يحرص الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في كل زيارة خارجية له أو في استقبال أي مسؤول أجنبي في الجزائر، على إعادة التأكيد على موقف بلاده الثابت بشأن دعم “البوليساريو” في إقامة دولتها المزعومة في الصحراء، وعلى إبراز وجود توافق في الرؤى بشأن هذا الملف؛ غير أن هذه العادة السياسية غابت خلال زيارة تبون الأخيرة إلى إيطاليا، حيث بدت تصريحاته أقل تشددا وحدة، وهو ما يطرح تساؤلات حول ما إن كانت الجزائر بصدد إعادة تقييم موقفها الدبلوماسي أم إنها تسعى فقط إلى تجنب خروج روما بموقف مؤيد لمقاربة الرباط بشأن تسوية هذا النزاع.
وعلى غرار حضور مصطلحات من قبل “الاستقلال” و”الاستفتاء” و”تصفية الاستعمار” في لقاءاته مع مسؤولي الدول مثلما حدث مؤخرا مع رئيس زيمبابوي، اكتفى الرئيس الجزائري، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية، بالقول إن “البلديْن جدّدا التأكيد على دعم جهود المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء لإيجاد حل سياسي عادل وفق الشرعية الدولية، يمكّن الشعب الصحراوي من ممارسة حقه في تقرير المصير”، حسب تعبيره.
محمد الغيث ماء العينين، عضو المركز الدولي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات، قال إن “تصريحات الرئاسة أو الخارجية الجزائريتين المتعلقة بملف الصحراء المغربية لا يمكن فهمها أبدا من منطق عقلاني دولاتي مسؤول؛ إذ تنطوي على كثير من التناقض والتضارب”.
وأضاف ماء العينين، في تصريح لهسبريس، أن “هذا التناقض يبرز أساسا في ادعاء الجزائر دعم الحل السلمي وتأييد مبادئ الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن، بينما تستمر في الوقت ذاته في عرقلة مسار التسوية السلمية. كما يبرز هذا التناقض في مطالبتها بتطبيق قرارات مجلس الأمن مقابل حصر هذه القرارات في تلك الصادرة قبل 1990 والتغاضي عن القرارات التي بعد هذا التاريخ، بل والذهاب أحيانا في اتجاه اتهام مجلس الأمن بالانحياز لصالح المغرب”.
وتابع المتحدث ذاته: “زيارة الرئيس الجزائري إلى إيطاليا كانت دون أهداف واضحة، وكانت فقط من أجل الظهور واستباق أي موقف قد يصدر عن روما بشأن ملف الوحدة الترابية للمملكة يكون مشابها لموقف إسبانيا أو فرنسا أو الموقف البرتغالي الأخير الداعم لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية باعتباره الحل الأكثر واقعية لهذا النزاع المفتعل”.
وذكر عضو المركز الدولي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات أن “كل محاولات الجزائر للتأثير على مواقف الدول بشأن هذه القضية من خلال استغلال ورقة الطاقة والغاز باءت بالفشل كما حدث مع إسبانيا ويحدث الآن مع إيطاليا، على الرغم من أن هذه الدول ترفض منطق الابتزاز ولا تربط مواقفها من هذه القضية بالمصالح الاقتصادية مع الجزائر على المستوى الطاقي، والجزائر باتت مدركة لهذا الأمر؛ وهو ما دفعها إلى محاولة استعادة علاقتها مع مدريد بعدما لوحت في وجهها بورقة الغاز، لأن هذا النهج الجزائري لا يمكن إلا أن يدفع هذه الدول إلى البحث عن بدائل طاقية أو الانخراط في المشاريع الطموحة كمشروع أنبوب الغاز المغربي النيجيري”.
من جهته، أكد جواد القسمي، باحث في العلاقات الدولية والقانون الدولي، أنه “بالنظر إلى الخطاب الرسمي الجزائري السابق والتطورات التي عرفتها قضية الصحراء على مستوى المواقف الدولية، يمكن القول بأن التصريح الأخير لتبون، الذي جدد فيه دعمه لحل سياسي ‘يمكن الشعب الصحراوي من ممارسة حقه الشرعي في تقرير المصير’ دون ذكر صريح لكلمة ‘الاستفتاء’، يمثل تحولا لافتا في الخطاب الرسمي الجزائري”.
وأضاف القسمي، في تصريح لجريدة هسبريس، أن “الأمر لا يتعلق فقط بمجرد تفصيل لغوي عابر؛ بل قد يكون مؤشرا على محاولة التكيف مع واقع دولي متغير، من خلال التخلي عن مصطلح أصبح يشكل عقبة أمام الخطاب الجزائري، وتجنب الصدام مع شركائه الأوروبيين، مع الحفاظ في الوقت نفسه على هامش للمناورة”.
وتابع الباحث المتخصص في العلاقات الدولية والقانون الدولي أن “الجزائر قد تكون أدركت مؤخرا أن التمسك بخطاب ‘الاستفتاء’ كآلية وحيدة للحل قد أصبح أمرا متجاوزا وغير واقعي في منظار أغلب الدول الأوروبية، بما فيها إيطاليا، وأن أغلب هذه الدول تدعم حلا واقعيا وعمليا ومستداما؛ وهي صفات غدت لصيقة بالمبادرة المغربية للحكم الذاتي، وأن الإصرار على المصطلح ذاته (الاستفتاء) سيضعها في تصادم مع هذا الإجماع”.
وأبرز المتحدث عينه أن “هذا التخلي المؤقت عن مصطلح ‘الاستفتاء’ إن تم بنظرة التكيف الاستراتيجي سيمنح دبلوماسية الجزائر مرونة كبرى في حواراتها مع الشركاء الأوروبيين، دون الدخول في جدل عقيم حول آلية أصبحت مستحيلة التطبيق واقعيا، حيث إن التركيز على مبدأ تقرير المصير يعد أكثر مرونة وقبولا في القانون الدولي، بل ويمكن تفسيره بطرق مختلفة”.
وسجل القسمي أن “هناك إدراكا متزايدا في الجزائر بأن موازين القوى على الصعيدين الإقليمي والدولي تغيرت، وأن هناك دعما متناميا للمبادرة المغربية، وهناك افتتاحا للقنصليات في الصحراء، وهناك تغيرا لمواقف الكثير من الدول، وكلها مؤشرات تؤكد أن الاستفتاء لم يعد خيارا مطروحا بقوة. هنا قد يعد هذا التصريح اعترافا ضمنيا بواقع جديد ومحاولة التكيف معه”.
وخلص الباحث ذاته إلى أن “هذا الغموض سيسمح للجزائر بالحفاظ على موقفها القديم الداعم لـ’تقرير المصير’، وفي الوقت نفسه لا يغلق الباب أمام المسار السياسي المدعوم من الأمم المتحدة، الذي أصبحت المبادرة المغربية للحكم الذاتي أساسه”، معتبرا أن “قادم التصريحات والخرجات الدبلوماسية للجزائر ستبيّن ما إذا كان الأمر يعكس نضجا وبراغماتية دبلوماسية، ورغبة في إعادة التموضع في المشهد الدولي وتجنب التصادم مع شركائها، أم مجرد تفصيل لغوي عابر ليس إلا”.