في قلب السينما، كما في قلب الأدب القديم، يقف البطل المأساوي كصورة ملتبسة للإنسان وهو ينهار في مواجهة قَدَره، أو وهو يقف على حافة صراع داخلي لا ينجو منه. ولا ينهار البطل المأساوي في نهاية القصة، بل هو تجسيد لأزمة وجودية معقّدة، لصراع بين الحرية والضرورة، بين الإرادة الفردية وقسوة العالم، بين الرغبة والمعنى. وهو في السينما، تماما كما في التراجيديا الإغريقية، كائن مأهول بالتشقق، محكوم بهواجس تتجاوز الواقع المباشر، وتُلامس الأسئلة الكبرى حول الهوية، والخلاص، والعدالة، والموت.
ظهر البطل المأساوي في السينما متأثرا بالأدب والشعر والمسرح، لكنه اكتسب في الفن السابع أبعادا جديدة، بفضل الصورة والصوت والبُعد البصري الذي يمكنه أن يجسّد المشاعر والانهيارات بشكل محسوس. وقد نسجت أفلام كثيرة هويتها حول هذا البطل الذي لا يخرج منتصرا، بل يخرج مكشوفا، مدمَّرا، أو خاسرا بمعايير الواقع، لكنه يترك وراءه أثرا فكريا وجماليا يتجاوز منطق الانتصار أو الهزيمة. ولا تعتبر المأساة في السينما نهاية حزينة فقط، بل طريقة في الحكي، في الرؤية، في مساءلة الذات والعالم. ومن هنا، يُمكننا أن نتحدث عن “سينما البطل المأساوي” كنوع بصري وفلسفي يتقاطع فيه الجمال مع الفشل، والبطولة مع الهشاشة. كيف ذلك؟
تسبح هذه السينما عكس التيار، في عالم تجاري يفضل البطل الخارق، المنتصر، والسرديات التي تطمئن الجمهور وتمنحه نهاية مغلقة أو انتصارا أخلاقيا واضحا. ويعكّر البطل المأساوي هذا الصفو، لأنه يُجسّد فشل البنية الاجتماعية في احتواء الفرد، أو فشل الفرد في التكيّف مع عالم مفكك. وفي هذا الإطار، يمكن اعتبار أفلام مثل “سائق الطاكسي” (1976)، للمخرج مارتن سكورسيزي، نموذجا خالصا للبطل المأساوي الحديث. فـالبطل “ترافيس بيكل” ليس مجرما بالمعنى التقليدي، بل هو ضحية عزلة قاتلة، شخصية تنزلق نحو العنف لا حبا في القتل بل بحثا عن معنى أو تطهير. ويصور المخرج سكورسيزي هذا البطل كمرآة لمدينة مريضة، نيويورك المتآكلة أخلاقيا في السبعينيات من القرن 20، مما يجعل من ترافيس ضحية وسلاحا في الآن نفسه.
كما تتجلى المأساة بشكل أكثر تأملا من خلال شخصيات مثل أنطوان في فيلم “400 ضربة” (1959) للمخرج الفرنسي فرانسوا تروفو، أو شخصية جان دومينيك في “The Diving Bell and the Butterfly”، (جرس الغوص والفراشة) (2007) للمخرج الأمريكي جوليان شنابل، حيث لا يكمن الصراع في الخارج، بل في الداخل، في الجسد المريض، في الذاكرة، في الطفولة المحطمة. ولا يبحث هؤلاء الأبطال عن نصر، بل عن صوت، عن أثر، عن نظرة يُفهمون بها. وترفض هذه السينما الحلول السريعة، وتتركنا في فضاء أخلاقي رمادي، نبحث فيه عن معنى وسط غياب الإجابة.
ويظهر البطل المأساوي في أفلام المخرج دارين أرونوفسكي مثل “قداس من أجل حلم” أو “المصارع”، باعتباره رمزا لفشل الحلم الأميركي، للحياة التي تستهلك الإنسان وتحوله إلى جسد منهك، أو إلى وهم يبحث عن نجاة وهمية. وتمثل هذه الشخصيات سقوطا لا يُمجد، بل يُفكّك. إنها حالات حدودية تقف على حافة الجنون، الإدمان، الانتحار أو العزلة المطلقة، مما يجعل من الفيلم المأساوي هنا سيرة شعرية للألم والضياع.
تستند سينما البطل المأساوي إلى خلفيات فلسفية وفكرية عميقة، وتنبع من رؤية الإنسان ككائن هش في مواجهة قوى كبرى تتجاوزه، سواء كانت قدرا، مجتمعا، نظاما أخلاقيا، أو صراعه مع ذاته. ولا يظهر البطل المأساوي شخصا شريرا ولا بطلا تقليديا، بل هو شخصية معقدة، تتسم بالضعف والتمزق، تتورط في مسارات لا عودة منها، وتصطدم بحدود قدرتها على الفعل. وتنبع هذه السينما من جذور تراجيدية تعود إلى المسرح اليوناني، حيث نجد أوديب، أنتيغونا، وأجاممنون، شخصيات تعرف نهايتها لكنها تسير نحوها مدفوعة بالقدر أو العناد أو الالتزام الأخلاقي. ونجد في الفلسفة الوجودية صدى لهذا النوع من البطولات عند سارتر وكامو، حيث يكون الإنسان مشروعا عبثيا يسير نحو الحرية والهلاك معا، كما في عبارة كامو “لا يوجد مصير لا يمكن التغلب عليه بالاحتقار”، وكأن البطل المأساوي يرفض أن يُهزم داخليا، حتى لو سقط خارجيا.
ونجد الخلفية الفكرية لهذه السينما مجسدة في أفلام مثل “المصارع” للمخرج دارين أرنوفسكي، حيث البطل راندي يعرف أنه يحتضر، لكنه يفضل أن يموت فوق الحلبة على أن يعيش ميتا في الحياة اليومية، في لحظة تقول فيها الشخصية: “أنا الوحيد الذي يهتم بي هو الجمهور”، فنحن أمام بطل مصلوب بين مجد زائف وحياة جوفاء. ويقدّم ويلي لومان في فيلم “موت بائع متجول” صورة عن البطل الذي تنهار أمامه قيم الحلم الأمريكي، فيسقط ضحية مفارقة بين الواقع والطموح، ونرى في فيلم “الرجل الطائر” البطل ممزقا بين رغبته في الاعتراف وفقدانه السيطرة على ذاته، يتحدث ريغان قائلا: “ما كنا نفعله كان يعني شيئا… أليس كذلك؟”، في محاولة لإيجاد معنى في فراغ الوجود.
وتقوم الخلفية الفلسفية لهذا البطل على تصادم الإنسان مع الأسئلة الكبرى: من أنا؟ هل لما أفعله معنى؟ ماذا أفعل حين لا تُنقذني الحقيقة ولا ينصفني العالم؟ لذا تمثل سينما البطل المأساوي نوعا من التفكير الأخلاقي والجمالي في الإنسان في لحظة السقوط حين لا يبقى شيء سوى الصدق المؤلم.
يتميّز البطل المأساوي في السينما بكونه شخصية معذبة تمزج بين العظمة والانكسار، وبين السمو الأخلاقي والسقوط المأساوي. إنه ليس بطلا منتصرا بل شخصية تقف في مفترق طرق أخلاقي ونفسي، وتواجه قدرا يبدو أكبر من قدرتها على الاحتمال. ولا يُقاس هذا البطل بما يحققه من نجاحات، بل بما يعانيه من تمزقات داخلية وخسائر تؤسس لإنسانيته العميقة، فجوهر المأساة ليس في الحدث، بل في الشخص الذي يعيش التمزق ويتحوّل إلى مرآة تعكس قلق الوجود وصراع المصير وعبثية الحياة.
يستند البطل المأساوي إلى إرث تراجيدي يمتد من المسرح الإغريقي إلى أطروحات نيتشه عن الإنسان الأعلى الذي لا يهرب من الألم، بل يواجهه بوصفه ضرورة للوعي، ومن سارتر الذي يرى في الحرية عبئا لا خلاصا، ومن كامو الذي يقدّم سيزيف رمزا للعبث الواعي وهو يجر صخرته كل يوم دون وعد بالخلاص لكن مع عناد هادئ.
تنعكس هذ المرجعيات في شخصيات سينمائية كما في فيلم “العراب” (1972)، للمخرج فرنسيس فورد كوبولا، حيث يبدأ مايكل كورليوني كابن صالح يريد الإصلاح ثم يتحول إلى طاغية تحكمه العزلة والموت الداخلي، أو في فيلم “موت بائع متجول” (1985)، للمخرج فولكر شلوندروف، حيث البطل ويلي لومان (داستن هوفمان) ينكسر تحت وطأة الحلم الأمريكي الذي لم يُخلق لأمثاله، أو في فيلم “المصارع” (2008)، للمخرج دارين أرنوفسكي، حيث البطل راندي روبنسون لا يملك شيئا سوى لحظة مجده الأخيرة وسط دماء المصارعة.
تحكم هذا البطل ميكانزمات متعددة، منها الإخفاق الوجودي؛ إذ يعيش البطل أزمة معنى تجعله يفشل في التلاؤم مع محيطه. ومنها التراجيديا الأخلاقية؛ إذ يجد نفسه ممزقا بين قيمه واختياراته التي تفرضها قوى خارجية أو داخلية فتقوده إلى السقوط. ومنها الحتمية القدرية؛ إذ يبدو وكأن مسار الشخصية موجه منذ البداية نحو الخسارة وكأنها تعيش لتُعاقَب على وعيها أو حريتها أو شجاعتها المفرطة.
يتميّز هذا البطل أيضا بالحساسية المفرطة والانكشاف العاطفي وكأن كل ما حوله مسرح مؤلم لذاته المنكسرة، وهو ما نراه في شخصية ترافيس بيكل في “سائق الطاكسي”، الذي يحاول إنقاذ العالم من انحطاطه لكنه ينجرف بدوره إلى العنف، أو شخصية نينا في فيلم “البجعة السوداء”، التي تمزج بين الطهارة والهوس فتتحول إلى أيقونة مأساوية تبحث عن الكمال حتى الموت.
سينمائيا، تنتمي هذه الشخصيات إلى سينما القلق وسينما الذات وسينما المقاومة الداخلية حيث لا يكون الخارج سوى امتداد لعاصفة داخلية في ذات تمزقها الشكوك وتفتتها الرغبات المجهضة، ومهما بدت هذه الشخصيات مأزومة فهي تملك نوعا من النبل المأساوي الذي يجعل من سقوطها لحظة وعي للحياة والوجود والحرية.
تطرح سينما البطل المأساوي بعلاقتها بالزمن، وغالبا ما تكون هذه الشخصيات عالقة في لحظة ما، في ذكرى أو خيانة أو موت أو قيد عائلي، ولا تستطيع العبور نحو المستقبل. ويتحول الزمن عندها إلى سجن داخلي، كما في فيلم “مانشستر على البحر” (2016)، للمخرج كينيت لونييرغان، حيث لا يتمكن البطل من مغادرة حزنه، وتبقى المأساة هنا غير قابلة للحل، بل فقط للتقبل والتأمل.
كما أن هذه السينما تطرح إشكالية الضمير، ففي أفلام مثل “اختفت الطفلة إلى الأبد” (2007)، للمخرج بن افليك، حيث يغدو القرار الأخلاقي مستحيلا: هل تُعاد الطفلة لأسرتها البيولوجية المضطربة أم تترك في وضع غير قانوني لكنه أكثر أمانا؟ هنا، ليست المأساة في النتيجة، بل في ثقل القرار، في وعي الشخصية بأنه مهما فعل سيخسر شيئا جوهريا. وتكشف هذه اللحظات هشاشة الإنسان أمام الأخلاق، وتحول السينما إلى فضاء أخلاقي مركب لا يحتمل الأبيض والأسود.
وتبرز في سينما البطل المأساوي فكرة الوعي المزدوج، حيث يدرك البطل أنه ينهار، وأنه عاجز عن النجاة. ويجعله هذا النوع من الوعي أكثر نبلا، لكنه لا ينقذه. ففي “No Country for Old Men” (لا وطن للعجائز) (2007)، للمخرجين جويل وإيثان كوين، مثلا، يُطارد البطل من قبل شرٍّ لا يمكن السيطرة عليه، شرّ لا عقل له ولا وجه، وهو ما ينعكس في الحوارات العميقة التي تكشف أن العالم أصبح مائعا، مفككا، ولا مكان فيه للقيم القديمة. وهنا تكمن مأساة البطل، وهي مأساة الإنسان المعاصر: فقدان المعنى في عالم بلا قواعد ثابتة.
ولعل من أجمل ما تمنحه هذه السينما للمشاهد، هو شعور نادر بالتماهي الصادق. فلا يرى المشاهد لا بطلا خارقا، بل يرى نفسه، يرى فشله، وحدته، محاولاته غير المكتملة. ويرى العالم كما هو: غير عادل، مفككا، وغير قابل للتفسير الكامل. وهذا التماهي هو ما يجعل سينما البطل المأساوي مقاومة للنسيان، لأنها لا تروّض الحزن، ولا تُجمّل الهزيمة، بل تُعريها وتقدّمها كما هي، مادة للوعي، والتأمل، وربما للشفاء.
وقدّمت السينما الإيرانية واليابانية أيضا نماذج فريدة لهذا البطل، لكنها غالبا ما مزجت المأساوي بالروحاني، كما في أفلام الياباني أكيرا كوروساوا أو عباس كيارستمي، حيث يقف البطل في مواجهة الموت أو الصمت، ليس بغرض الانتصار بل ليقول شيئا أخيرا للعالم. في هذه السينما، المأساة ليست درامية فقط، بل وجودية، تأملية، ذات بعد صوفي تقريبا، ما يجعل منها تجربة بصرية وروحية في آن واحد.
ويمكن القول إن سينما البطل المأساوي ليست فقط شكلا من أشكال التعبير الدرامي، بل هي رؤية للعالم، للضعف الإنساني، للعدالة الغائبة، وللأسئلة التي لا إجابات عنها. وهي سينما تُشبه صمت الإنسان أمام قدره، لكنها تمنحه وسيلة لكي ينطق بالألم، لا ليهرب منه، بل ليصادقه. وهذا ما يجعلها ضرورية، ومؤثرة، بل وجميلة على نحو يلامس جوهر الفن ذاته.
تميل هذه السينما في عمقها إلى الاستعراض البصري وترويض المعنى، تقف سينما البطل المأساوي كخطاب مقاومة، لا يقدّم بطلا خارقا بل يكشف هشاشة الإنسان في مواجهة ذاته والعالم. وهذه السينما لا تحفل بالنهايات السعيدة ولا تسترضي المتفرج بحلول سهلة، بل تفتح جراح الأسئلة وتتركها تنزف على الشاشة. ولعل أحد أهم ملامحها أنها لا تهرب من التصدع بل تسكن فيه، وتمنحنا صوتا لحالة إنسانية مأزومة تعاني من الوعي المفرط واللاجدوى وانهيار اليقين. من هنا، فإن السؤال عن أبعاد هذه السينما وهويتها وسردها وخطابها ليس سؤالا تقنيا بقدر ما هو استدعاء لفهم فلسفة جمالية كاملة تشتبك مع أسئلة الإنسان الجوهرية.
أول أبعاد هذه السينما هو البعد الوجودي حيث تتحرك شخصياتها في فضاء من القلق والاغتراب وفقدان المعنى. ولا تنهار هذه السينما بشكل مأساوي فقط لأنها تفشل، بل لأن ما تطمح إليه يصبح مستحيلا في عالم مفكك. ونتابع في فيلم مثل “The Machinist” (مشغل الآلة) (2008)، للمخرج الأمريكي براد أندرسون، شخصية تريفور، العامل الذي يعاني من الأرق حتى يختفي جسده تدريجيا في صورة مرعبة لفقدان الذات، لكن المأساة الحقيقية ليست جسدية بل روحية، فقد تريفور قدرته على التمييز بين الوهم والحقيقة، بين الشعور بالذنب والنجاة. في لحظة مواجهة ذاته يقول بصوت خافت وهو يُسلّم نفسه للعدالة: “أريد أن أنام”، وهو بذلك لا يبحث عن نوم بيولوجي، بل عن راحة وجودية، عن غفران مستحيل.
أما البعد الثاني فهو النفسي–الاجتماعي؛ إذ إن هذه السينما لا تفصل الذات عن السياق، بل تضع الشخصية دائما في مواجهة مجتمع ظالم أو غير مكترث أو خادع. في فيلم “الجوكر” (2019)، للمخرج تود فيليبس، نرى شخصية آرثر فليك وهو ينحدر من هامش المجتمع إلى قاع الجنون، لأن العالم من حوله لا يعترف بوجوده أصلا. يقول آرثر في لحظة اعتراف تلفزيوني: “كل ما لدي هو الأفكار السلبية”، وهي عبارة تختصر هوية البطل المأساوي في السينما المعاصرة: ذات مخنوقة، صوت مبحوح، وسط عالم لا يسمع. ولا تصور هذه السينما المأساة فقط كفشل فردي بل كخلل في البنية الأخلاقية للمجتمع، كتشظٍ بين الداخل والخارج، بين ما يجب أن يكون وما هو كائن.
تبدو الهوية في سينما البطل المأساوي غير واضحة أو جاهزة، بل تتشكل من خلال التشقق. ولا تصنع هذه السينما نماذج نمطية، بل تشتغل على شخصية مأزومة تتبدل باستمرار.
وتتفتت الهوية هنا وتتصارع، وتتأمل ذاتها في مرايا مهشّمة. ونتابع في فيلم “الرجل الطائر” (2014)، للمخرج أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، شخصية ريجان طومسون، الممثل الذي يسكنه صوت بطله السابق ويتحول تدريجيا إلى شخصية تبحث عن خلاص فني أو روحي، في عالم استهلاكي لا يعترف بالقيمة، يقول ريجان: “أنا لا أكون شيئا بدون هذا الدور”، فيكشف لنا كيف أن الهوية نفسها قد تتحول إلى قيد، وكيف يصبح السقوط حتميا حين يحاول الإنسان أن يتجاوز ذاته من خلال أقنعة مزيفة.
يتسم خطاب هذه السينما لا بالوعظ أو التفكيك. ولا تسعى هذه الأعمال إلى تقديم موعظة أخلاقية أو دروس جاهزة بل تعرّي البنى الأخلاقية السائدة، وتكشف تناقضاتها. ويشتغل الخطاب هنا غالبا بصمت، مموّه، على الطبقات العميقة من المعنى. ولا نجد فيلم “انفصال” (2011)، للمخرج أصغر فرهادي، شريرا واضحا أو بطلا نموذجيا، بل سلسلة من القرارات الأخلاقية المتشابكة، حيث كل شخصية تمارس حقها، وفي الوقت ذاته تدفع ثمنه. ولا يدين الخطاب هنا أحدا لكنه يحمّل الجميع مسؤولية جماعية. وفي هذا السياق، البطل المأساوي ليس هو من يفشل، بل هو من يرى الحقيقة واضحة لكنه لا يملك القوة لتغييرها، فيتحول إلى كائن محاصر بضميره، كما في قول القاضي في الفيلم: “كل ما أريده هو الحقيقة، لكن ما هي الحقيقة فعلا؟”.
لا يخضع السرد الفيلمي في سينما البطل المأساوي للخطية الكلاسيكية، بل يتمرد عليها. ولا يتحرك الزمن من البداية إلى النهاية بوضوح، بل يتشظى، يتكرر، يتوقف، يتداخل مع الذاكرة أو الحلم. وتتورط الكاميرا في الحكي لا كمجرد وسيلة، بل ككائن بصري له حساسية داخلية. وفي فيلم “الصفاء الأبدي لعقل طاهر” (2004)، للمخرج الفرنسي مايكل غوندري، يتم سرد القصة من داخل ذهن البطل وهو يفقد ذكرياته تدريجيا. ولا تكمن المأساة هنا في الفقد، بل في الوعي به، بكونها تحاول الإمساك بذكرى الحب بينما تتلاشى أمامك. في أحد أجمل اقتباسات داخل الفيلم، تقول كليمنتاين: “أنا فقط فتاة مضطربة تبحث عن السلام”، وهو ما يُعبّر عن روح هذه السينما حيث كل شخصية هي سؤال مفتوح لا إجابة عليه.
ويستخدم السرد أيضا في هذه الأفلام غالبا الصمت والمجاز والرمز كأدوات للتكثيف. ولا يشرح الفيلم كثيرا، بل يترك للمشاهد مهمة التأويل. ولا نجد في فيلم “The Piano Teacher” (معلمة البيانو) (2001)، للمخرج النمساوي مايكل هانيكه، سردا واضحا للألم، لكن الجسد والوجه واللعب على الإيقاع يبوح بكل شيء، وهنا البطلة عالقة بين سلطة الأم وقيود الجسد ورغبة لا تُمارس، فتصبح المأساة أشبه بموسيقى مكتومة، نسمعها رغم أنها لا تُعزف. ويشبه السرد الفيلمي هنا مقطوعة شوبينية تفيض بالعاطفة لكنها لا تتوسل الشفقة، بل تفرض وجعها بصمتٍ أنيق.
ومن المثير أن السينما العربية قدمت بدورها نماذج لافتة لهذا البطل، ولو في سياقات مختلفة. ففي فيلم “باب الحديد” لصلاح أبو سيف، شخصية قناوي التي أداها يوسف شاهين تمثل مأساة العزلة والجنون، حيث يتحول الهوس بالحب إلى قنبلة موقوتة. ولا نعرف هل هو مجرم أم ضحية، عاشق أم مختل، وكل ذلك يعمق المأساة. ويظهر في فيلم “إبداع” لمحمد ملص أو في أفلام محمد خان المصرية، البطل ككائن مكسور بين بنية اجتماعية خانقة ووعي فردي عاجز. ولا يملك البطل هنا أدوات التمرد الكلي، لكنه يتمزق داخليا، وهو ما يجعل من وجوده مأساويا.
وإذا عدنا إلى السينما اليابانية، وجدنا أن أكيرا كوروساوا قدم بصمات لا تُنسى لهذا النوع، خاصة في فيلم “Ikiru” (أن تحيا) (1952) حيث يعيش موظف بيروقراطي بسيط تجربة موت وشيك تجعله يُعيد بناء رؤيته للعالم، يقول بطل الفيلم: “الأمر ليس أنني خائف من الموت، بل من أنني لم أعش حقا”، وتُلخّص هذه العبارة فلسفة البطل المأساوي: هو من يرى الحقيقة متأخرا، ويقع عليه عبء المعرفة لا عبء المصير فقط. وتكمن المأساة هنا ليست في الموت، بل في أن نكتشف متأخرين أننا لم نحب أو نغيّر أو نعش كما كنا نريد.
وتفتح سينما البطل المأساوي أفقا نحو السؤال الأخلاقي، حيث تنعدم الحدود الواضحة بين الخير والشر. في “Prisoners” (السجناء) (2013)، للمخرج الكندي دينيس فيلنوف، نتعاطف مع أب يبحث عن ابنته المخطوفة، لكنه في النهاية يتحول إلى جلّاد، فيسجن ويعذّب شخصا مشكوكا فيه. ولا يقدّم الفيلم حكما بل يضعنا في فخ أخلاقي مؤلم: ماذا لو كان الظلم هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدالة؟ ولا يتورع هنا البطل المأساوي عن الفعل، ثم يُترك لاحقا ليعيش مع الندم.
تظل سينما البطل المأساوي ملاذا للذين يؤمنون بأن الفن لا يجب أن يكون ترفيهيا فقط، بل كشفا للحقيقة، ولو كانت مؤلمة، بينما تغرق السينما التجارية في صناعة الخارقين. ولا تخشى سينما البطل المأساوي من الظل، ولا تتورع عن ملامسة أكثر الزوايا تعقيدا في النفس البشرية. وتمتد أبعادها من الوجودي إلى الأخلاقي، من الشخصي إلى المجتمعي، ومن الجمالي إلى النفسي. وتتأسس هويتها ليس فقط في الشكل بل في الجرأة على طرح السؤال دون وعد بالإجابة. ولا يُملى خطابها، بل يُشعَر، وسردها لا يُبنى على الحبكة، بل على التجربة.
في هذا الزمن الذي تزداد فيه الحاجة إلى المعنى، تبدو هذه السينما وكأنها همس مقاومة في عتمة كثيفة، صوت داخلي يقول لنا إن الضعف جزء من الإنسان، وإن العظمة ليست في النجاة، بل في الاعتراف بالهشاشة ومواصلة السير رغم كل شيء. تذكّرنا هذه السينما، في زمن الخلاص السريع، أن المأساة ليست فشلا، بل شكل آخر من أشكال الإدراك العميق، وأن أجمل الحكايات ليست التي تنتهي بالسعادة، بل تلك التي تتركنا في صمتٍ طويل بعد انطفاء الشاشة.
يمكن أن نقف طويلا أمام العبارة التي تفوه بها ترافيس بيكل في فيلم “سائق الطاكسي”، بصوت متعب وبعينين فارغتين من الأمل، حين قال: “أنا لا أكون شيئا، لا أحد يلاحظني، أختفي خلف الزجاج”. وقد تبدو هذه الجملة العابرة مجرد هلوسة لرجل تائه لكنها تختصر في الحقيقة كل ما تمثله سينما البطل المأساوي. إنها ليست فقط حكاية شخص ينهار بل مرآة لزمن يشيّء الإنسان ويدفعه إلى التلاشي. إنها صرخة مكتومة في وجه عالم لا يرى ولا يسمع بل يسير بثبات نحو التجاهل العام. ولا تحتفي هذه السينما بالسقوط لأجل السقوط والهاوية لكنها تجعل من الهزيمة لحظة وعي، ومن الانكسار نقطة تحول، ومن الصمت وسيلة لفهم الضجيج، ومن الألم بابا لفهم المعنى. ويسطع في قلب العتمة هذا النوع من الفن ليقول لنا إن البطل ليس من ينتصر بل من يصمد في وجه العبث ولو بنظرته الأخيرة. ولعل أعظم ما تمنحه هذه السينما هو هذا الإدراك المؤلم بأن الجمال الحقيقي لا يكمن في النهاية السعيدة بل في أن تروي القصة بكل صدق حتى وإن كانت نهايتها فاجعة.