آخر الأخبار

إنهاء مهام "فاغنر" في مالي يحفز التنسيق الأمني بين الرباط ونواكشوط

شارك

أعلنت مجموعة “فاغنر” الروسية إنهاء مهمتها العسكرية في مالي، بعد ثلاث سنوات من العمليات القتالية ضد الجماعات المسلحة في منطقة الساحل والصحراء. وفتح قرار الانسحاب، الذي بدا متوقعا، الباب أمام تحولات أمنية مقلقة في ظل اتساع رقعة الفراغ الميداني في المناطق المتوترة.

جاء هذا الإعلان في بيان مصور أكدت فيه مجموعة “فاغنر” الروسية استعادة باماكو السيطرة على عواصم الأقاليم. غير أن توقيت هذا الانسحاب أثار تساؤلات واسعة، خصوصا مع اشتداد المعارك في شمال البلاد ووسطها، وسقوط خسائر كبيرة في صفوف الجيش المالي خلال الأسبوع الماضي.

وكانت موريتانيا من أوائل دول الجوار التي استشعرت حجم الخطر الناجم عن انسحاب “فاغنر”، فبادرت إلى اتخاذ خطوات ميدانية حاسمة لتعزيز أمنها الحدودي، كما دفعت بتعزيزات عسكرية نحو الشريط الحدودي مع مالي لقناعتها الراسخة بأن تهديد الجماعات المسلحة لا يقتصر على الداخل المالي، بل يهدد كامل الإقليم ويستدعي جاهزية دائمة وخططا وقائية عابرة للحدود.

ورغم أن بعض التقديرات ربطت انسحاب “فاغنر” بتراجع فاعليتها ميدانيا وارتفاع كلفة التدخل، فإن القرار لا يعكس بالضرورة تراجعا في النفوذ الروسي، بل يُعد جزءا من إعادة هيكلة أوسع بدأتها موسكو عقب مقتل مؤسس “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، عام 2023 في حادث تحطم طائرة عقب تمرده على الكرملين.

وبديلا عن “فاغنر”، أنشأت موسكو “فيلق إفريقيا” التابع لوزارة الدفاع الروسية، وهو كيان رسمي يسعى إلى تقديم الدعم للحلفاء في القارة، وفي مقدمتهم مالي، ويضم نحو 6 آلاف مقاتل أغلبهم من أفراد “فاغنر” السابقين، موزعين على عدة دول، منها مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو والنيجر.

ووسط هذا المشهد، يواجه التحالف العسكري بين باماكو وموسكو اختبارا حقيقيا مع اتساع رقعة التهديدات وتزايد الضغوط على المؤسسة العسكرية المالية، مما يضع الاستقرار في البلاد أمام سيناريوهات مفتوحة، ترتبط بمدى نجاعة التحول الروسي الجديد في المنطقة.

خطر الإرهاب

قال محمد فاضل ماء العينين، رئيس منتدى الجنوب، إن انسحاب مجموعة “فاغنر” من مالي يُمثّل لحظة فارقة في معادلة الأمن الإقليمي، حيث يفتح المجال أمام فراغ خطير قد تستغله الجماعات المسلحة العابرة للحدود، مشيرا إلى أن “موريتانيا كانت أول من استشعر حجم التهديد، فسارعت إلى تحصين جبهتها الجنوبية الشرقية بوحدات مدرعة وطائرات مسيّرة، في رسالة واضحة إلى أن أمنها القومي جزء لا يتجزأ من أمن الساحل بأكمله”.

وأوضح ماء العينين، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن التحركات الموريتانية تزامنت مع زيارة رفيعة لوفد عسكري مغربي إلى نواكشوط، ضم ممثلين عن المكتب الثاني لأركان الحرب العامة، وهو ما يعكس، حسبه، “التناغم الاستراتيجي” المتزايد بين الرباط ونواكشوط في التعاطي مع التهديدات المتنامية في الإقليم، خصوصا الصادرة من العمق المالي، والتي باتت تمثل خطرا مشتركا على استقرار البلدين.

وأضاف أن هذه الدينامية الأمنية لا تنفصل عن إرادة سياسية واضحة لتعزيز الثقة بين المؤسستين العسكريتين، كما أن تنسيق الجهود في مجالات الاستخبارات والتكوين والتدخل الاستباقي بات أولوية قصوى، بالنظر إلى تنامي نشاط التنظيمات المتطرفة وشبكات الجريمة المنظمة، التي تجد دعما ضمنيا أو مباشرا من قبل جهات انفصالية تحاول زعزعة التوازنات الهشة في المنطقة.

وختم المهتم بالعلاقات المغربية الموريتانية حديثه لهسبريس بالتأكيد على أن استقرار موريتانيا يجب أن يكون ضمن أولويات المغرب والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، على اعتبار أنها خط الدفاع الأول أمام تمدد التطرف، لافتا إلى خسارة هذا الخط تعني فتح الباب أمام موجات تجنيد جديدة تحت شعارات زائفة مثل “التحرر” و”الجهاد”؛ وهو ما يتطلب رؤية متكاملة تزاوج بين الأمن والدعم التنموي، وتعزيز الحضور المؤسساتي للدولة في المناطق الحدودية.

تنسيق أمني

يرى محمد عبد الرحمن المجتبى، المدير العام لمجموعة الصدى للإعلام المستقلة في موريتانيا، أن الانسحاب المفاجئ لمجموعة “فاغنر” من الأراضي المالية يشكل لحظة فارقة في المسار الأمني بالمنطقة لكونه يعمق هشاشة الوضع الأمني المتردي أصلا، ويعيد رسم خارطة التهديدات بطريقة غير متوقعة، لافتا إلى أن “هذا التطور يزيد من تعقيد المشهد ويضع دول الجوار، خاصة موريتانيا والمغرب، أمام تحدٍّ حقيقي، في الوقت الذي لا تزال فيه هوية الأطراف البديلة التي قد تحل محل “فاغنر” غامضة وغير واضحة المعالم”.

وأضاف المجتبى، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن دولة مالي تعاني منذ سنوات من ضعف واضح على مستوى بسط السيطرة المركزية، سواء في العاصمة أو في الأقاليم الحدودية، خصوصا شمال البلاد، حيث تهيمن جماعات مسلحة وحركات تمرد خارجة عن سلطة الدولة، مؤكدا أن “وجود “فاغنر” لم يكن حلا حقيقيا، بل ساهم أحيانا في تعقيد الأمور، بينما يؤدي انسحابها اليوم إلى فراغ أمني قد تستغله الحركات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية لإعادة الانتشار والتوسع”.

وأوضح الإعلامي الخبير في الشأن الأمني بمنطقة الساحل أن التنسيق الأمني بين موريتانيا والمغرب بات ضرورة ملحة وليس خيارا، خصوصا أن تهديدات الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة صارت عابرة للحدود، وتستفيد من هشاشة الدولة المركزية المالية لتوسيع مجال نفوذها، مشيرا إلى أن “الأيام القليلة الماضية شهدت تطورا مهما على هذا الصعيد، من خلال زيارة وفد مغربي رفيع المستوى يمثل أجهزة الاستخبارات للعاصمة نواكشوط، حيث عقد اجتماعات موسعة مع قادة المؤسسات الأمنية الموريتانية في إطار تعزيز التعاون الاستخباراتي وتبادل المعطيات حول المخاطر المتصاعدة في المناطق الحدودية”.

وأبرز المجتبى أن هذا التعاون الأمني الثنائي يترجم وعيا استراتيجيا لدى البلدين بأهمية التحرك الاستباقي المشترك، خاصة في ضوء تزايد الهجمات المسلحة، وتعرض بعض المواطنين المغاربة في الفترات الأخيرة لاعتداءات في مناطق التماس مع شمال مالي، مشيرا إلى أن “ما يجمع موريتانيا والمغرب من روابط جغرافية واجتماعية، خصوصا في المناطق الحدودية، يفرض نوعا خاصا من التنسيق الأمني، الذي يراعي الحركية الديمغرافية وتداخل المصالح الاقتصادية للقبائل والسكان المحليين لدى الطرفين”.

ولفت المتحدث الانتباه إلى أن التحدي اليوم لا يقتصر على التعامل مع فراغ أمني ظرفي، بل يمتد إلى مواجهة مشروع توسعي متعدد الأوجه، تتغذى منه الحركات الإرهابية والانفصالية في آن واحد، مضيفا أن “الاستعداد لكل السيناريوهات يجب أن يكون على رأس أولويات الحكومتين في نواكشوط والرباط لأن استقرار الإقليم برمته بات مهددا، في الوقت الذي لم تعد فيه مالي قادرة بمفردها على احتواء هذا الانهيار، مما يستدعي مقاربة جماعية متماسكة تحمي الأمن القومي للدولتين”.

مرآة الجوار

أكد الشيخ بوسعيد، المختص في نزاع الصحراء المغربية، أن إعلان مجموعة “فاغنر” الروسية إنهاء مهامها الرسمية في مالي لا يعني بالضرورة انسحابا كاملا أو تراجعا روسيا عن دعم النظام المالي، بل يترجم أكثر كإعادة تموقع استراتيجية مدروسة، موضحا أن الفيلق الروسي، الذي تم الإعلان عن تأسيسه ليحل محل “فاغنر”، يشكل نسخة أكثر انضباطا وتنظيما، بقيادة مباشرة من وزارة الدفاع الروسية، فيما يشبه هيكلة رسمية للوجود الروسي العسكري في المنطقة، بعد فوضى “فاغنر” وتمرد قائدها يفغيني بريغوجين في صيف 2023.

وأضاف بوسعيد، في تصريح لهسبريس، أن جميع المعطيات الميدانية المتوفرة تشير إلى أن روسيا لم تغادر مالي، بل عززت حضورها عبر إرسال إمدادات عسكرية ثقيلة، من مدرعات وآليات متطورة، إلى جانب نشر نحو ألفي جندي ضمن الفيلق الجديد، الذي يتمركز حاليا في العاصمة باماكو ومناطق حيوية بالوسط والجنوب المالي، مشيرا إلى أنه “يتولى الإشراف على هذا التشكيل العسكري الروسي ضباط كبار، ضمنهم نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف، مما يؤكد الطابع الرسمي لهذا الحضور، الذي يقطع مع الطابع شبه النظامي الذي اتسم به وجود “فاغنر” في السابق”.

واسترسل المتحدث قائلا إن هذا التطور ينظر إليه في نواكشوط بقلق بالغ، حيث تعتبر موريتانيا أن تفاقم الأزمة السياسية والأمنية في مالي تجاوز طابعه المحلي وأصبح تهديدا مباشرا لاستقرارها الحدودي، خاصة في ظل تزايد الفاعلين المسلحين، وتنامي النفوذ العسكري الأجنبي، وتعدد الانقلابات في دول الجوار، مما يضع المنطقة برمتها على صفيح ساخن ويخلق بيئة خصبة للحركات الإرهابية والجريمة المنظمة.

وفي هذا السياق أكد المحلل السياسي عينه أن التعاون الأمني والاستخباراتي بين موريتانيا والمغرب بات ضرورة ملحة، في ظل غموض المشهد المالي واحتمالات انفجار الوضع في أي لحظة، مضيفا أن “ما شهدته نواكشوط مؤخرا من زيارات ولقاءات بين مسؤولين عسكريين من البلدين، ومنها زيارة وفد من أركان الحرب العامة المغربية لفرقة الاستخبارات والأمن العسكري الموريتانية، يجسد إدراكا مشتركا لأهمية التكتل الإقليمي في مواجهة التهديدات المتزايدة”. وقال إن “التعاون المغربي- الموريتاني يجب أن يتطور ليشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق الجهود الميدانية، لا سيما في ظل صعوبة السيطرة على المناطق الحدودية الشاسعة والتداخل الاجتماعي والقبلي بين سكانها”.

وختم بوسعيد حديثه بالتأكيد على أن الوضع الراهن يتطلب قراءة جديدة لموازين القوى في الساحل، لافتا الانتباه إلى أن أمن موريتانيا لم يعد معزولا عن تحولات الجوار، بل أصبح مرآة لها، وأن استقرار المنطقة رهين بمقاربات إقليمية متكاملة تعطي الأولوية للتنسيق الأمني والتنمية المحلية، بدل ترك المجال مفتوحا أمام التدخلات الأجنبية والفاعلين غير النظاميين.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا