في سياق دولي مقلق، كشفت دراسة حديثة نشرتها مجلة “ذا لانسيت” العلمية البريطانية تباطؤَ وتيرة تطعيم الأطفال ضد الأمراض المهددة للحياة في جميع أنحاء العالم، مشيرة إلى أن الفجوات الاقتصادية والاضطرابات الجيو-سياسية ساهمت في هذا التراجع.
الدراسة التي اعتُبرت من أبرز المراجعات العالمية الشاملة في مجال التلقيح، أكدت أن معدلات التطعيم انخفضت في نحو نصف دول العالم بين عامي 2010 و2019، وهو ما تسبب في تصاعد حاد لحالات تفشي أمراض يمكن الوقاية منها.
ووفق الدراسة ذاتها، فإن العودة المفاجئة لهذه الأمراض تشكل تهديدا حقيقيا للأرواح، كما تفرض أعباء مالية ضخمة على أنظمة الصحة في الدول المتضررة.
يقول مولاي سعيد عفيف، اختصاصي طب الأطفال عضو اللجنة العلمية للتلقيح ضد “كوفيد-19″، إن التراجع في التلقيح يعتبر تهديدا مباشرا لصحة المجتمع، مضيفا: “في الواقع، يؤسفنا أن بعض المواطنين قد نسوا أهمية التلقيح في الحفاظ على الصحة العامة، خصوصا بعد تجربة جائحة كوفيد-19. حين نتحدث عن وضعية المغرب فإننا نلاحظ أن العديد لم يُكملوا لقاحاتهم، أو لم يلتزموا بجداول التلقيح المحددة”.
وأوضح عفيف، ضمن تصريح لهسبريس، أن المغرب عرف خلال السنوات الأخيرة انتشارا مقلقا لداء الحصبة، بلغت معه نسبة الإصابات في بعض المناطق أكثر من 50%، في وقت لم تتجاوز فيه التغطية الوطنية 90%. وقد قامت السلطات الصحية بمراجعة 11 مليون دفتر صحي لتدارك هذا التراجع ضمن حملة واسعة لتحصين الأطفال ضد هذا الداء.
وتابع: “علينا أن ندرك أن اختفاء بعض الأمراض لا يعني زوالها، بل يعود الفضل في ذلك إلى فعالية اللقاحات. ولو توقفنا عن تلقي اللقاح، فإن هذه الأمراض ستعود حتما، خصوصا وأن اللقاحات كانت وراء تقليص وفيات الأطفال دون سن الخامسة، والتقليل من المضاعفات الخطيرة لأمراض مثل التهاب السحايا”.
وأكد عفيف أن أمراضا خطيرة مثل “الخناق”، “الكزاز” و”الإسهال الفيروسي” لا تزال تشكل خطرا محتملا إذا لم تحظَ باليقظة الكافية، مبرزا في السياق ذاته أهمية التلقيح ضد سرطان عنق الرحم، قائلا: “للأسف، تسجّل بلادنا حوالي 2500 إصابة بسرطان عنق الرحم سنويا لدى النساء، تُتوفى منهن نحو 1250 امرأة، أي بنسبة وفاة تصل إلى 50%. وهذا رقم صادم، خصوصا عندما نعلم أن لقاح هذا المرض متوفر مجانا في المرافق الصحية العمومية”.
نبه الطيب حمضي، طبيب باحث في السياسات والنظم الصحية، إلى أن عودة بعض الأمراض إلى الواجهة ليس حدثا معزولا، بل تطور ينذر بالخطر. وقال: “مع التراجع الملحوظ في مستويات التلقيح، بدأت بعض الأمراض القاتلة تعود إلى الواجهة، وهي أمراض كانت البشرية قد شرعت في التخلص منها تدريجيا. وهذه ليست فرضية أو مجرد تقديرات، بل حقيقة لا جدال فيها”.
وذكّر حمضي، ضمن تصريح لهسبريس، بأن “التلقيح مكّن من القضاء نهائيا على الجدري، وقلّص من انتشار شلل الأطفال، والحصبة، والدفتيريا”، لكنه عاد ليؤكد أن “الانخفاض في وتيرة التلقيح أدى إلى تراجع المناعة المجتمعية. وبالتالي، فإن هذه الأمراض بدأت في العودة تدريجيا، وأولها هو الحصبة، باعتباره الأسرع انتشارا؛ إذ يكفي انخفاض المناعة الجماعية إلى أقل من 75% ليتحول إلى وباء سريع التفشي”.
وأشار إلى أن “أمراضا مثل الكزاز الوليدي والتيتانوس قد تعود؛ لأن مناعة الأفراد تنخفض عندما يتوقف التلقيح المنتظم”، محذرا من أن “ما نشهده اليوم ليس سوى البداية”.
وختم حمضي بالتنبيه إلى أن “العالم، على مدى أكثر من قرن من البحث العلمي، لم يتمكّن سوى من إنتاج لقاحات فعالة ضد حوالي 30 مرضا فقط، في وقت لا تزال فيه أمراض كثيرة دون حماية. لذلك، فإن أي تراجع في برامج التلقيح هو تقدم نحو الأمراض التي ظنننا أننا ودّعناها إلى غير رجعة”.