فيلم The Front Runner (المرشح الأكثر حظا) من إخراج جيسون رايتمان ينتمي إلى نوع خاص من السينما السياسية التي لا تسعى إلى إصدار أحكام مباشرة بقدر ما تنقب في أخلاقيات العمل السياسي وإشكاليات العلاقة بين المواطن والإعلام والجمهور، وهي سينما تعتمد على تقديم الشخصيات لا بصفتها رموزا أو أبطالا؛ بل بوصفها كيانات معقدة مليئة بالتناقضات. وتغلب على هذا النوع الخاص من السينما المقاربة الإنسانية التي تترك للمشاهد الحكم من خلال إعادة عرض الوقائع من زوايا متعددة.
يواصل المخرج جيسون رايتمان مشروعه الذي يجمع بين النقد الاجتماعي وبين الحساسية النفسية؛ من خلال معالجة توترات اللحظة السياسية الأمريكية عبر قصة حقيقية جرت في أواخر الثمانينيات، وتحديدا سنة 1987 حين ظهر السيناتور الديمقراطي غاري هارت كمرشح واعد للانتخابات الرئاسية الأمريكية قبل أن تتحطم طموحاته بفعل فضيحة أخلاقية مرتبطة بعلاقة غير مشروعة تم تضخيمها إعلاميا إلى درجة قلبت الرأي العام. كيف ذلك؟
يتخذ فيلم “المرشح الأكثر حظا” أو “المنافس الأول” (2018 / مدة الفيلم 113 دقيقة) من هذه القصة مدخلا لمساءلة الحدود الفاصلة بين الحياة الخاصة وبين الحياة السياسية. ويطرح الفيلم سؤالا جوهريا عن مدى أحقية الإعلام والجمهور في التدخل فيما هو شخصي، وما إذا كان من المشروع تدمير مستقبل سياسي كامل فقط؛ لأن صاحبه لم يكن وفيا في زواجه دون أن يكون ذلك بالضرورة مؤشرا على خلل في رؤيته أو مشروعه السياسي؟
يتتبع الفيلم تطور هذه القصة من لحظة تصدر غاري هارت السباق نحو البيت الأبيض إلى لحظة انهياره الكامل نتيجة نشر الصحافة لصور وعناوين تتعلق بعلاقته مع دونا رايس، ويبرز كيف أن وسائل الإعلام آنذاك دخلت مرحلة جديدة تخلّت فيها عن فكرة الحياد الإخباري وبدأت تلهث وراء الإثارة وتحقيق السبق دون حساب لتأثير ذلك على الحياة العامة وعلى مصير الأشخاص.
يتعامل الفيلم مع هارت لا بوصفه ضحية ولا مذنبا؛ بل كشخصية تراجيدية تقف في مفترق طرق بين زمنين مختلفين زمن كانت فيه السياسة تتعلق بالأفكار والمشاريع وزمن بدأت تتحكم فيه الصورة والعناوين المشتعلة. ومن هنا، فإن الفيلم لا يروي فقط قصة سقوط سياسي؛ بل يسلط الضوء على نقطة تحول في الثقافة السياسية الأمريكية نفسها، أي على لحظة بدأ فيها السياسي يُختزل في حياته الشخصية وصورته في الإعلام لا في برامجه أو أفكاره. كما يستعرض الفيلم العلاقة المتوترة بين الصحافيين وبين السياسيين، ويضعنا في قلب مكاتب التحرير حيث تدور مناقشات أخلاقية حول ما إذا كان من المشروع ملاحقة مرشح سياسي والتجسس على بيته وتفسير حياته الخاصة كقضية رأي عام.
ويطرح الفيلم مفهوم المسؤولية العامة، وما إذا كانت تتطلب مثالا أخلاقيا كاملا أم أنها تتعلق بالكفاءة والمشروع. ويعيدنا الفيلم إلى سؤال قديم جديد حول قدرة الديمقراطية على التمييز بين الزيف وبين الحقيقة في زمن تتحول فيه الحياة السياسية إلى عرض إعلامي مستمر. كما يتعرض الفيلم لمسألة الذكورية السائدة في الوسط السياسي وطريقة تعامل الإعلام مع النساء، خاصة من يقعن في قلب الفضائح حيث يتم تصويرهن كمجرد عناصر جاذبة للفضول دون اعتبار لكرامتهن أو قصصهن.
ويجمع الفيلم بين الرصانة في الكتابة وبين السرعة في السرد الفيلمي دون أن يفقد حسه النقدي المتوازن؛ فهو لا يدين الإعلام بالكامل، ولا يبرئ السياسي؛ لكنه يكشف آليات التصادم بين سلطتين سلطة الكلمة وسلطة القرار في مجتمع يتحول بسرعة ويبحث عن نموذج جديد للزعيم في زمن الصورة. وعلى الرغم من كونه يعرض أحداثا وقعت في أواخر الثمانينيات فإن الفيلم يبدو معاصرا جدا؛ لأنه يسبق بزمن قليل انتخاب دونالد ترامب ويرصد اللحظة التي بدأت فيها أمريكا تتغير بشكل جذري.
إن The Front Runner ليس مجرد فيلم عن سقوط سياسي؛ بل هو عمل تأملي في طبيعة النظام الديمقراطي نفسه وفي هشاشة الصورة العامة، وفي كيف يمكن لحقيقة واحدة أن تُنسف بفعل العنوان المناسب أو الصورة المناسبة. ويوجه الفيلم أسئلة أكثر مما يعطي أجوبة، ويتركنا أمام مرآة السياسة والإعلام لنتأمل في من يملك فعلا السلطة في مجتمعات تدّعي الحرية.
تتميز سينما جيسون رايتمان بخصوصية سردية وأسلوب بصري وفكري يجعلها تنتمي إلى التيار الأمريكي المستقل وإلى السينما المستقلة. وعلى الرغم من انخراطه في إنتاجات هوليودية معروفة فهي ليست سينما تجارية خالصة ولا سينما تجريبية صرفة؛ بل تنبع من وسط واقعي وتحاول مساءلة القيم الأمريكية بطريقة ذكية وغير مباشرة. ومن أبرز مميزات أفلامه اعتمادها على الشخصيات المركبة والمعقدة التي تعيش توترات نفسية وأخلاقية داخل محيط اجتماعي متغير. ويهتم رايتمان بتفكيك نماذج الشخصيات الأمريكية التقليدية، مثل السياسي أو الموظف أو الأب أو الموظفة الشابة، ويعيد بناءها بعيدا عن القوالب الأخلاقية الجاهزة؛ مما يجعل شخصياته أكثر واقعية وإنسانية.
تقوم أفلام رايتمان على الحوارات الذكية والكتابة المتقنة التي تمزج بين التهكم والسخرية والجدية، وغالبا ما تكون اللغة وسيلة لخلق التوتر أو التعبير عن الفشل أو المقاومة كما في فيلم “شكرا على التدخين” (2005) حيث تتحول اللغة إلى أداة تبرير أو تضليل؛ وهو ما يعكس اهتمامه بالبنية الخطابية للمجتمع الأمريكي وقدرته على إخفاء التناقضات من خلال الكلمات.
ويعتمد رايتمان على سرد بسيط ظاهريا؛ لكنه يخفي في داخله بنية مركبة تتقاطع فيها الأزمنة أو تتعدد فيها وجهات النظر دون الوقوع في الغموض أو الاستعراض. ويبدأ أفلامه غالبا من نقطة واقعية، ثم يدخل تدريجيا في أسئلة فلسفية أو أخلاقية كما في فيلم “معلق في الهواء”(2009) حيث يتحول موظف السفر من شخصية مستقلة وباردة إلى كائن هش يبحث عن اتصال إنساني حقيقي أو كما في فيلم “عيد العمال” (2013) في لقاء غير متوقع بين أم عازبة وسجين هارب، أو فيلم “رجال ونساء وأطفال” (2014) وهو يشير إلى فئات اجتماعية متنوعة أو في فيلم “تولي” (2018) أو فيلم “صائدو الأشباح.. الحياة الأخرى” (2021) أو “المرشح الأوفر حظا” (2018) حيث تتطور القصة من مجرد فضيحة سياسية إلى تساؤل حول العلاقة بين الإعلام وبين الديمقراطية.
ويتبنى المخرج رايتمان، بصريا، أسلوبا بسيطا يخدم القصة ولا يطغى عليها، ويستخدم الكاميرا المتحركة واللقطات القريبة لإبراز الانفعالات النفسية، كما يميل إلى الإيقاع السريع دون فقدان العمق.. وهذا ما يجعل أفلامه ديناميكية؛ لكنها تحتفظ ببعدها التأملي.
وأهم ما يميز سينما جيسون رايتمان هو قدرتها على طرح الأسئلة دون إصدار أحكام واضحة.. إنه لا يسعى إلى تقديم أجوبة جاهزة، بل يخلق مساحات للتفكير ويترك للمشاهد حرية التأويل والتقييم؛ ما يجعل من أعماله مرايا متعددة الوجوه تعكس تعقيد الواقع الأمريكي المعاصر.
يستند فيلم “المنافس الأول” إلى خلفيات فكرية وسياسية معقدة تعكس تحولات عميقة في المشهد الأمريكي خلال ثمانينيات القرن العشرين، إذ يمثل قصة السيناتور غاري هارت لحظة فاصلة بين زمنين زمن السياسة التقليدية التي كانت تركز على البرامج والرؤى الكبرى وزمن الإعلام الجديد الذي بدأ يهيمن على المجال العام ويعيد تعريف ما هو سياسي وما هو شخصي. ويرتبط هذا التحول بصعود ما يسمى بالصحافة الصفراء في الحياة السياسية الأمريكية، حيث أصبحت الحياة الخاصة للسياسيين مادة للنقاش العام وأداة لتشكيل الرأي لا مجرد تفاصيل هامشية؛ وهو ما يطرحه الفيلم بحدة من خلال الانهيار السريع لمسيرة هارت بمجرد انتشار شائعات وصور حول علاقته خارج الزواج رغم كونه مرشحا قويا ذا مشروع واضح وإجماع حزبي واسع.
ويستلهم الفيلم من النقاش الفلسفي حول المجال العام كما طرحه مفكرون مثل هابرماس، خاصة فيما يتعلق بتراجع الطابع العقلاني للنقاش السياسي أمام هيمنة الإثارة والعناوين الصاخبة. ويتقاطع الفيلم أيضا مع نقد المفكر نعوم تشومسكي للإعلام الأمريكي بوصفه جهازا يُشكل وعي الجماهير ويعيد إنتاج السلطة من خلال التلاعب بالرموز لا بالمضمون. كما يعكس الفيلم مآزق الديمقراطية الحديثة التي تسمح من جهة بحرية الصحافة؛ لكنها تواجه من جهة أخرى خطر اختزال العمل السياسي في صور وأحاسيس ومواقف أخلاقية مبسطة.
ويمكن اعتبار الفيلم مرآة لأزمة القيم داخل الحزب الديمقراطي نفسه الذي كان يعيش تحولات بنيوية في مواجهة صعود التيار المحافظ بزعامة ريغان. وقد حاول هارت أن يقدم بديلا تقدميا جديدا يستجيب لتحديات عصره من حيث الاقتصاد والمجتمع؛ غير أن الفضيحة الأخلاقية دمرت مشروعه قبل أن يرى النور، مما يفتح الباب أمام سؤال جوهري يطرحه الفيلم بذكاء: هل يمكن أن تتجاوز الديمقراطية أخطاء الأشخاص في سبيل إنقاذ المشاريع الكبرى أم أن صورة المرشح أصبحت أهم من مضمونه؟
ويطرح الفيلم بشكل غير مباشر نقدا لثقافة النفاق الأخلاقي في المجتمع الأمريكي التي تطالب السياسيين بالكمال الشخصي بينما تتسامح مع الفساد المؤسساتي البنيوي وهو بذلك يعري انفصام الوعي الجماعي ويكشف عن هشاشة المعايير التي تُبنى عليها القرارات السياسية في زمن تغلب فيه الصورة على الفكرة والشائعة على الحقيقة.
يقدم فيلم The Front Runner مجموعة من الشخصيات التي تتقاطع في فضاء سياسي متوتر يتصدره غاري هارت المرشح الديمقراطي الأوفر حظا في انتخابات 1988، والذي يجد نفسه في قلب عاصفة إعلامية تقضي على طموحاته السياسية في وقت قياسي. وتتنوع الشخصيات في الفيلم بين السياسيين والصحافيين والمستشارين وأفراد الأسرة، وكل منهم يحمل رؤيته لما يحدث؛ مما يجعل الفيلم ساحة جدلية مفتوحة تتيح قراءة متعددة الطبقات لمسألة البطولة والقيادة والأخلاق.
غاري هارت كما يصوره هيو جاكمان ليس بطلا تقليديا بل هو شخصية مأزومة تجمع بين الكاريزما السياسية والعمى الأخلاقي النرجسي، فهو مرشح ذكي صاحب مشروع سياسي تقدمي يؤمن بضرورة تجاوز الخطاب السياسي الشعبوي إلى خطاب قائم على التفكير والتخطيط وعلى قدر كبير من الواقعية الاقتصادية والاجتماعية؛ لكن في الوقت ذاته يبدو غير قادر على إدراك حجم التحول الذي وقع في العلاقة بين الإعلام والسياسة، إذ يرفض الحديث عن حياته الخاصة ويعتبر ذلك انتهاكا لكرامته الشخصية؛ لكنه يتجاهل أن موقعه كزعيم محتمل يجعله تحت مجهر الرأي العام يقول في أحد مشاهد الفيلم: “أنتم تطلبون مني أن أشرح لماذا يهم ما يحدث في غرفة نومي أكثر مما يحدث في اقتصاد بلد كامل هذا جنون”؛ وهو بهذا يعبر عن انفصاله عن الواقع الإعلامي الجديد الذي لا يفصل بين الخاص والعام.
أما الشخصية الثانية المهمة فهي لي دي هارت، زوجة غاري التي تؤدي دورها فيرا فارميغا بشاعرية قوية، وتعكس هشاشة المرأة في قلب فضيحة سياسية دون أن تتحول إلى ضحية صامتة؛ بل تتحول إلى صوت أخلاقي حاد يواجه زوجها بمسؤوليته عن تفكك الصورة العائلية التي كان يبيعها للناخبين. وتقول له في لحظة مواجهة: “أنا لست ديكورا في صورتك الانتخابية وإذا قررت البقاء إلى جانبك؛ فهذا لا يعني أنني سامحتك بل يعني فقط أنني أفكر فيما هو أبعد منك”.
في المقابل، تمثل الصحافية التي تكشف الفضيحة صوت التحول الثقافي في الصحافة الأمريكية، إذ لم تعد ملتزمة فقط بكشف الفساد السياسي أو التلاعب الاقتصادي؛ بل أصبحت ترى في السلوك الشخصي للمرشح مدخلا لفهم نواياه الحقيقية بل وربما لكشف خلل في منظومته الأخلاقية. وعلى الرغم من الانتقادات التي توجه إلى الفريق الصحافي فإن الفيلم لا يقدمهم كوحوش؛ بل كممثلين لحساسية جديدة في العمل الإعلامي. يقول أحد الصحافيين: “يريد الناس أن يعرفوا من هو الرجل الذي سيحكمهم لا فقط ماذا يقول في خطبه”.
وتتعدد الشخصيات الثانوية بين مستشارين شباب وصحافيين ومواطنين؛ وكلهم يعبرون عن مرحلة ثقافية انتقالية بين عالمين: عالم سياسي عقلاني تقليدي، وعالم قائم على الصورة والسرعة والفضائح ومواقع التأثير الجماهيري السريع. ويقدم الفيلم من خلالهم خريطة لحالة فكرية يعيشها المجتمع الأمريكي نهاية الثمانينيات، وهي لحظة انكسار الأوهام الكبرى وبداية الشك في السلطة والنخبة والمؤسسات. ويبدو أن مفهوم البطل في هذا السياق يتعرض لهزة عنيفة، إذ لم يعد البطل هو ذلك القائد الذي يقود المشروع؛ بل أصبح هو من ينجح في الحفاظ على صورته تحت ضغط الكاميرات والمقالات والعناوين.
وكان غاري هارت بطلا سياسيا حسب مقاييس البرامج والقدرة على الإقناع قبل أن يتحول إلى رمز للفشل الأخلاقي العام في نظر الرأي العام. وعلى الرغم من أن الفضيحة لم تكن مرتبطة بالمال العام أو بخيانة وطنية بل بخيانة زوجية، فإنها كانت كافية لتفكيك هالته القيادية. وهنا، يكمن السؤال الكبير الذي يطرحه الفيلم: هل أصبحت البطولة السياسية مرتبطة بالشخصية الأخلاقية الصارمة؟ وهل يمكن للخطأ الشخصي أن يفسد مشروعا كاملا أم أن الرأي العام بحاجة إلى تطهير رمزي لا يرحم؟
ويتحول مفهوم البطل، إذن، في الفيلم من البطل صاحب الرؤية إلى البطل الذي يجيد المناورة الإعلامية والبقاء فوق العاصفة. ويبدو أن غاري هارت فشل لأنه كان يؤمن بأن الفكرة أهم من الصورة في وقت بدأت فيه الصورة تبتلع كل شيء. يقول في مشهد حاسم: “إذا سمحنا للصحافة أن تُملي علينا من يحق له الترشح بناء على حياته الشخصية فنحن نقتل السياسة الحقيقية ونفتح الباب أمام من يجيدون التمثيل فقط”.
وهكذا، لا يقدم الفيلم بطلا إيجابيا بالمطلق ولا خصما شريرا؛ بل شبكة من الشخصيات التي تعيش في تناقض دائم بين ما هو شخصي وبين ما هو عام وبين ما تريده وما تقدر عليه، وبين المبادئ والواقع السياسي المعقد؛ وهو ما يجعل من The Front Runner عملا دراميا غنيا يعيد طرح سؤال البطولة في زمن فقدت فيه السياسة معناها الأصلي وتحولت إلى عرض دائم للمثالية المستحيلة.
يمتلك فيلم The Front Runner هوية سردية وخطابية وبصرية متماسكة تعكس بدقة اللحظة السياسية والثقافية التي يتناولها وتمنحه فرادته ضمن السينما السياسية الأمريكية. لا يقدم الفيلم سردا تقليديا يقوم على البطل الخيّر والخصم الشرير، ولا يتبنى منطقا دراميا مبنيا على الصعود والانهيار بقدر ما يبني سرديته على التوترات الأخلاقية والتحولات الاجتماعية المتراكمة. وهذا ما يجعل هويته السردية معقدة ومتشظية؛ لكنها شديدة الواقعية في الوقت نفسه.
ويقوم السرد الفيلمي في الفيلم على مبدأ التعددية لا من حيث تعدد الشخصيات فقط؛ بل من حيث تعدد وجهات النظر، إذ لا يتمحور الخطاب حول غاري هارت وحده بل يمنح مساحة سردية متوازنة لمستشاريه وصحافيي وسائل الإعلام وزوجته وكل من كان قريبا من لحظة انهياره السياسي. وهذا التنوع في الأصوات يجعل السرد أقرب إلى صيغة التوثيق الذاتي منه إلى الحكي الكلاسيكي؛ مما يمنح الفيلم طابعا شبه وثائقي ويجعل المتلقي مشاركا في الحكم لا مجرد متفرج على مأساة يرويها الراوي العليم. تقول إحدى الشخصيات الصحافية: “لسنا هنا لنكون محققين ولا محامين.. نحن هنا لنطرح الأسئلة فقط”. وهذا التصريح يختصر طبيعة السرد الذي لا يسعى إلى الإدانة أو التبرير؛ بل إلى الحفر في عمق اللحظة وتحليل اشتباك القيم والأفكار فيها.
ويتميز الفيلم بخطاب نقدي ضمني لا يتخذ موقفا صريحا؛ لكنه يستخدم الحوارات والمواقف لصياغة جدلية عميقة بين مفاهيم عديدة مثل الحرية والمسؤولية الخصوصية والشفافية الصورة والحقيقة. فنحن أمام خطاب يعكس أزمة الديمقراطية الليبرالية التي بدأت تتحول إلى مشهد استعراضي مفتوح يُحاسب فيه السياسيون لا على فشلهم المؤسساتي؛ بل على لحظات ضعفهم الشخصي. يقول غاري هارت في أحد المشاهد: “إذا أصبح كل شيء في حياتنا مشاعا فلن يبقى شيء نملكه لأنفسنا”. وهنا، تتجلى نبرة خطابية حادة تسائل المشاهد حول مدى قبول المجتمع الحديث بانتهاك الحياة الخاصة تحت مسمى الرقابة الأخلاقية أو حق المعرفة.
وتنسجم الهوية البصرية للفيلم بشكل دقيق مع هذه السردية والخطابية، إذ يتم تصوير الأحداث بكاميرا محمولة في الكثير من المشاهد؛ مما يمنحها طابعا حيّا وقريبا من التسجيل الواقعي. كما يتم استخدام إضاءة محايدة وألوان دافئة تميل إلى البنية والترابية؛ مما يعكس الطبيعة المؤسسية للمكان السياسي الأمريكي، سواء في الفنادق أم المكاتب أم المساحات العامة. كما أن زوايا التصوير تميل إلى الكثافة البصرية، حيث تُملأ الكادرات غالبا بعدد كبير من الشخصيات المتحركة والمتحدثة؛ مما يعكس ازدحام اللحظة الإعلامية وصعوبة التركيز على الحقيقة وسط طوفان من الأشخاص والأصوات والمواقف.
ويعتمد الفيلم على الانتقال السريع بين المواقع الصحافية والحملات الانتخابية والمنازل الخاصة؛ وهو ما يعكس بصريا تداخل العوالم الثلاثة التي يفترض أن تبقى منفصلة الإعلام والسياسة والحياة الخاصة.. لكن في ظل التحول الثقافي الأمريكي بدأت هذه العوالم تذوب في بعضها البعض، ويظهر ذلك في أحد المشاهد حين تدخل الكاميرا من بهو فندق مزدحم إلى جناح خاص، وتجد الصحافيين خلف الباب بانتظار لقطة أو اعتراف فيظهر التوتر بين الحميمي والعلني بشكل بصري لا يحتاج إلى شرح.
وتصنع الهوية السردية والخطابية والبصرية للفيلم معا تجربة فنية متماسكة تعكس أزمة سياسية وأخلاقية أعمق من مجرد فضيحة شخصية. وتطرح أسئلة عن معنى الحقيقة؟ وعن من يملك سلطة روايتها؟ وهل الرأي العام يتم تشكيله بناء على الوقائع أم على الصور والشائعات؟ وبهذا يتجاوز الفيلم كونه مجرد حكاية سقوط سياسي ليصبح مرآة لمرحلة ثقافية كاملة في التاريخ الأمريكي. تقول إحدى الشخصيات في لحظة حاسمة: “لقد أصبحنا نحاسب السياسي على خطاياه لا على كفاءته؛ وهذا وحده كافٍ لقتل السياسة”.
لا يُعد الفيلم مجرد سرد لواقعة سياسية مفصلية في تاريخ الولايات المتحدة؛ بل هو عمل غني بالأبعاد المتداخلة التي تتجاوز ما هو ظاهر في القصة لتمتد إلى ما هو أعمق سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ونفسيا ورمزيا. ولا يروي الفيلم تفاصيل سقوط السيناتور الديمقراطي غاري هارت بسبب فضيحة أخلاقية؛ بل يكشف مصير مرحلة بأكملها كان فيها النظام السياسي الأمريكي يعيش تحولات جذرية على مستوى القيم والعلاقات ومفاهيم السلطة.
ويبرز الفيلم على المستوى السياسي كوثيقة سينمائية تسائل الديمقراطية الأمريكية من الداخل؛ فهو يضعنا في قلب سباق انتخابي حاد كان يمكن أن يغير وجه البلاد نحو توجهات أكثر انفتاحا وتقدما لولا أن سقط المرشح الأوفر حظا في امتحان الحياة الخاصة. ويطرح الفيلم سؤالا محوريا حول مشروعية هذا السقوط، وما إذا كان الإعلام أو الرأي العام قد تصرف بدافع أخلاقي مشروع أم بدافع الفضول الاستهلاكي وتدمير الصورة. تقول إحدى الشخصيات في الفيلم: “لقد أصبحنا نحاسب السياسي على شكله قبل فكرته وعلى حياته الخاصة أكثر من خططه المستقبلية”؛ وهو ما يعكس أزمة في الثقافة السياسية ذاتها حيث لم يعد السياسي يقاس ببرنامجه، بل بمدى نجاحه في صناعة صورته والاحتفاظ بها ناصعة تحت ضغط الكاميرا.
ويرتبط البعد الاجتماعي أساسا بتغير العلاقة بين المواطن والسياسي في زمن بدأت فيه الثقافة الشعبية تتغلغل في كل شيء بما فيها السياسة. وتحول الحياة الخاصة إلى مادة للنقاش العام وتحول المرشح إلى نجم إعلامي لا يملك فقط أن يكون صادقا؛ بل يجب أن يبدو كذلك طوال الوقت. وتكشف شخصيات الفيلم، من إعلاميين ومستشارين وناخبين، هذا التحول بوضوح إذ لم تعد العلاقة قائمة على الثقة؛ بل على التتبع والمراقبة المستمرة والشك المسبق. لقد تغير المجتمع الأمريكي من الداخل وأصبح يطالب بنماذج سياسية مثالية أخلاقيا لا سياسية فقط وكأن الديمقراطية تحولت إلى سوق أخلاق يعاقب فيه المرشح لا على أدائه بل على حياته الشخصية.
ويشير الفيلم على المستوى الاقتصادي بشكل غير مباشر إلى أن السياسة لم تعد منفصلة عن منطق السوق؛ فوسائل الإعلام التي تلهث وراء الفضائح تفعل ذلك، لأنها تدرك أن الرأي العام يتفاعل مع الإثارة أكثر من البرامج. وتدرك أيضا أن الفضائح تبيع وتولد المشاهدة والإعلانات والمكاسب. وقد تم تصوير المؤسسات الصحافية في الفيلم ككيانات تجارية تتصارع على السبق لا على الحقيقة. يقول أحد المحررين: “نحن لا نقرر ما إذا كانت هذه القصة أخلاقية نحن فقط نعرف أنها ستتصدر الصفحة الأولى”. وهذا التحول من إعلام يحمل وظيفة رقابية إلى إعلام يخضع لمنطق السوق يعكس تغيّرا في البنية الاقتصادية التي تحكم المشهد السياسي ويحول الصحافة إلى طرف مباشر في صناعة القرار لا فقط ناقلا له.
ويركز البعد النفسي في شخصية غاري هارت، الذي يظهر كرجل ذكي ومثالي؛ لكن غير قادر على التكيف مع واقع جديد لم يعد فيه ممكنا أن تفصل بين ذاتك الخاصة وبين صورتك العامة. وهو يعيش صراعا داخليا بين قناعته بأن حياته الخاصة ملك له وبين إدراكه المتأخر بأن العالم لم يعد يرى الأمور بهذه الطريقة. وتظهر أزمته النفسية حين يقول للصحافيين: “لن أعتذر عن حياتي فأنا لم أرتكب جريمة”؛ لكنه لا يدرك أن الجريمة لم تعد في الفعل بل في الصورة التي تُبنى حول ذلك الفعل. لقد أخفق في فهم نفسية المجتمع الذي يتوجه إليه بخطابه. كما يعيش حالة من الإنكار تجاه هشاشة صورته التي ظل يعتقد أنها قوية بما يكفي لتتحمل الشك.
ويعكس على المستوى الرمزي لحظة مفصلية في تحول السياسة من مشروع جماعي إلى عرض فردي يتجسد في صورة المرشح. ويعكس غاري هارت هنا رمز السياسي الذي كان يمكن أن يكون قائد تحول؛ لكنه سقط بفعل ثغرة في صورته الرمزية وليس في مشروعه الواقعي. كما يعكس الفيلم رمزيات أخرى أعمق تتعلق بموت النموذج التقليدي للزعيم الذي يتم اختياره بناء على الرؤية والقدرة والكفاءة وصعود نموذج جديد يقوم على القدرة على الصمود في وجه الإعلام والمنافسين في ساحة معركة رمزية لا تتعلق بالوقائع بل بالتأويلات. وقد يكون أبرز رموز الفيلم هو اللحظة التي يتخلى فيها الحزب والشارع عن الرجل لا بسبب فشله؛ بل بسبب عجزه عن التكيف مع الشكل الجديد للقيادة السياسية، وهو شكل لا يرحم ولا يعترف بالنسبية.
هكذا، فإن The Front Runner يتجاوز كونه فيلما سياسيا ليرتفع إلى مستوى القراءة الثقافية والفكرية لمجتمع كامل في طور التحول، ويكشف كيف أن السياسة ليست فقط ما يُقال بل ما يُرى وما يُفسر وكيف أن الحقيقة لم تعد هي ما حدث بل ما تقوله الصورة عنها. إنه فيلم عن موت البراءة السياسية في أمريكا وعن بداية عصر جديد لا مكان فيه للضعف البشري، ولو كان مؤقتا ولا لزلة واحدة ولو كانت شخصية لأنه ببساطة عصر يختزل الإنسان في لقطة واحدة والأمة في خبر عاجل.
يحمل فيلم The Front Runner بعدا جماليا متوازنا بين البساطة وبين الفعالية يخدم موضوعه السياسي والاجتماعي المعقد دون أن يطغى على مضمونه، إذ يختار المخرج جيسون رايتمان أسلوبا بصريا واقعي النبرة. ويقترب الفيلم من النمط الوثائقي من خلال الاعتماد على كاميرا محمولة في كثير من المشاهد وإضاءة طبيعية وألوان دافئة تميل إلى الترابية؛ مما يخلق إحساسا بالحضور والمشاركة في الحدث لا بالمشاهدة من الخارج. ويعكس هذا الاختيار الجمالي طبيعة اللحظة السياسية التي يعالجها الفيلم حيث تتداخل الحقيقة بالصورة وتصبح التفاصيل الصغيرة ذات دلالة رمزية كبيرة.
ويتنوع الفضاء الجمالي للفيلم بين المكاتب الصحافية والغرف الانتخابية والفنادق والبيوت، وكلها فضاءات مغلقة مكتظة تعكس شعورا بالاختناق والضغط المتزايد على الشخصية الرئيسية. كما يتم توظيف الموسيقى التصويرية بشكل خافت وغير متداخل مع الحوار؛ مما يفسح المجال للصمت والتوتر الطبيعي كي يلعب دورا جماليا في بناء الإيقاع النفسي للأحداث، ويُظهر ذلك قدرة الفيلم على خلق جماليات خفية في اللحظات الصامتة والنظرات المتبادلة والانفعالات الصامتة أكثر من الخطابات المباشرة.
وتعكس الملابس والمكياج والديكور بدقة زمن الثمانينيات دون مبالغة مما يمنح الفيلم مصداقية جمالية وزمنية واضحة. كما أن التقطيع السريع للمشاهد، خاصة في النصف الأول، يعكس جماليا الفوضى والسرعة التي تتحرك بها وسائل الإعلام في ملاحقة الحقيقة. أما في النصف الثاني من الفيلم، فيميل الإيقاع إلى البطء وتُمنح الكادرات وقتا أطول للتأمل في تداعيات الحدث؛ ما يعكس انتقال البؤرة الجمالية من الخارج إلى الداخل أي من الصورة العامة إلى الصدمة النفسية الشخصية.
وهكذا، يصوغ الفيلم بعده الجمالي كأداة تعزيز للمعنى لا كزينة بصرية؛ وهو ما يمنحه خصوصية داخل الأفلام السياسة الحديثة والسينما السياسية، ويجعله مثالا على كيف يمكن للجمال أن يخدم الفكرة دون أن يسرق منها الضوء.
تأتي نهاية فيلم The Front Runner كمشهد صامت لانهيار سياسي وإنساني في آن واحد حيث يغادر غاري هارت المشهد العام تاركا خلفه أسئلة مفتوحة أكثر مما يقدمه من إجابات، إذ لا ضجيج في السقوط ولا انتقام في النهاية؛ بل صمت ثقيل يتقاطع فيه الندم مع الإدراك المتأخر لحجم التحول الذي لم يستطع أن يستوعبه. لقد خسر غاري السباق الرئاسي، لا لأنه لم يكن كفؤا؛ بل لأنه لم يكن مستعدا للعبة الجديدة التي لا ترحم فيها الصورة ولا تُمنح فيها الخصوصية. وفي ظل هذا السقوط، لا يبدو البطل خاسرا فقط؛ بل يبدو ضحية لمنظومة كاملة تغيّرت دون أن تنتظر من لا يلحق بها. ويقف في نهاية الفيلم متأملا ما تبقى من كرامته وقراره، ويقول بجملة تختزل معناه الكامل كسياسي وإنسان: “إذا كنّا سنقيس قادتنا بأدق أخطائهم وننسى أعظم أفكارهم، فمن سيكون شجاعا بما يكفي ليقودنا بعد الآن”. إنها لحظة وعي قاسية لا تتعلق بالاعتراف بالخطأ فقط؛ بل بالاعتراف بأن اللعبة ذاتها تغيرت، وأن البطولة لم تعد كافية إن لم تكن محصنة من كل زلل بشري. وينتهي الفيلم دون انتصار ولا عقاب؛ بل بمرارة الحقيقة في زمن تسيطر فيه الصورة على الذاكرة والفضيحة على الفكرة.