتها الشرائية.

واعتبر الخبير الاقتصادي المغربي أن هذا التوجه يُظهر مدى هشاشة الوضع المالي للطبقة المتوسطة، التي لم تعد قادرة على الادخار أو التخطيط المسبق للعطل.

كما لفت الخبير إلى أن شريحة الأسر الميسورة اختارت في السنوات الأخيرة قضاء عطلتها خارج أرض الوطن، وهو ما يضاعف من كلفة المصاريف اليومية، إلا أن هذه الفئة تبقى أقل تضررا من تبعات الأزمة الاقتصادية، بالنظر إلى قدرتها على مجابهة التكاليف المرتفعة.

وفي سياق متصل، أشار الساري إلى أن غياب المراقبة الفعلية لأسعار الخدمات السياحية، من فنادق ومطاعم ونقل، أدى إلى تراجع ملحوظ في نسبة الأسر التي تتمكن من قضاء عطلة صيفية لائقة، إذ لم تعد الوجهات السياحية الداخلية في متناول الجميع، الأمر الذي فاقم من عزلة بعض الفئات، وقلّص من فرص تحقيق صلة الرحم والتواصل العائلي، التي كانت تميز فترات العطلة لدى المغاربة.

وختم رئيس المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة تصريحه بالتنبيه إلى أن استمرار هذا المسار دون تدخلات حقيقية من الدولة، سواء عبر دعم مباشر للأسر أو من خلال ضبط الأسعار وتحسين الخدمات، قد يؤدي إلى مزيد من التراجع في مؤشرات الاستقرار الاجتماعي، وإلى تفاقم الإحساس بالفجوة الطبقية، خاصة في ظل غلاء المعيشة وتحديات التنمية المستدامة.

امتياز طبقي

الواقع، كما يعكسه الفاعلون في الميدان، يكشف عن مفارقة صارخة: العطلة الصيفية تحولت من مناسبة للراحة إلى امتياز طبقي، تحظى به فقط الفئات الميسورة، بينما تقصى منه شريحة واسعة من المواطنين بفعل ارتفاع التكاليف وتدهور القدرة الشرائية.

في هذا السياق، أكد المهدي ليمينة، الفاعل السياسي والجمعوي، أن جائحة “كوفيد-19” لم تكن مجرد أزمة صحية بل شكلت منعطفا اقتصاديا واجتماعيا عميقا داخل المملكة.

وقال في تصريح لجريدة “العمق المغربي” إن “كورونا فرضت نمطا اقتصاديا جديدا، وبدأنا نلمس بوضوح تراجع قدرة الأسر على السفر وقضاء العطلة الصيفية بسبب التكاليف المرتفعة التي تثقل كاهل المواطن البسيط”.

ويرى ليمينة أن الأزمة لم تولد فقط من رحم الجائحة، بل تفاقمت بسبب غياب التضامن المجتمعي، مشيرا إلى أن الأسعار التي تعتمدها الفنادق والمحلات التجارية والمقاهي والمطاعم تكشف عن غياب وعي مواطناتي وروح المسؤولية الجماعية.

وسجل في هذا الصدد: “نلاحظ أرقاما خيالية في تسعيرة الخدمات السياحية، مقابل جودة بسيطة، ما يعكس جشعا اقتصاديا واستغلالا لحاجة الناس للترفيه”.

ويحذر المتحدث من أن ما أسماه “غياب الضمائر الوطنية” لا يؤدي فقط إلى احتكار فئة معينة لحق الاستجمام، بل يكرس فوارق اجتماعية واقتصادية تنذر باحتقان أوسع، خصوصا وأن العطلة، التي يفترض أن تكون حقا إنسانيا مشتركا، باتت امتيازا خاصا بفئة دون أخرى.

ويضيف ليمينة أن حرارة الصيف لم تعد مجرد ظاهرة مناخية، بل تحولت إلى مرآة تعكس حرارة الغضب الاجتماعي المتنامي، حيث يشعر المواطن العادي أنه مستبعد من حقه في الاستجمام والراحة، في حين تستأثر فئات محددة بالمشهد السياحي، وسط تساهل في ضبط الأسعار ومراقبة الجودة.

العطلة .. مسؤولية حكومية

اعتبر علي بوطوالة، نائب الأمين العام لفيدرالية اليسار الديمقراطي، أن العطلة الصيفية في المغرب باتت مناسبة تعكس بشكل صارخ الفوارق الاجتماعية المتفاقمة، خاصة في ظل السياسات الحكومية الحالية التي، حسب رأيه، عمّقت من حدة هذه التفاوتات.

وفي تصريح لجريدة “العمق المغربي”، أوضح بوطوالة أن غياب عدد كبير من الأسر المغربية عن مشهد العطلة الصيفية ليس مفاجئا، باعتبار أن معظم هذه العائلات تنتمي لطبقات ذات دخل محدود، وتنشغل أساسا بتغطية متطلبات المعيشة الشهرية، في ظل استمرار ارتفاع الأسعار.

وأضاف أن الزيادات المتتالية في أسعار المواد الغذائية والمنتجات البترولية ساهمت بشكل كبير في تفاقم الأوضاع المعيشية، مشيرا إلى أن حتى بعض الأسر الميسورة أصبحت تفضل قضاء عطلتها خارج البلاد، بحثًا عن جودة خدمات وسعر أفضل.

وأكد بوطوالة أن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على عاتق الحكومة، التي فشلت في حماية القدرة الشرائية للمواطنين، مضيفا أن الطبقة المتوسطة أصبحت بدورها تعاني بشكل مشابه للفئات الهشة، في ظل غياب سياسات اجتماعية حقيقية تضمن الحد الأدنى من العدالة الاقتصادية والرفاه الاجتماعي.

العمق المصدر: العمق
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا