قال المفكر وعالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب إنه لا يوجد أيّ قُطر في العالم “أساء إلى قضيّة فلسطين أكثر من العرب أنفسهم”، معتبرا أن “إسرائيل استفادت كثيرا من التسميات التي كانت تُطلق على نزاعها مع العرب، بدءا من “الصراع العربي- الإسرائيلي”؛ فقد كانت الدولة العبريّة “تبدو وكأنها محاطة بالعرب الأعداء”، ولكن هؤلاء العرب سيأتي يوم وسيقولون فيه: “أُكلنا يومَ أُكل المعنى في غزة”.
هكذا، أضاف لبيب من طنجة، الجمعة، كلمة جديدة (المعنى) إلى جملة صرّح بها في أحد حواراته سابقًا، وانتشرت بشكل واسع في وسائط التواصل الاجتماعي. وقال فيها: “سيقول العرب يوما.. أُكلنا يوم أكلت غزّة”؛ بيد أنه تصرّف في مقولته هذه المرّة لتلائم مضامين عنوان ندوة “التفكير في اللامعنى.. محاولة لفهم ما يجري”؛ وهو اللّقاء الفكري المنعقد على هامش مهرجان “ثويزا” الثقافي في دورته التاسعة عشرة، تحت شعار “نحو الغد الذي يسمى الإنسان”.
هذه المقولة التي تستلهم عمق المثل الشهير: “أكلنا يوم أكل الثور الأبيض” عضّدها المفكر التونسي بفكرة رديفة تعتبر أن “ذروة العبثية العربية اليوم هو ما يحدث في غزة”. وتابع: “لا يمكن أن أتحدث عن المعنى ولا أستحضر هذا المثال؛ هذا المشهد الأساسي التراجيدي، الذي يتفرّج عليه العرب كما كانوا يتفرجون على تراجيدية يونانية.. يجلسون فوق على الكراسي ويصفقون عليها”.
وبدا الباحث التونسي البارز “قاسيا” في حق العرب، حين صرّح بأن “ما يحدث في غزة يكشف عبثية الرؤية العربية والموقف العربي”، وقال: “أعتقد أن غزة عرّت وفضحت اللامعنى العربي، الذي كان يتقنّع قناع المعنى، أي الذي كان يضع على وجهه قناع المعنى”. وتابع: “لا نعرف من يتساءل اليوم: ما هو المعنى الذي سيبنيه من سيتبقى من أطفال فلسطين؟ كيف سيتمّ البناء؟ كيف سيكون هذا المعنى؟ أكيد أنه ليس معنى اليوم، بل سيكون معنى آخر لا نعرفه الآن.. وهذا هو أمل المعنى”.
وفي محاولته لمدّ الجسور الإبستمولوجيّة بين نقيضين نظريّا: المعنى واللامعنى، أكد صاحب “سوسيولوجيا الثقافة العربية” أن هذا المرور من المعنى إلى الاهتمام باللامعنى بمثابة “مغامرة جديدة”، خصوصًا أنهما “لا ينفصلان”، أي “ليسا حقلين متباعدين، فكل منهما يتسرب إلى الآخر بطرق وآليات مختلفة”. ولهذا، توقّع إمكانية بزور “علم جديد” يحمل توقيع “اللامعنلوجيا”.
وأضاف المتدخل في اللقاء الثقافي عينه شارحا: “من الممكن أن ينشأ يومًا ما علم جديد في ‘اللامعنى’، يبحث في كيف يُعبَّر عنه، ما هي آلياته، وما هو نحوه، وصرفه، وبلامته، وغير ذلك”، وساند هذا الطرح ببلاغة الواقع المغاربي، الذي يوفر كل صور البلاغة وحواملها.
وتابع: “نقول إن شوارعنا هي فضاء عنف لفظي، ونقول فيها ما لم يقله مالك في الخمر. لكن الشارع، في لهجته، وعنفه، وفحشه أحيانًا، هو أبلغ مكان في السياق المغاربي”.
وزاد قائلاً: “تذكّروا أو استحضروا كيف يسبّ الواحد الآخر، وكيف ينعته؛ ففي الشارع ما يُقال فيه كل أوجه البلاغة من الكناية إلى الاستعارة والتشبيه. ومن ثم، لا يحق لنا أن ننظر إليه بمنظور أخلاقي وإنما يتطلّب الأمر تفكيكه كما يجري تفكيك ‘المعنى’ في الوقت الحالي”، أي أن ما يُنظر إليه كأنه مألوف و”تافه” أو غير مفكّر فيه، بحاجة إلى جهد نظري حقيقي.
وفي هذا المسار، اقترح لبيب الحديث عمّا سمّاه “ثقافة اللامعنى” وقدّم لها تعريفًا مؤقّتا، وهو كالتالي: “هي ثقافة تعيد تدوير الحسّ المشترك الخام، القابل للاستعمال في تسطيح الفكر والفعل، وفي تسطيح العلاقة بين الناس وبين الناس والعالم والواقع، وذلك باعتبارها وسيلة سهلة مشاعة ومتاحة لتوسيع التواصل المابين-ذاتي إلى حدود جماعية يكتسب فيها ما قد نعتبره تفاهةً معنىً. وهذا اللامعنى يتكون شيئا فشيئا كنسق وبراديغم يتوق إلى السيادة؛ أن يكون هو الثقافة السائدة، أي بمثابة سلطة”.