تخيّلْ لحظة يتوقفُ فيها الزَّمن، وتعلُو أصواتُ ضحكٍ خافتة تتراقصُ مع نسيم الصباح، حيث يقف أطفال على حافة السماء، أقدامهم تكاد تلمس الغيْمات، وعيونُهم تتَّسِعُ لكلِّ لون في الطَّيْف، وكأنّ العالم بأسْره مُجرد لوحة تُرسم بحركة أصابعهم الصغيرة. هنا، بين الحلم والواقع، يُعيد هؤلاء الأطفال تعريف المستحيل، ويكشفون عن سرٍّ قد نسيَهُ الكبار: أنّ الشجاعة ليست في القوة، وإنما في الجُرأة على الطَّيران فوْقَ العَادي، والعيْش فوق حافة ما نعتقدُ أنّه السَّماء.
ليست وفاة الرّاعي الطفل محمد بويسلخن مجرّد واقعة عابرة في سجل الأخبار، بقدر ما هي جرح غائر في الضمير الجمعي، يختزل في تفاصيله الصغيرة ملامح الهشاشة الاجتماعية والتفاوتات الثقافية واللغوية، ويكشف كيف يمكن لحياة طفل أن تنكسر بين فجوات السلطة والعزلة الجغرافية. فشهادة الأم، التي لم تجد سوى لغتها الأمازيغية لتروي مأساة فَقْدها، ليست مجرد سرد مؤلم، إنها إعلان صريح عن عمق المسافة بين الهامش والمركز، وعن قسوة السياقات التي قد تبتلع الفرح المؤجل لطفل كان ينتظر دراجة هوائية. أما عبارتها الأخيرة، “لقد أحرقوا أجنحتي”، فهي استعارة حزينة، ووثيقة دامغة على أن الفقد هنا لم يكن فقْد جسد فحسب، وإنما فقْد أفُق، وحُلم، ومَعنى.
كان محمد، مثل كثير من أطفال الجبال، يختزن في عينيه بريقًا يعرفه من عاش في حضن الطبيعة البكر، بريقًا لا يشبه ضوء المدن، لأنه يشبه زرقة السماء في صباح شتوي بعد ليلة من الثلج. لكن تلك العيون التي حلمت بالدراجة، وبالأحد الذي سيأتي، لم تعلم أن الطريق بين الحلم والواقع محفوفة بظلال ثقيلة، وأن الفرح البسيط قد يتساقط في الوحل قبل أن يلمسه صاحبه. لم يكن الفقد هنا وليد لحظة واحدة، لكنه تراكم لسنوات من الصمت الإجباري، من الحكايات التي لا تصل إلى الصحف إلا إذا حملت معها مأساة دامية. فالطفل الذي رعى الأغنام في بستان غيره، لم يكن يتصور أن خطوط الملكية يمكن أن تلتهم البراءة، وأن القرى النائية ليست محمية من قسوة العالم، بيدَ أنها قد تكون مسرحًا لها، في عزلة لا تسمح حتى بالصراخ. وفي صوت الأم، وهي تتحدث بالأمازيغية التي لم تُترجم بالكامل إلا عبر دموعها، تتجسد مأساة أخرى: مأساة لغات لا تجد طريقها إلى المؤسسات، وأصوات لا تعبر إلى السجلات الرسمية إلا حين تكون مثقلة بالحداد. لقد تحدثت بلسان أرضها، فبدا أن العالم بأسره غريب عنها، وأنها تحكي أمام قلوب مغلقة بلغة لا تفهمها سوى الجبال. ليست حكاية محمد مجرد قصة طفل واحد، إنها مرآة لآلاف القصص التي لا تروى، ولأسماء لا تُكتب، ولوجوه تتلاشى بين الثلوج والحقول قبل أن تبلغ المدينة. هكذا، لم تمت “أجنحة” الأم وحدها، وإنما احترقت معها أجنحة مجتمع بأكمله، أدار وجهه للحظة، ثم عاد إلى حياته اليومية وكأن شيئًا لم يحدث، تاركًا خلفه رمادًا لا يرى إلا حين تهب عليه رياح الذكرى.
لكن، إذا كانت هذه الحكاية قد انطفأت في قرية بعيدة، فكم من الحكايات الأخرى تختبئ خلف أسوار الصمت؟ وكم من الأمهات ما زلن يتحدثن بلغات لا تصل إلى آذان صانعي القرار؟ هل يمكن أن يقيس أحد حجم الخسارة حين يكون الفقد مزدوجًا: فقد إنسان، وفقد القدرة على رواية الحكاية؟ وهل يصبح الموت أحيانًا هو اللغة الوحيدة التي تُجبر العالم على الإنصات؟ وأي معنى للعدالة إذا ظلت الطريق إليها أطول من الطريق بين حلم طفل ودراجته؟
حكى لي صديقي هذه الحكاية ذات مساء بعيون متسعة ويديْنِ تتحركان كمن يرسم المشهد في الهواء، كأنه يخشى أن يفلت منه شيء من التفاصيل. قال إنه لم يسمع شيئاً كهذا من قبل، وأنه ما زال يرى وجه الطفل أمامه يجمع بين العناد والخذلان في آن واحد. كان يحكي بلهجة متقطعة، كأن كل جملة هي حجر يلقيه في ماء راكد، وفي كل مرة يرتفع صوته عند كلمة “الدفتر” وكأنه يتحدث عن كنز أو وثيقة مصيرية. عندها فهمت أن الأمر ليس مجرد حادث عابر في زقاق ضيق، بل قصة كاملة عن حلم يُكتب وسط ضجيج المدينة، ثم يُنتزع منها في لحظة صامتة.
في أحد أحياء الدار البيضاء التي لا تزورها الكاميرات إلا حين تبحث عن صورة للفقر، كان المساء يهبط ببطء، يمد ظلاله فوق الأزقة الضيقة حيث تختلط رائحة الشاي برائحة المجاري المكشوفة. أمام محل بقالة صغير، جلس طفل في العاشرة، يبيع شواحن هواتف مقلدة وسماعات رخيصة على طاولة حديدية. لم يكن في الأمر ما يلفت النظر لولا أنه، طوال النهار، كان يدوّن شيئاً في دفتر صغير كلما خلا الزقاق من الزبائن. كان الدفتر أكثر من مجرد أوراق؛ كان وسيطاً أولياً لتحويل التجربة اليومية إلى خطاب فني، وأداة لتثبيت ما قد يتبدد في زحمة اليوم. في تلك الصفحات كان الطفل يجرب، من دون أن يسمي ذلك، ما يشبه المونولوج الشعري الممزوج بالإيقاعات الحضرية، محاولاً تأطير الواقع المعيش في شكل قابل للتداول السمعي.
في أمسيات معينة، كان يتحول السطح المتصدع الذي يجتمع فيه مع أقرانه إلى مختبر صوتي بدائي. كانت التجربة بسيطة من حيث الوسائل، لكنها مكثفة من حيث الشحنة الرمزية: صفائح معدنية تتحول إلى آلات إيقاع، أصداء الأزقة تدخل التسجيل كعنصر من عناصر التكوين السمعي، وضحكاتهم التي تنفجر فجأة تذكّرهم بأن الفن، مهما كانت ظروفه، فعل مقاومة ضد البلادة. هذا الوعي الضمني بأن الإبداع ممكن حتى في أقسى البيئات هو ما كان يغذي حلمه.
غير أن اصطدام هذا الحلم بالبنية الرقابية للفضاء العام لم يكن مفاجئاً، بقدر ما كان امتداداً لمنطق يتعامل مع كل تعبير غير مضبط باعتباره تهديداً ضمنياً. حين جاء رجلان بملابس مدنية، لم يرفعا أصواتهما ولم يمسّاه بسوء، لكن حركة اليد التي التقطت الدفتر كانت تختزل منظومة كاملة من الإقصاء الرمزي، حيث يُسحب من الفرد ما يمنحه إمكانية إعادة صياغة واقعه. كان المشهد هادئاً في ظاهره، لكنه في عمقه يعكس دينامية الصراع بين السلطة الرمزية للفن وممارسات الضبط الاجتماعي. بعد رحيلهما، لم يكن الصمت الذي خيّم على الزقاق صمتاً عادياً؛ كان فراغاً معرفياً، فجوة بين ما كان ممكناً وما أصبح مستحيلاً. ومع ذلك، فإن الحلم لم ينطفئ، بل تحوّل من صيغة مكتوبة إلى ذاكرة سمعية داخلية.
في صباح اليوم التالي، حين عاد الطفل إلى طاولته، كان يعلم أن النصوص التي كتبها ربما فقدت مادتها الورقية، لكنها ما زالت قابلة للاستدعاء في أي لحظة، لأن الإيقاع، كما كان يرددهُ في سِرِّه، لم يسكن الورق… وإنما سَكن جسدهُ الطريّ.
سأنقل إليكم حكاية أخرى حكاها لي قريبٌ من عائلتي، فاسمعوا… واقعة أغرب من الخيال، لأنها تسير على أطراف الأصابع بين الصدق والكذب، تشرب من بئر الماضي وتتنفس هواء اللحظة. كل ما عليكم أن تفعلوه الآن هو أن تُصغوا، فالحكاية لا تطرق الأبواب مرتين:
كان صباحاً عادياً. حركة الأقدام تملأ الشوارع، والأبواب تُفتح على عجل كما لو أن النهار سباقٌ، وروائح الخبز الساخن تتقدم أصوات الباعة، مُشكّلةً مزيجاً حسياً من الألفة والاعتياد. لكن في زقاق ضيق، خلف مدرسة ابتدائية، كان ثمة مشهد صغير، متناهٍ في صمته، يوشك أن يتوارى خارج أي نشرة أخبار أو سجل رسمي: طفل في التاسعة من عمره، عائد من المدرسة، يمسك بطائرة ورقية صنعها من أوراق دفتر قديم وخيط غسيل انتزعه خلسةً من سطح البيت. كان يمشي بها كما لو أنه يجر خلفه قطعة من السماء، أو غيمة هاربة من مناخ المدينة. في نهاية الزقاق، كان ينتظره رجل بملامح غامضة، تلك التي لا تحفظها الذاكرة على نحو دقيق، لكنها تترك في الداخل ثقلاً يصعب تفسيره. توقف الرجل، حدّق في الطائرة، مد يده وانتزعها بعنف، ثم مزقها أمام الصبي، ونطق بجملة قصيرة بدت وكأنها صادرة عن قانون سري غير مكتوب: “هنا لا يطير أحد”.
في لحظة التمزق، لم يسقط الورق فحسب، وإنما ما هو أوسع وأعمق: فكرة أن السماء فضاء متاحٌ للجميع. كان الحرق هذه المرة بلا لهب، تمزيقاً صامتاً لحقّ التحليق في ذهن طفل، وإعداماً غير معلن لحلمٍ لم يبلغ بعدُ سنّ الكلام. هذه الحادثة، في ميزان اليومي، لا تُسجَّل: لا جثة، لا محاضر، لا قاضٍ، ولا شهود. لكنها في ميزان المعنى تساوي جريمة مكتملة: اغتيال إمكانية، ودفن بذرة فضول كان يمكن أن تُثمر في يوم ما فناً أو علماً أو حتى نبتة حبٍّ تُغيّر مسار حياة بأكملها.
كان شهود الحادثة قلة، ومعظمهم آثر الصمت، خشية أن يُساء فهم روايتهم أو أن يُتهموا بالمبالغة. السيدة ربيعة، التي كانت تنشر الغسيل على سطح منزلها المطل على الزقاق، روت لاحقاً أن وجه الطفل لحظة التمزق بدا كمن رأى البحر يجف أمامه فجأة. لكنها أضافت، وهي تخفض صوتها، أن الرجل الذي مزق الطائرة يدعى الحاج المودن، موظف متقاعد من قسم “تنظيم المجال العام” في عمالة الإقليم، اشتهر بصرامته في كل ما يعلو فوق مستوى الأرض، حتى لو كان مجرد بالُون أو خيط طائرة.
في صباح اليوم التالي، لم يذهب الطفل، الذي قال بعض الجيران إن اسمه ياسين بنخلدون، إلى المدرسة. شوهد عند تخوم المدينة، قرب بساتين الزيتون في دوار “أولاد السالم”، يرسم على التراب بأصابع يديه دوائر وخطوطاً تشبه أجنحة الطائرة التي فقدها. كان كمن يحاول إعادة بنائها بلغة الأرض هذه المرة، وكأن التحليق قد هبط مؤقتاً إلى مستوى التراب، ينتظر لحظة أخرى للصعود. عبد الحق بائع الخبز في سوق “الحومة الكبيرة”، تذكر الحادثة بعد أيام، وقال إن الحاج المودن نفسه كان قبل سنوات قد أوقف شاباً أراد إطلاق فانوس ورقي في ساحة “باب الغابة”، بحجة أن “السماء ليست مكاناً للعبث”. كان صوته في ذلك اليوم يشبه تماماً صوته وهو يمزق الطائرة.
واليوم، إذا مررت بزقاق “العوينة” وقت القيلولة، قد تلمح على أحد الجدران رسماً باهتاً لطائرة ورقية، مرسومة بخطوط مترددة، وبجانبها عبارة صغيرة كتبها أحدهم بقلم رصاص: “هنا… قد يطير أحد”. العبارة تبدو جديدة، لكن لا أحد يعرف من كتبها، ولا متى. فقط، إذا سألت أطفال الحي، سيبتسمون ويشيرون نحو البساتين في الأفق.
ومع ذلك، ثمة احتمال آخر: أن يلتقي طفلٌ بشخص يشتري له دراجة ليفرح بها، أو يهمس له بأن الورق الممزق يمكن أن يصبح أغنية، أو يعيد له خيط الطائرة الورقية، أو أن الجدار الذي كتبوا عليه تلك العبارة ليس سوى قشرة، يمكن تمزيقها بدورها، لتنكشف خلفها سماء أخرى لا نهائية.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.