في خضم التحولات الجيوسياسية التي تشهدها القارة الإفريقية، يبرز التوسع الروسي باعتباره أحد أبرز ملامح إعادة رسم التوازنات الدولية، في سياق تنافس محتدم بين القوى الكبرى. ووفقا لعدد من المتخصصين، فإن هذا التوسع لا يبدو أنه يصطدم بالمصالح المغربية في القارة؛ بالنظر إلى اختلاف طبيعة الأدوات والاستراتيجيات المعتمدة من الطرفين.
وأعرب الكرملين، الاثنين، عن رغبته في تعزيز علاقاته العسكرية مع إفريقيا بعد أيام من إعلان مجموعة فاغنر الروسية إنهاء دورها في مالي. وقال دميتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين، خلال إيجازه اليومي، إن “الوجود الروسي في إفريقيا يواصل نموه، وننوي تعزيز تعاوننا في كل المجالات مع الدول الإفريقية”. وفي معرض رده على سؤال حول ما إذا كان الوجود الروسي في إفريقيا سيبقى على حاله بعد انسحاب مجموعة فاغنر من مالي، أجاب بيسكوف: “لو كان التركيز منصبا على الاستثمارات”، فإن هذا التعاون يتضمن أيضا “مجالات حساسة تتعلق بالدفاع والأمن”.
وفي هذا الإطار، أوضح إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض، إنه يمكن تناول هذا الموضوع من ثلاث زوايا رئيسية: “أولا، أصبحت القارة الإفريقية اليوم فضاء لتنافس محتدم بين القوى الدولية الكبرى، حيث يتجلى هذا التنافس في مظاهر متعددة؛ منها الاقتصادية والثقافية، وأيضا العسكرية. وقد كانت قوات فاغنر الروسية، منذ فترة، أداة لتنفيذ أجندات موسكو، من البوابة العسكرية تحديدا”.
وتابع لكريني، ضمن تصريح لهسبريس، أن “هذا التنافس، على هذا النحو، يبدو أنه أسهم إلى حدّ كبير في التراجع الذي شهدته القارة على صعيد مكتسباتها السياسية والاقتصادية، لا سيما مع وأد عدد من التجارب الديمقراطية الوليدة التي أُجهِضت في السنوات الأخيرة بسلسلة من الانقلابات”.
ومن هذا المنطلق، اعتبر أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض أن “انسحاب قوات فاغنر أو على الأقل تقليص وجودها بهذا الشكل من إفريقيا، وخاصة من بلد مثل مالي، البيت الجريح، قد تكون له انعكاسات إيجابية على مستوى الحد من الصراعات التي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة”.
وأشار المتحدث إلى أنه “في المقابل، فإن دخول روسيا إلى الساحة الإفريقية عبر بوابات رسمية، سياسية واقتصادية، وربما حتى عبر التعاون العسكري المؤسساتي، قد يمنحها حضورا أفضل داخل القارة، بشرط أن يعكس هذا الحضور حسن نية ويقوم على مبدأ الربح المشترك”.
وأكد الأستاذ الجامعي المتخصص في العلاقات الدولية أن كل هذا “يأتي في وقتٍ يتزايد فيه استياء عدد من الشعوب الإفريقية من طبيعة العلاقات غير المتوازنة التي ربطت القارة بعدد من القوى الدولية، خاصة أوروبا، وفرنسا على وجه التحديد. وبالتالي، فإن بروز روسيا كفاعل جديد من بوابة التعاون الرسمي قد يعيد رسم التوازنات في صالح القارة، إن تم في إطار شراكات عادلة”.
ثانيا، وبخصوص المغرب، قال لكريني إن “تعزيز العلاقات الروسية-الإفريقية، إذا تم عبر قنوات رسمية وشفافة، لن يُؤثر سلبا على مصالح المملكة؛ فقد نجح المغرب، خلال السنوات الأخيرة، في ترسيخ حضوره الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي في عدد من الدول الإفريقية، ويحرص على بناء علاقات متوازنة إقليميا ودوليا، تخدم أهداف التنمية المشتركة وتُحسن استثمار إمكانيات القارة لصالح شعوبها”.
وأخيرا، شدد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض على أن “المغرب، بوصفه فاعلا إفريقيا وازنا، سيعمل بدوره على توظيف هذه التحولات في العلاقات الدولية لخدمة القارة وتعزيز التعاون الثلاثي بين إفريقيا وروسيا وباقي الشركاء؛ فتنويع الشراكات، والعمل في إطار الرؤية الإفريقية الجماعية، يُعدّ من ركائز السياسة الخارجية المغربية، التي تهدف إلى الدفاع عن المصالح الوطنية وتعزيز الأمن والتنمية في إفريقيا”.
وختم لكريني تصريحه بالقول: “رغم ذلك، أعتقد أن ما يجري حاليًا يُثير إشكالات أمنية في محيط المغرب، خاصة في منطقة تعج بالتحديات المرتبطة بانتشار الجماعات المتطرفة وظاهرة الهجرة غير الشرعية؛ وهي تحديات تستدعي من المغرب اعتماد تدابير احترازية مناسبة، إلى جانب الانخراط في تعاون وثيق مع السلطات المالية والموريتانية، في إطار السعي إلى الحد من المخاطر العابرة للحدود”.
من جانبه، قال لحسن أقرطيط، الباحث المغربي في العلاقات الدولية، إن “القارة الإفريقية أصبحت اليوم جبهة جديدة في الصراع الجيوسياسي بين روسيا والدول الأوروبية، خصوصا في ظل إعادة تموضع واضحة لروسيا على الساحة الإفريقية؛ وذلك منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا المدعومة من الغرب، في 24 فبراير 2022”.
وأشار أقرطيط، ضمن تصريح لهسبريس، إلى أن “إفريقيا تشكّل الآن نقطة ارتكاز أساسية في الاستراتيجية الدولية لروسيا الاتحادية، حيث تعمل موسكو على ترسيخ حضورها مجددا على المستوى القاري، باعتبارها فاعلا أساسيا وقويا، لا سيما عبر ما يُعرف بالدبلوماسية الصلبة”.
وذكر الباحث أن “هذا الحضور الروسي ليس جديدا تماما؛ بل يُمثّل عودة إلى الساحة الإفريقية، إذ سبق لروسيا، خلال فترة الاتحاد السوفياتي، أن كانت لاعبا محوريا في السياسة الإفريقية. لكن بعد سقوط جدار برلين وتراجع دورها كقوة عالمية، انحسر نفوذها في القارة. ومع ذلك، شهد العقد الأخير عودة تدريجية للحضور الروسي، خاصة مع انطلاق ما يُعرف بالربيع العربي، حيث دخلت روسيا مجددا إلى المشهد الإفريقي عبر البوابة الليبية”.
وحسب أقرطيط، تتمثل الدبلوماسية الصلبة التي تعتمدها روسيا في القارة الإفريقية في توقيع عقود عسكرية وأمنية، وانتشار قوات فاغنر الخاصة، وتأسيس قواعد عسكرية، وإرسال بعثات تدريبية، بالإضافة إلى إنشاء ما يُعرف بـ”الفيلق الإفريقي” الذي يُعدّ بديلا لقوات فاغنر.
أما بخصوص إعلان موسكو إنهاء مهام مجموعة فاغنر، قال أقرطيط إن “ذلك ليس بجديد، إذ سبق الإعلان عن ذلك منذ حوالي سنتين، مع الإبقاء على بعض عناصرها في منطقة الساحل”، موضحا أنه يتم حاليا دمج عناصر فاغنر ضمن “الفيلق العسكري الإفريقي” التابع لروسيا؛ وهذا ما يعزز الفرضية بأن إفريقيا تُعتبر ساحة صراع جيوسياسي بين روسيا والغرب، خاصة أن القوات الروسية باتت تتمركز في مناطق كانت خاضعة سابقا لنفوذ فرنسا ودول أوروبية أخرى، مثل إفريقيا الوسطى ومنطقة الساحل والصحراء الكبرى وليبيا والقرن الإفريقي والسودان.
وأكد الباحث المغربي في العلاقات الدولية أن “هذا التوسع الروسي لا يصطدم بالنفوذ المغربي في القارة الإفريقية، نظرا لاختلاف الأدوات والاستراتيجيات المعتمدة. فبينما تعتمد روسيا على القوة والدبلوماسية الصلبة، يركز الحضور المغربي على الشراكات التجارية والاقتصادية، والعقود الاستثمارية، دون اللجوء إلى أدوات النفوذ العسكري”.
وتابع لحسن أقرطيط قائلا: “قد أثبتت التجربة خلال السنوات الأخيرة أنه لا يوجد أي صدام بين روسيا والمغرب في دول الساحل، حيث ينشط المغرب في مجالات مثل البنوك والتأمين والطيران والبنية التحتية، دون أن يتعارض ذلك مع الأجندة الروسية في المنطقة. كما أن دول الساحل والصحراء نجحت في التوفيق بين وجود القوات الروسية وشراكاتها الاقتصادية مع أطراف أخرى، من بينها المغرب”.
وخلص الباحث المغربي إلى أن “تعزيز الوجود العسكري الروسي في إفريقيا لن يُؤثر على الدور المغربي، لكون كل طرف يعتمد أدوات مختلفة ولديه أجندات متباينة؛ بل أكثر من ذلك تجمع بين المغرب وروسيا علاقة متوازنة تتخللها تفاهمات سياسية، وإن لم تصل إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية”.
واستبعد المتحدث: “حصول أي صدام مباشر بين موسكو والرباط داخل القارة الإفريقية، خاصة في منطقة الساحل والصحراء، بسبب اختلاف طبيعة الحضور بين الطرفين، إذ يبقى الحضور المغربي قائما على التنمية والاستثمار، فيما يتركز الحضور الروسي على الأمن والعسكر”.
وأضاف: “لن يؤثر تعزيز الوجود العسكري الروسي، سواء في منطقة الساحل والصحراء أم في القارة الإفريقية عموما، على الدور الذي يضطلع به المغرب داخل القارة. ويعود ذلك إلى التباين الواضح في أدوات التأثير التي يعتمدها كل طرف، فضلا عن اختلاف الأجندات والاستراتيجيات. وبالتالي، لا يُتوقع حدوث أي صدام بين المغرب وروسيا في إفريقيا، خصوصا في منطقة الساحل والصحراء؛ بل إن العلاقات بين البلدين، وإن لم تبلغ مستوى الشراكة الاستراتيجية، تقوم على تفاهمات سياسية، ويمكن وصفها بعلاقات متوازنة”.
وختم قوله: “برأيي، لم يسجل خلال السنوات الأخيرة أي توتر أو صدام بين روسيا والمملكة المغربية؛ بل على العكس، سبق لروسيا أن أعربت عن رغبتها في تعزيز الشراكة مع المغرب. لذلك، فإن طبيعة السياسة المغربية في إفريقيا، التي تقوم على التعاون الاقتصادي والاستثماري، تجعل من غير المرجح حدوث أي اصطدام مع الوجود الروسي القائم بالأساس على الدبلوماسية الصلبة والأدوات العسكرية”.