اعتبرت حركة “مغرب الغد” أن منطقة المغرب الكبير تعرف عقودا من تعطل مشروع الوحدة المغاربية، بفعل موقف الجزائر المعادي الذي بدأ منذ سبعينيات القرن الماضي.
وأقالت الحركة إن النظام الجزائري، بقيادة الرئيس الراحل هواري بومدين، اعتمد سياسة ممنهجة لتقويض هذا المشروع عبر دعم جبهة البوليساريو وتأسيس كيان انفصالي وهمي، مما أضر بوحدة المنطقة واستقرارها الإقليمي.
واعتبر الحركة في رأي لها تحت عنوان “هكذا تنسف الجزائر الوحدة المغاربية”، تتوفر “العمق” على نسخة منه، أن هذا العداء ليس وليد مصلحة وطنية موضوعية، بل ينبع من إيديولوجيا ثورية تسعى للهيمنة الإقليمية على حساب مصالح الشعوب المغاربية.
وأشارت الحركة إلى أن نظام الجزائر يتجاهل بالكامل التاريخ المشترك والروابط الإنسانية التي تجمع الشعبين المغربي والجزائري، بما في ذلك التنكر المتكرر للدعم المغربي خلال كفاح الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وارتكاب مأساة الطرد الجماعي لآلاف المغاربة في عيد الأضحى عام 1975.
في المقابل، شددت الحركة على أن المغرب ظل متمسكا بروح الأخوة والتعاون، داعية الجزائر إلى تجاوز منطق العداء والتعنت، وفتح صفحة جديدة من الوحدة والتكامل المغاربي.
واعتبرت الحركة ذاتها أن هذا الأمر هو السبيل الوحيد لضمان الأمن والتنمية والاستقرار في المنطقة، في ظل التحديات الجيوسياسية والاقتصادية التي تواجهها دول المغرب الكبير اليوم.
فيما يلي النص الكامل لرأي حركة مغرب الغد
مقدمة
شهدت منطقة المغرب الكبير منذ سبعينيات القرن الماضي مسارًا معطلاً لمشروع الاندماج المغاربي، وهو المشروع الذي كان من شأنه أن يشكّل نواة تكتل إقليمي قوي قادر على مواجهة التحديات التنموية والجيوسياسية. غير أن هذا المسار اصطدم بإرادة سياسية مضادة، تجسّدت بشكل واضح في موقف القيادة الجزائرية، وتحديدًا خلال حكم الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله و بإيعاز منه، الذي اتخذ قرارًا استراتيجياً تمثل في وأد حلم الوحدة المغاربية، واصطناع صراع إقليمي مفتعل حول الصحراء المغربية، أضحى فيما بعد جوهر عقيدة السياسة الخارجية للدولة الجزائرية٠
لقد شكّلت معارضة الجزائر الصريحة والممنهجة لاسترجاع المغرب لأقاليمه الجنوبية، نواة الصراع الإقليمي الذي لا يزال يلقي بظلاله على استقرار المنطقة ووحدتها. ففي خطوة عدائية غير مسبوقة، جنّدت الجزائر مواردها السياسية و الديبلوماسية والعسكرية والمالية لتسليح جبهة “البوليساريو”، وتدريب عناصرها، ودفعهم نحو تنفيذ هجمات مسلّحة ضد المغرب، في محاولة للنيل من وحدته الترابية. وتُوِّج هذا التوجه العدائي بالمشاركة المباشرة في اختلاق كيان “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” الوهمية، و منحه قواعد لإيواء مقاتليه الانفصاليين المغرر بهم، و التي منها تتحرك مرتزقة البوليزاريو للإعتداء على المغرب، في خرق سافر للشرعية الدولية، وفي تجاهل تام لإرادة غالبية الصحراويين الذين اختاروا الارتباط التاريخي والوجودي بالمملكة المغربية٠
الصراع الإقليمي وخيار الجزائر في إفشال الوحدة المغاربية
إن هذا التوجه السياسي لم يكن وليد مصلحة وطنية و حسابات موضوعية، بل انبثق من إيديولوجية ثورية، ذات نزعة تهدف إلى الهيمنة على المنطقة، تبنّاها النظام الجزائري منذ استقلال الجزائر، حاول من خلالها تصدير “النموذج الثوري الجزائري” لزعزعة استقرار تونس و المغرب وفرض هيمنة إقليمية تحت شعارات زائفة مثل “تحرير الشعوب” و”الحق في تقرير المصير”. غير أن هذه الإيديولوجيا، التي استندت إلى التوجه السائد إبان الحرب الباردة والخطاب الراديكالي المناهض لما سمّي بـ”الأنظمة التقليدية”، لم تنتج سوى الفشل داخلياً وخارجياً، إذ إنها لم تُثمر ديمقراطية حقيقية و لا تماسكا اجتماعيا و لا تنمية مستدامة داخل الجزائر، بل أدّت إلى تقويض فرص الاستقرار والتعاون في المنطقة برمتها٠
تنكر للمواقف النبيلة للمغرب ملكا وشعبا ولبقية الشعوب المغاربية
ورافق هذا النهج التصادمي تنكّر تام من طرف النظام الجزائري لما يجمع الشعبين الشقيقين، المغربي والجزائري، من وشائج تاريخية وإنسانية لا مثيل لها بين شعوب العالم. فهذان الشعبان يتقاسمان وحدة اللغة والدين والمصير، ويلتقيان في ذاكرة نضالية مشتركة ضد الاستعمار، وفي إرث حضاري وثقافي ضارب في القدم. كما تربطهما أواصر قرابة ودم ومصاهرة وجوار يصعب تفكيكها أو تجاهلها. ومع ذلك، أصرّ النظام الجزائري على تغليب منطق العداء المصطنع على منطق الأخوة، واستبدل منطق التكامل الطبيعي بمخططات تفتيت وهمية لا تخدم إلا مصالح ضيقة ومعزولة٠
وفي مقدمة هذا التنكّر التاريخي، يأتي تجاهل النظام الجزائري المتعمد للموقف المغربي المشرّف خلال حرب التحرير الجزائرية، حين فتح المغرب أراضيه وقواعده للثوار، ودعم المقاومة الجزائرية بالسلاح والمال والرجال، بل وسقط مغاربة شهداء على أرض الجزائر دفاعًا عن استقلالها وكرامة شعبها. لقد كانت تلك المساندة خيارًا استراتيجيًا مغربيًا نابعًا من إيمان راسخ بوحدة المصير ونصرة قضايا التحرر، غير أن هذا الوفاء و التضامن قوبل بالجحود والنكران، وتحويل الدعم الأخوي إلى عداء سياسي و مشروع هيمنة إيديولوجية٠
فرغم ما قدمه المغرب، ملكًا وشعبًا وحركة وطنية، من دعم مادي ومعنوي وسياسي حاسم لكفاح الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، فإن النظام العسكري القائم في الجزائر ظل، منذ الإستقلال، يُمعن في التنكر لهذا السند الأخوي المتين، الذي شكّل واحدة من أنبل صور التضامن المغاربي في التاريخ المعاصر٠
لقد كان المغرب بقيادة جلالة المغفور له الملك محمد الخامس من أوائل الداعمين للقضية الجزائرية في المحافل الدولية، حيث عبّر جلالته في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1957عن التزامه المبدئي واللامشروط بمناصرة الشعب الجزائري حتى نيل حريته٠
وسار على دربه جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني، الذي لم يدخر جهدًا في مساندة الجزائر للحصول على استقلالها، واحتضن في بدايات حكمه قادة جبهة التحرير الوطني، وحرص على دعمها بالوسائل الدبلوماسية واللوجستية والعسكرية، رغم الأوضاع الصعبة التي كان يعيشها المغرب بعد الاستقلال. وقد أكد الحسن الثاني هذا الموقف في عدة تصريحات، من بينها مداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة٠
ولم يكن هذا الموقف الأخوي نابعًا فقط من إرادة العرش و الحركة الوطنية، بل كان أيضًا تجسيدًا لإجماع شعبي واسع، حيث احتضن الشعب المغربي اللاجئين الجزائريين، وشارك آلاف المغاربة في دعم جبهة التحرير، بالمال والسلاح والدم، في مشهد تضامني غير مسبوق٠
ورغم كل هذه التضحيات، اختار النظام العسكري الجزائري، بعد الاستقلال، نهج العداء والمناكفة، والتنكر الصريح للجميل٠و تطور هذا العداء إلى حد التآمر على الوحدة الترابية للمغرب و نقض وعوده و التزاماته بتسوية أخوية لقضية الحدود و الأجزاء التي اقتطعتها السلطات الاستعمارية الفرنسية و ألحقتها بتراب مستعمرتها الجزائرية. و لم تتردد السلطات الجزائرية، و هي حديثة العهد باستقلالها في إلإعتداء على التراب الوطني المغربي في ما يعرف بحرب الرمال، التي قبل المغرب من أجل إنهائها بتوافقات و تنازلات مراهنا على بناء السلام و الأمن و التعاون و تشييد وحدة المغرب الكبير٠ كما لم تتوانى الجزائر في استعمال قضايا مصيرية كأدوات ضغط سياسي وابتزاز استراتيجي، في خيانة صريحة لقيم الأخوة والنضال المشترك٠ كما لم يتأخر النظام العسكري الجزائري عن الاصطفاف إلى جانب إسبانيا إبان حادثة جزيرة ليلى، في موقف يعكس مرة أخرى عمق العداء المتجذر في مواقف الجزائر الرسمية كلما تعلق الأمر بحقوق المغرب المشروعة، وسيادته الترابية٠
إن هذا السلوك لا يمثل إرادة الشعب الجزائري الشقيق، بل هو نتاج عقيدة سياسية ضيقة تبناها النظام العسكري، تسعى إلى إضعاف المغرب وعرقلة أي مشروع وحدوي في المنطقة المغاربية، خارج عن نوايا الجزائر و مشاريعها للهيمنة على المنطقة٠
مأساة الطرد الجماعي للمغاربة: عيد الأضحى الذي تحوّل إلى مأتم
و من بين أكثر المحطات التي تعكس حدة التوجه العدائي للنظام الجزائري تجاه المغرب، تبرز مأساة الطرد الجماعي لآلاف المغاربة المقيمين في الجزائر في يوم مقدس هو يوم عيد الأضحي من سنة 1975. في لحظة كان يفترض أن تكون عنوانا لصلة الرحم ، اختار النظام الجزائري أن يحولها إلى فاجعة إنسانية جماعية، بإجراء انتقامي فج ضد مواطنين أبرياء، لا ذنب اقترفوه سوى انتمائهم إلى بلد جار اختار استرجاع أراضيه بشكل سلمي و قانوني عبر المسيرة الخضراء٠
فقد تم، بأمر مباشر من الرئيس هواري بومدين رحمه الله، تهجير ما يفوق 45 ألف مغربي من الأراضي الجزائرية، في ظروف مأساوية لم تراعي أبسط مقومات الكرامة الإنسانية. فقد تم فصل أفراد الأسر عن بعضهم البعض و تمت مصادرة ممتلكاتهم دون تعويض و رمي أطفال ونساء وعجائز فجأة على الحدود، مطوقين بقوات الجيش الجزائري المدججة بالسلاح، محاطين بالحيرة والحزن و الدموع، في مشهد هزّ الضمير الإنساني وأدانته منظمات حقوقية دولية. لقد كان ذلك القرار فعلًا عقابا جماعيًا يعكس استغلالًا فجًّا للبُعد الإنساني والديني في صراع سياسي إقليمي مفتعل٠
لم يكن طرد المغاربة في يوم عيد الأضحى مجرد إجراء إداري أو سياسي، بل كان رسالة سياسية مشحونة بالعداء، مفادها أن النظام الجزائري مستعد لتوظيف أقسى الوسائل وأكثرها لا إنسانية، بما في ذلك ضرب وحدة العائلات وانتهاك حرمة الأعياد، من أجل فرض رؤيته الأحادية في قضية الصحراء المغربية، والتشويش على الانتصار الرمزي والدبلوماسي للمغرب المتمثل في المسيرة الخضراء٠
وهكذا، تحوّل عيد الأضحى من مناسبة إحياء شعيرة مقدسة والاحتفاء في جو أسري و روحي تطبعه الفرحة و صلة الرحم، إلى لحظة طرد ونفي ونكبة لآلاف المغاربة الذين ساهموا لعقود في تنمية الجزائر، وساكنوا أهلها، وتقاسموا معهم الخبز والذاكرة والأمل. لقد سجل المغرب هذا الفعل الشنيع في ذاكرته المعاصرة كواحد من أكثر صور التنكّر الأخوي إيلامًا، وكرمز دائم على أن الصراع مع النظام الجزائري لم يكن سياسيًا فحسب، بل كان يحمل في طيّاته بعدًا إنسانيًا مأساويًا يضرب عمق الروابط بين الشعبين٠
إن استحضار هذا الحدث المؤلم لا يهدف إلى تأجيج العداوات أو استحضار الأحقاد، بل إلى التذكير بضرورة الاعتراف بالأخطاء التاريخية الجسيمة كمدخل لأي مصالحة حقيقية، لأن تجاوز آثار الصراع لا يتم عبر طمس الذاكرة، بل عبر مواجهتها بشجاعة أخلاقية وتاريخية. إن مأساة المغاربة المطرودين من الجزائر تظل جرحًا مفتوحًا في سجل العلاقات المغربية الجزائرية، وتستدعي من الضمير المغاربي و العربي و الإفريقي و الإسلامي و الإنساني، مساءلة و محاسبة السلطات الجزائرية على الجريمة التي اقترفتها في حق مواطنين أبرياء بإقدامه على عملية عقاب جماعي شنيعة٠
العداء للمغرب: عقيدة و منهج للسياسة الجزائرية
ولم يقف الأمر عند حدود الصحراء المغربية أو معاكسة إرادة شعوب المنطقة في الوحدة والتكامل، بل تحوّل العداء للمغرب إلى أداة منهجية داخلية في يد النظام الجزائري، يُستعمل كـ”شمّاعة” لتعليق كل أوجه الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فبدلاً من مساءلة الذات وتحمّل مسؤولية الإخفاق في بناء نموذج ديمقراطي وتنموي حقيقي، يلتجئ الخطاب الرسمي الجزائري إلى شيطنة المغرب، وتقديمه للرأي العام كعدو خارجي دائم، بهدف صرف الانتباه عن أزمات داخلية مزمنة تطال الاقتصاد والحريات والحكامة والعدالة الاجتماعية. وهكذا، أُفرغت السياسة الخارجية الجزائرية من أي حس واقعي و عقلاني، وأُخضعت بالكامل لعقيدة “العداء للمغرب” كرافعة وهمية للشرعية الداخلية، وكسلاح لتأجيل الإصلاحات البنيوية التي يتطلع إليها الشعب الجزائري الشقيق٠
ولم تكن نتائج هذه السياسة محصورة في المستوى المغاربي فقط، بل امتد أثرها السلبي إلى عرقلة محاولات التقارب والتكامل على المستوى الإفريقي والعربي والإسلامي. فقد لعبت الجزائر، بدافع من حساباتها الضيقة، أدوارًا معرقِلة لعدد من المبادرات الإيجابية داخل الاتحاد الإفريقي، وسعت إلى خلق محاور موازية لمجابهة الحضور المغربي المتنامي في إفريقيا، لا على أساس التعاون بل بمنطق التنافس السلبي العدائي. كما أجهضت الجزائر مرارًا جهود التنسيق داخل الجامعة العربية من خلال مناوراتها لعرقلة كل المبادرات التي يقترحها المغرب. ولم تكن منظمة التعاون الإسلامي بمنأى عن هذا التأثير، إذ أصبحت بدورها محفلا تناور فيه الجزائر و تصرف عدائها ضد المغرب، مما أضعف بشكل كبير و دائم، الحضور و الوزن المغاربي في المحافل الدولية و العربية و الإسلامية و الإفريقية٠
إن العمى الإيديولوجي والهستيريا الدبلوماسية التي يُبديها النظام الجزائري في مواجهة فتح دول كثيرة، من مختلف القارات، لعشرات القنصليات بالصحراء المغربية و الاعتراف المتزايد بمغربية الصحراء، بما في ذلك من طرف عدد من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بهيئة الأمم المتحدة، تعبّر عن رفض عنيد للإقرار بالتحولات الجيوسياسية الجارية والوقائع القائمة على الأرض. وتمثل هذه المواقف إحدى أبرز تجليات الاضطراب والتهافت الذي يطبع السياسة الجزائرية تجاه قضية الصحراء المغربية، ويعكس انغماسها في مناورات أيديولوجية عقيمة تُغَيب منطق الواقعية السياسية وتفضح النوايا الحقيقية للنظام العسكري الجزائري٠
و فيما يخص القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني الشقيق من أجل حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة، تكتفي الجزائر بالشعارات، وتغذي الانقسام الفلسطيني، إذ ساهمت في تأجيج الخلافات بين الفصائل، وبلغ بها الأمر حد منع التظاهرات الشعبية المؤيدة لفلسطين في شوارعها و ساحاتها العامة٠ وفي المقابل، يشهد الفلسطينيون أنفسهم، شعبًا وقيادات، بالدور العملي والداعم الذي يفوم به المغرب، وبخاصة بالمساعدات الإنسانية المنتظمة التي تصل إلى قطاع غزة بأمر من جلالة الملك محمد السادس، رغم العراقيل والصعوبات، في تأكيد واضح على التزام المغرب بثوابت القضية ودعمه الصادق للشعب الفلسطيني٠
ويطرح هذا الوضع تساؤلات ملحّة حول الأهداف الحقيقية للسياسة الجزائرية في المنطقة، وحول الدور الذي تلعبه الجزائر في تعميق الانقسام المغاربي، وتعطيل آليات التعاون المغاربي و الإفريقي والعربي والإسلامي، وتكريس منطق الصراع بدل منطق التكامل. كما يفرض إعادة قراءة المشروع المغاربي في ضوء التوازنات الجديدة، والإقرار بأن أمن المنطقة واستقرارها لا يمكن أن يتحققا في ظل استمرار منطق العداء وتجاهل الواقع التاريخي والسياسي والإنساني الذي يربط شعوبها٠
تعويض العجز التاريخي الجزائري بنزعة مرضية للهيمنة
ويتعزز هذا النهج العدائي تجاه المغرب والمنطقة المغاربية عمومًا بإرادة دفينة لدى النظام الجزائري في فرض هيمنة إقليمية تعوّض افتقاده إلى شرعية تاريخية ومؤسساتية راسخة. فالجزائر، كما تشكلت بعد الاستقلال، لم تكن امتدادا لدولة ذات سيادة متصلة عبر التاريخ، بل كانت كيانًا جيوسياسيًا وُلد من رحم الحقبة الاستعمارية الفرنسية، دون امتداد مؤسساتي واضح أو عمق دولتي متوارث. هذا الواقع التاريخي، الذي يميّز الجزائر عن جيرانها و بالاخص عن المغرب الذي يشكل عقدتها، والذي يمتد كيان الدولة فيه لقرون من التراكم السياسي والمؤسساتي والديني و الديبلوماسي، دفع النظام الجزائري إلى بناء عقيدة سياسية تقوم على تضخيم كيانها و أدوارها وتصدير الأزمات الداخلية، والتعويض عن الفراغ التاريخي بصراعات إيديولوجية مفتعلة. ومن هنا، تحوّل مشروع السيطرة على المنطقة من باب الصحراء المغربية ودعم كيان انفصالي مصطنع إلى آلية رمزية لادّعاء الزعامة المغاربية، على حساب استقرار المنطقة ومستقبل شعوبها٠
إن نزعة الهيمنة للنظام الجزائري تجاه المغرب الكبير لم تقتصر على الصراع السياسي أو النزاع الإقليمي التقليدي فحسب، بل تعدت ذلك إلى إعاقة كل مساعي التكامل والاندماج التي كانت تسعى إلى بناء جسر متين من التعاون بين دول المنطقة. فقد عرقلت هذه النزعة، التي ارتكزت على حسابات إيديولوجية وسياسية ضيقة، بشكل ممنهج كافة المبادرات التي تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي، الثقافي، الفكري، الرياضي، والإبداعي والفني بين شعوب المغرب الكبير٠
مسؤولية النظام الجزائري في لغم كل مبادرات التقارب بين الدول المغاربية
فعلى الصعيد الاقتصادي، أدّت السياسة الجزائرية إلى نسف فرص التنمية التي كان من الممكن تحقيقها من خلال سوق مغاربية موحدة قادرة على استقطاب الاستثمارات وتعزيز التبادل التجاري بين الدول الأعضاء. كما أثرت نزعة الهيمنة الجزائرية سلبا على كل مبادرات التنمية و التقدم و الاندماج بين شعوب المنطقة، وأضعفت قدرة المغرب الكبير على مواجهة التحديات الجيوسياسية و الاقتصادية العالمية المتزايدة٠
أما على المستوى الثقافي والفكري، فقد لعب النظام الجزائري دورًا محوريًا في تحويل الخلاف السياسي إلى تجييش فئات كبيرة من مثقفيه و مفكريه و صحافييه لخدمة مشروع الهيمنة الجزائري على حساب التعاون و التكامل و الأخوة و حسن الجوار، إذ سعى بشكل ممنهج إلى رسم حدود وهمية من العداء والتنافس الهدام المفتعل، بدل تشجيع الحوار والتواصل البنّاء بين النخب الثقافية المغاربية. وتسببت هذه السياسات العدائية في تمزيق النسيج الثقافي المشترك، حيث وجدت الجمعيات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني الجزائري نفسها منخرطة في حملات دنيئة ضد مشروع وحدة المغرب الكبير و حبيسة مناخ سياسي مسموم غذّاه النظام الجزائري. وهكذا تم تهميش جهود حيوية كان من شأنها أن تثرِي المشهد الثقافي وتعزّز الهوية المغاربية الجامعة. وقد أدّى هذا التوظيف السياسي الممنهج للثقافة في خدمة أجندات ضيقة للهيمنة و القضاء على فرص بناء مساحات حرة للتعبير و الإنتاج و الإبداع والحوار الفكري والفني، ومهّد لانتشار ثقافة الإقصاء والتوجّس، وتقويض الروابط الإنسانية والتاريخية العميقة التي تجمع شعوب المنطقة٠
ولا يمكن إغفال الأثر السلبي لهذا الواقع على الحركة الرياضية و مجالات الإبداع الفني، حيث تم استبعاد التظاهرات المشتركة، وخلق منافسات مشحونة برسائل تظهر عداءها للمغرب و تأييدها لدميتها البولبزايو، بدل أن تكون تجليات لتبادل ثقافي غني وبناء جسور بين الشعوب. انعكس ذلك على إضعاف التواصل بين الشباب و المجتمع المدني وتقييد المبادرات الهادفة إلى توحيد الطاقات والإبداعات عبر الحدود المغاربية٠
كل هذه التجاذبات المصطنعة لم تخدم سوى مشروع الفشل والإخفاق، الذي بُني على قاعدة العداء والتفرقة بدل الوحدة والتكامل. فقد فرضت النزعة الهيمنية الجزائرية أسوارًا وهمية بين شعوب المغرب الكبير، أضعفت قدراتهم التنافسية على الساحة الدولية، وجعلت من حلم التكامل هدفًا بعيد المنال، ومجرد شعار تستعمله السلطات الجزائرية، في هذه المناسبة أو تلك، لتأثيث خطابها التائه المتنافص٠
المسؤولية التاريخية للجزائر في تسمم العلاقات بين المغرب الكبير و دول الساحل جنوب الصحراء
لقد امتدّت سياسات النظام العسكري الجزائري المتمركزة على منطق التحكم والنفوذ إلى المجال الإفريقي، لا سيما في منطقة الساحل، حيث تبنّى استراتيجية تدخّلية تسعى إلى فرض وصايته على دول الجوار الإفريقي تحت ذرائع أمنية وإيديولوجية، في تجاهل واضح لخصوصيات هذه الدول وسيادتها الوطنية. فبدل انتهاج سياسة شراكة متكافئة وتضامن إقليمي فعلي لمواجهة التحديات المشتركة كالإرهاب و التغير المناخي و والهشاشة الاقتصادية، عمدت الجزائر إلى عرقلة المبادرات الإقليمية المستقلة ومحاولات التكامل بين بلدان الساحل، لا سيما تلك التي لا تنضوي تحت نفوذها المباشر. كما سعت إلى تقويض أدوار قوى إقليمية صاعدة كالنيجر ومالي وبوركينا فاسو، و التدخل في شؤونها الداخلية، من خلال دعم أطراف موالية أو ممارسة ضغوط دبلوماسية واقتصادية، وهو ما خلق مناخاً من الشك وعدم الثقة في نوايا الجزائر الإقليمية٠
وقد انعكست سياسة الهيمنة هذه سلباً على علاقات الجزائر بعدد من دول الساحل، التي بدأت تتجه نحو بدائل استراتيجية وشركاء إقليميين ودوليين أكثر واقعية وتوازناً، ما أضعف موقع الجزائر ودورها في إفريقيا. وفي الوقت الذي كان يفترض فيه أن تشكل الجزائر قوة استقرار ودعامة للتعاون جنوب–جنوب، تحوّلت إلى عامل توتر يكرّس عدم احترام السيادة و زعزعة الاستقرار نتيجة ارتهان سياستها الخارجية إلى حسابات العسكر ومراكز النفوذ الداخلي، بعيداً عن أي تصور استراتيجي عقلاني طويل المدى. إن هذه السياسات لم تساهم فقط في عزل الجزائر دبلوماسياً عن محيطها الإفريقي، بل قوّضت أيضاً إمكانية بناء فضاء مغاربي–إفريقي متكامل قائم على المصالح المتبادلة واحترام السيادة والقرار الوطني للدول الشقيقة٠
محركات العداء الجزائري: عقدة الهوية و التأخر تاريخي
تجدر الإشارة إلى أن عقدة التأخر التاريخي و الهوياتي والمؤسساتي التي تعاني منها الجزائر في مقارنتها بالمغرب، ليست مجرد مسألة سياسية أو جغرافية، بل تستدعي تحليلًا نفسيًا وسريريًا عميقًا لفهم الدوافع الكامنة وراء سلوك النظام الجزائري. فقد أفضى هذا الإحساس بالدونية التاريخية والمؤسساتية إلى حالة من الانغلاق النفسي الجماعي داخل الطبقة الحاكمة، جعلتها تتعامل مع المغرب ليس كدولة شقيقة وصديقة، بل كخصم يُراد في نفس الوقت تشويهه وتقليده في أبعاد عدة، بلغت حد سرقة ثراثه و الاقتباس المشوه من التقاليد العريقة لمؤسسات الدولة المغربية٠
فالنظام الجزائري، الذي يعاني من ضعف راسخ في الشرعية الداخلية وقصور في بناء مؤسسات مستقرة ومتطورة، يحاول تعويض هذا النقص عبر إنتاج خطاب مشوه ومفرط في التبخيس تجاه المغرب، وتوظيفه كمهدد، يُراد باستمرار النيل من صورته ومكانته. هذا التوجه النفسي السريالي، الذي يتخطى المنطق السياسي المعتاد٠
وبذلك، فإن علاقة النظام الجزائري بالمغرب تُشبه إلى حد كبير ما يمكن وصفه بـ”الهوية المعكوسة”، حيث ينعكس الشعور بالنقص والتأخر في شكل عداء مفرط وسلوكيات دفاعية عدائية. وهذه الديناميكية السلبية النفسية تجعل من الصعب على الجزائر تجاوز أزماتها الداخلية والخارجية، إذ يتغذى الصراع الإقليمي على نكسة داخلية عميقة تحتاج إلى معالجة جذرية، لا مجرد معالجات سطحية أو مواقف سياسية عابرة٠
ورغم التوترات السياسية والإعلامية المتكررة، لم تتوقف المملكة المغربية عن مدّ يدها إلى الجزائر بروح أخوية ومسؤولة، تعكس إيمانها العميق بوحدة المصير المغاربي ومركزية العلاقة بين الشعبين في بناء مستقبل مشترك للمنطقة بكاملها. فقد عبّر المغرب في مناسبات عديدة، وعلى أعلى المستويات، عن استعداده الصادق لفتح صفحة جديدة تتجاوز الخلافات الظرفية، وتؤسس لتعاون استراتيجي يخدم مصالح الشعبين المغربي و الجزائري و باقي الشعوب المغاربية و يعزز الاستقرار والتنمية في المنطقة. وتأتي هذه المبادرات في سياق رؤية بعيدة المدى، ترى في الاندماج المغاربي رافعة لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية والمناخية التي تهدد المنطقة، من الهجرة غير النظامية إلى الإرهاب، مروراً بالتغيرات الجيوسياسية العالمية التي تستدعي موقفاً موحداً ومبادرات تنبثق من إرادة الشعوب لا من حسابات ظرفية ضيقة. إن المغرب، من خلال دعواته المتكررة للحوار والانفتاح، يراهن على تغليب منطق الحكمة والعقل، وعلى مسؤولية تاريخية تفرض على قادة الجزائر تجاوز منطق العداء وبناء فضاء مغاربي متكامل، تتصالح فيه الذاكرة مع المستقبل، وتزدهر فيه قيم التعايش والتعاون والتكامل، بما يعود بالنفع على الأجيال القادمة ويعزز موقع المنطقة في محيطها الإفريقي والمتوسطي والدولي٠
وذكر فأن الذكرى تنفع المومنين
وبأمل كبير فيما سيأتي به المستقبل من فرص تبرز فيها الحكمة و التعقل من أجل التكامل والوحدة، نستحضر صفحات مجيدة من تاريخ التضامن المغاربي المتين، الذي جمع بين شعوب المغرب الكبير في لحظات مفصلية من الكفاح ضد الاستعمار٠
فقد سطّرت شعوب المنطقة أمثلة رفيعة في التآزر والتضامن، كما حدث عند اغتيال الزعيم النقابي التونسي الشهيد فرحات حشاد، وحين تعرضت ساقية سيدي يوسف التونسية للقصف الاستعماري، عقابا على ما تقدمه من دعم لثوار الجزائر٠
كما لا زال المغرب ، ملكا و شعبا، يذكر بعظيم الامتنان و التقدير، الموقف النضالي المشرّف لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي أصدرت فتوى جريئة في أعقاب نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف ( الملك محمد الخامس) أعلنت فيها عن تضامنها المطلق مع السلطان الشرعي للمغرب، واعتبرت كل من شارك في مؤامرة خلعه ونفيه من العلماء والأعيان ورجال الدولة المغربية، مارقًا عن الدين وخائنًا للأمانة. و لم تتردد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
في التنديد بالفعل الشنيع الذي أقدمت عليه سلطات الاستعمار الفرنسي ضد عرش المغرب و شعبه٠
و تضامنا مع المغرب في محنته، قام جيش التحرير الوطني الجزائري بعملية عسكرية، ضد القوات الفرنسية بتاريخ 20 غشت 1955، في شمال قسنطينة، بقيادة العقيد زيغود يوسف، في رسالة واضحة للعدو المشترك مفادها أن مصير الشعوب المغاربية واحد٠
و شكل المغرب، بقيادة المرحوم الملك محمد الخامس، سندًا قويًا وداعمًا صادقًا لكفاح الشعب الجزائري الشقيق من أجل نيل استقلاله، حيث عبّر مرارًا عن دعمه العلني للمقاومة الجزائرية. و واصل الملك الحسن الثاني رحمه الله على هذا النهج، مؤكدًا على مركزية استقلال الجزائر في تحقيق حلم وحدة المغرب الكبير٠ و قد أدى المغرب ثمن دعمه للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، ومن أبرز العمليات العقابية، قصف القوات الفرنسية لمدينة فگيگ سنة 1956، باعتبارها منطقة حدودية كانت تُستعمل من طرف المجاهدين الجزائريين كممر ومقر دعم لوجستي للمقاومة الجزائرية٠
واليوم، يسير جلالة الملك محمد السادس على نفس الدرب، بمدّ يد المصالحة والتعاون والتفاهم، إيمانًا منه بأن مستقبل الشعبين الشقيقين، المغربي والجزائري، بل وكافة شعوب المغرب الكبير، لا يمكن أن يُبنى إلا على أسس من الثقة المتبادلة، وحسن الجوار، والاحترام المتبادل، من أجل تحقيق التنمية والازدهار والسلام الإقليمي و الرد على منطق الاستقواء الذي أصبح سائدا في العلاقات الدولية و الوضع الجيوسياسي العالمي٠
* لوڤن، بلجيكا، 6 غشت 2025
عبدالعزيز سارت