آخر الأخبار

"بحث علمي للبيع" .. الطلبة والمعرفة يصيغان علاقة صادمة وسط الجامعة

شارك

بعْدَ تَتبّعي لحلقة برنامج “بدُون عُنْوان” من إعداد أمال كنين ونهيلة بوستة الذي تبثّه جريدة هسبريس الإلكترونية، وخصَّصته لموضوع: “بحث علمي للبيع”، وجدتني أمام واقع لا يكتفي بانتهاك القواعد الأكاديمية، بقدر ما يُعيد صياغة العَلاقة بين الطالب والمعرفة على نحو صَادم. لم أكن أنوي الخوض في هذا الحديث؛ لكن ما تمّ تداوله في البرنامج لم يكن مجرد عرض لحالات معزولة، وإنما كان أشبه بخارطة دقيقة لصناعة موازية، تشتغل خارج مدرجات الجامعة، وتُحوِّل البحث إلى خدمة مؤدى عنها، وكتابة البحوث إلى عملية تفصيل على المقاس؛ المتاجرة بالمعرفة صادمة في حدّ ذاتها. كما أن التواطؤ الجماعي، بصمته أو تبريره، هو ما يجعل الجريمة ممكنة ومستمرة. في هذه الحالة، لا يكفي أن نُدين، ونستنكر، علينا أن نُعيد السؤال الجوهري: ما الذي يجعل البحث العلمي قابلاً للبيع؟ وهل ما يُشترى هو العلم نفسه، أم شرعيته الرمزية؟ لقد دفعني البرنامج إلى الاقتناع بأن الأزمة تكمنُ في التقبُّل العام للغشّ، وأننا أمام نظام أخلاقي جَديد، يبرّر الفساد طالما أنه يُؤمِّن النتيجة.

كيف وصلنا إلى هذه الحالة، ولماذا؟

سُؤالان يفرضَان نفسيهما من أجل فهم المسَار الذي سمح بحُدوث انزلاقات من هذا النوع؛ فالجامعة المغربية ليست كتلة واحدة، ولا حقلًا معْطوبًا في مجمله؛ لدينا في مختلف التخصّصات، من الآداب إلى العلوم، نماذج مشرّفة لأساتذة نزهاء، وباحثين ملتزمين، وتجارب بحثية عالية الجَدارة. لكن المأساة أن هذه النماذج تعمل، في الغالب، وسط شروط قاسية، وأحيانًا في عزلة موجعة، داخل منظومة أخذت تفقد توازنها بين ما يُطلب منها وما يُمنح لها. لقد تراكمت اختلالات كثيرة: ضعف في التكوين المنهجي، هشاشة التأطير، ضغط الأعداد، وتراجع قيمة البحث في سوق العمل. وهذا ما فتح الباب أمام صناعة موازية، لا تنتج المعرفة، وإنما تُسوّقها، وتلبي طلبًا حقيقيًّا من طلاب يشعرون بأنهم في سباق ضد الزمن، في غياب تأطير تربوي حقيقي. ولأن الرّقابة الإدارية تكتفي غالبًا بالشكل دون الجوهر، تحوّلت بعض الجامعات إلى فضاء تُكافأ فيه الرداءة بالصمت، ويُجرَّم فيه السؤال النوعي لأنه يكشف المستور. ليست الجامعة المغربية فاسدة في أصلها؛ لكنها اليوم مهدّدة بمنطق السوق حين يتسلل إلى قلب المعرفة، فيقيسُ الجهد بمُدّة الإنجاز، والقيمة بعدد الشهادات، لا بعُمق أثرها.

بكلمة واحدة: مَا آل إليه واقعنا لم يكن وليد لحظة، بقدر ما كان نتيجة تراكمٍ طويل من التراخي، ومن ترسيخ نظرة اختزالية تعتبر الجامعة مجرد معْبر نحو سوق الشغل، لا فضاءً لصناعة الفكر ومُساءلة العالم. ومع ذلك، لم تُغلق نوافذ الأمل بعد. يبقى الإصلاح ممكنًا، لكنه يقتضي شجاعة المواجهة، من خارج الجامعة ومن عمق أسوارها، وبانخراط المجتمع بأسره. فما هو على المحكّ ليس صدقية الشهادات، وإنما قدرة مجتمع بأكمله على أن ينتج المعرفة بكرامة ومسؤولية، بدل أن يظل مستهلكًا سطحيًّا لقشورٍ عابرة لا تروي فكرًا، ولا تؤسس وعيًا.

الأكاديمي المُستعمل.. حين تدخل البحوث إلى سوق الأشياء

في زاوية باهتة لإحدى مجموعات “فيسبوك”، ظهرت عبارة تلفت الانتباه: “بحث علمي للبيع، مضمون مائة في المائة، بدُون نقل، مع مراجع وتنسيق أنيق”؛ جملة تنطق بكل ما هو مفجع: أنّ المعرفة التي كانت تُنتزع من العتمة صارت الآن تُسوَّق كأية بضاعة، وأن ما كان يُطلب بالعناء بات يُعرض بثَمَن لا يُحرج أحدًا.

نادرًا ما يغوص البحثُ المعروض للبيع في أعماق الميتافيزيقا أو تعْقيدات الجَبْر، لأنه يختار غالبًا المواضيع السهلة والمستهلكة مثل “دور مواقع التواصل في تشكيل الوعي الجمعي”. بحث لم يُكتب ليُقرأ بتمعّن أو يُناقش بجدية، وإنما فقط ليُسلّم سريعًا، مثل وثيقة رسمية تثبت أنك، ولو على ورق فقط، قد قمت بعمل ما، أو على الأقل تظاهرّت بذلك. وهكذا، يتحوَّل البحث الأكاديمي إلى سلعة تُعرض على مائدة البيع حسب الطلب، بنكهة مستعجلة، وغلاف مزخرف، وسعْر مُغرٍ لا يقبل أي تدقيق علمي.

أما البائعُ، فيكون في الغالب طالبًا متقاعدًا من سلك الدراسة أو باحثًا أتقن فن القص واللصق أكثر مما أتقن أدوات التحليل النقدي. ويقدم غالبا “خدمات إضافية”: ملخص مختصر، وعرض تقديمي ببرنامج باوربوينت، وربما حتى تدريبًا شفويًا لتقليد الحماس أمام لجنة المناقشة. إنه عصر تحوّل فيه البحث العلمي من حرفة تتطلب إبداعًا واجتهادًا إلى مهنة تجارية بامتياز. وأما الزبون، فهو ليس غبيًّا؛ هو شخص يعاني من قصر الزمن، وطول التوقعات، وتناقض المنظومة التي تطالبه بالإبداع في بيئة لا تؤمن إلا بالتكرار. طالبٌ باحث، في ظاهره؛ لكنه في جوهر مسعاه يطلب مَخْرجًا. لم يعد السؤال: “ماذا أتعلم؟” بل “كيف أنجو بأقل جهد؟”.. وهكذا تحوّلتِ الجامعة من فضاءٍ للتكوين إلى ممرٍّ تقني للهروب المنظَّم من مواجهة المعرفة بما تتطلبه من صبرٍ وشكٍّ ومُساءلة.

أطروحاتٌ جاهزة، عقولٌ مُؤجّلة

يا لهذا الزمن الذي تغيّرت فيه القيم، فصارت الجدارة تُشترى من غير أن تُكتسب، لتعكس بذلك قدرة الطالب على إتمام الصفقة والتفاوض على الثمن. وفي النهاية، يُمنح المشتري “شهادة استحقاق” لقاء بحث لم تطأه عيناه. يا لهذه الاستعارة التي تحوّل العلم من مسعى إنساني إلى مجرد ورقة بلا مضمون تُسلّم دون اعتبار. أما الجامعة، فإنها تفضّل أحيانًا أن تغمض عينيها بتواطؤ هادئ، أو تكتفي برفع حاجب الشك بلا جدوى. فالتزوير يُمارس برقة، كأنه تمثيلية هزيلة لا تستحق الانتباه. أما الأخلاق، فتُستحضر فقط حين يُكتشف الغش في الامتحانات، بينما الغش في جوهر المعرفة يُغض عنه الطرف بسخاء.

قد يهمس البعض مدافعًا: “وما العيب إن كان البحث المعروض للبيع مُتقنًا؟ الجودة هي ما يهم، أليس كذلك؟” لكن هذه حجّة من يقيس الشعر بعدد الأبيات لا بارتعاشتها، ويزن الفكرة بكمّ المراجع لا بحرارة السؤال. المعرفة، يا سادة، ليست تنميقًا في الهامش ولا انتظامًا في الفقرات؛ ليست قالبًا نُحكِمه بالتنسيق الشكليّ لنرضي معايير ظاهرية. المعرفة شرارة متقدة تنبعث من سؤال حقيقي، يقلق العقل ويقوّض طمأنينته، فلا يدعه يعود إلى سُباته الأول.

أطروحات مع خدمة التوصيل لأعضاء اللّجنة

نعم، هناك أسواق أخرى، أكثر تنوعًا وتنظيماً: “ماستر في سبعة أيام”، “دكتوراه في نصف عام”، “رسالة كاملة تُسلَّم مع خطة ومراجع وعرض تقديمي”. أصبحنا أمام منظومة متقنة وهندسة محكمة للجهل المعلّب. والمفارقة المؤلمة هي ألا أحد يشعر بالذنب؛ فالمشتري يرى نفسه ضحيةً لنظام قاسٍ لا يمنحه وقتًا للتفكير، والبائعُ يتقمّص دور المقاول الذي يحارب البطالة بالبراعة، والإدارة تُسجّل الأرقام وتبتهج بالإحصاءات، بينما المجتمع لا يرى في البحث العلمي أكثر من تذكرة عبور إلى الوظيفة، لا أكثر ولا أقل.

لا أهاجم بحديثي هذا الأشخاص، بقدر ما أصف الحالة.

تخيلوا لحظة دفاع طالب عن بحث لم يكتبه، وتظاهره بالانفعال عند سؤال اللجنة. كم من الجهد يتطلبه الكذب المقنع؟ وكم من المهارة تلزمه ليبدو مهتما بموضوع لم يخطر بباله قط؟

من نلوم؟ الطالب؟ أم الأستاذ؟ أم النظام الذي يحتفي بـ”التميّز” أمام غياب أي مشروع حقيقي للمعرفة؟ وهكذا، يصير “البيع” صفقة تجارية. إنه سؤال عن قيمة ما ندرّسه، وكيف ندرّسه، ولماذا ندرّسه أصلاً. وهو سؤال، ويا للمفارقة، لا أحد يكتب عنه بحثًا.

ما أفظع أن يحمل الطالب شهادة لا تحمل وزنًا، لا في فكره ولا في أثره. وما أوجع أن تصير الجامعة مهرجانًا للاحتفال بالنهايات، لا ورشة لصناعة البدايات. وما أقسى أن يُنجَز البحث ليُباع، لا ليُقرأ؛ أن يتحول من أداة معرفة إلى سلعة صامتة، لا تحرك عقلًا ولا تفتح أفقًا.

لكن مَا الحلّ؟

يكمنُ الحلّ في أن نعود إلى كتابة البحث باعتباره تجربة، وأن نصنع من المكتبة فضاءً للحياة، وأن نستعيد من الأستاذ دوره كمرافق، لا كمُقيِّم فقط. وأن نعلّم الطلبة أن الفكرة لا تُشترى، وإنما تُنتزع. وقبل هذا وذاك، علينا أن نعيد تعريف معنى “النجاح”: النجاحُ ليس نقطة في جدول النتائج، بقدر ما هو أثر باقٍ من التفكير. النجاح، في جوهره، ليس رقمًا يُدوَّن على ورقة، ولا درجة تُضاف إلى كشف النقط. النجاح الحقيقي أن تكتب بحثًا، فإذا بك تخرج من التجربة وقد تغيّرت: في رؤيتك، في لغتك، في عمق أسئلتك. أن تنظر إلى ما كتبته وتدرك أنه كان مغامرة جميلة في التفكير، تركت فيك أثرًا أبقى من أية نقطة.

ربما سيقرأ هذا الحديث طالب قرّر للتوّ أن يشتري بحثه القادم. حسناً، اشترِه. لكن لا تنسَ أنك لن تشتري نفسك معه. المعرفة الوحيدة التي تستحق اسمها هي التي تعلّمك من أنت، لا ما كتبه غيرك.

في عالم تُباع فيه المعرفة بضاعة رخيصة، يبقى الأمل قائماً في أولئك الذين لا يساومون على قيمتها؛ لأن المعرفة الحقيقية لا تُقاس بثمن. فالمعرفة الأصيلة تُولد من رحم التعب، ومن وهج الشك، ومن عناد الرفض المستمر لأن تتحول إلى سلعة تُباع وتُشترى.

من هنا، يمكن التساؤل: من الذي ينبغي أن نعيد تعليمه أولًا؟ الطالب الذي يبحث عن النجاة بدل المعرفة؟ أم الأستاذ الذي أَلِف الصمت بدل النقد؟ أم المنظومة كلها وقد اختزلت التعليم في إجراءات ورُتب؟ وهل نحتاج إلى إصلاح تجميلي، أم إلى رجّة هادئة، تبدأ بسؤال يبدو بسيطًا لكنه يهزّ الأساس: من كتب هذا البحث، ومن الذي كان ينبغي أن يكتبه؟

لسنا في حاجة إلى مزيد من الوثائق أو التحقيقات لإثبات ما بات معلومًا للجميع: السوق السوداء للبحث العلمي واقع قائم. ما نحتاجه حقًّا هو: استعادة الثقة؛ أن تستعيد الجامعة هويتها باعتبارها فضاء للقلق المعرفي، بعيدا عن كونها منصة للطمأنينة البيروقراطية. فحين تُشترى الأطروحات كما تُشترى تذاكر السفر، نكون قد تجاوزنا حدود الفساد الأكاديمي إلى حدود أفدح: انهيار الحلم وانتفاؤه. لم تعد المسألة مسألة أخلاق، بقدر ما غدتْ مسألة وجود: إما أن نعيد للمعرفة كرامتها وللشهادة معناها، أو نواصل التواطؤ مع الزّيف، حين يتمّ منح الشهادة مثل هبة يشيّدُ فوقها مستقبل هشّ لا يقود إلى أيّ أفق.

لنتأمَّل، وإلى حَديث آخر.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا