رواية “في انتظار الأطباق الطائرة” للبشير الدامون ليست تمرينًا سرديًا عن فتوة تنكسر في أزقة مدينة قديمة. الرواية، في تقديري، نص كثيف بمستوياته النفسية والاجتماعية؛ نصٌّ مُزدحم بالتوترات التي تتقاطع فيها الرغبة بالجسد، المدينة بالبيت، الأم بالأنثى، الحلم بالعقوبة والضياع والتشظي والشعور بالاغتراب. هذه الرواية تستحق، في تقديري، قراءات عديدة من ذوي التخصص في مجال النقد والتحليل الأدبي. وبمناسبة تشريفي في تقديم هذه التحفة الروائية المنظم من لدن جمعية ذُرَرْ للتنمية والثقافة يوم 28 ماي من السنة الجارية، ولأنني لستُ ناقدا ولا متخصصا في المجال، انتقيتُ مقطعا محوريا من الرواية (ص45–50) أثارني وشدَّني بقوة؛ وهو مقطع تتراكم فيه العلامات الرمزية لتمنح القارئ مشهدًا لا يُنسى: مشهد مُكتمل بصور الانكشاف والانهيار، تنسج فيه الكلمات قماشًا من الألم والرغبة والفقد.
السرد في الرواية وفي هذا المقطع كنموذج ينطلق فوق سطح منزل في المدينة العتيقة تطوان. السطح هنا ليس مجرد مكان؛ بل حدٌ رمزي بين ما يُرى وما يُمنع، بين ما يُتخيل وما يُمارس. فوقه تُرمى الأحلام كما تُرمى البطاطس، في فعل هجائي ساخر لواقع تتحكم فيه السلطة الأخلاقية أكثر من أي قانون.
في هذا الفضاء الرمزي، تتجسد شخصية “نعيمة” ليس فقط كامرأة جذابة ومُغرية، بل كأنثى مُراوغة، تمنح وتنسحب، تُغري وتعاقب. حضورها البصري شديد الوضوح، لكن لمستها بعيدة، مؤجلة، محفوفة بالخطر. إنها تفاحة موسمية، لا تؤكل في غير موسمها، اسمها ذاته – “نعيمة” – يحيل إلى النعيم المفقود، إلى وعد لا يتحقق، إلى لذة تنقلب إلى عقوبة.
الأم في هذا النص ليست مجرد شخصية ثانوية. إنها وجه المدينة “المُحافظ”، الغاضب، القاسي. تُمثل السلطة الأخلاقية القاطعة، الرقيب الذي يسكن داخل الذات ويُفعٍّل العقاب بيدٍ لا ترتجف. الأم تُلخِّصُ خطاب المدينة القديمة حين ترفض ابنها الخارج عن طوعها، لا بالكلام وحده، بل بالفعل: حبة بطاطس تُقذف كأنها حجر على رأس البطل كوسيلة تأديب وعقاب.
تبلغ الكوميديا السوداء ذروتها في هذا المقطع حين يقترب الجسدان، جسد البطل ونعيمة، ولا تكتمل اللحظة. عوضًا عن النشوة، تأتي الضربة. تتحول “التفاحة” – رمز الحب والجسد والجنة التي كان يحلم بها البطل إلى بطاطا كأداة لطمة، وتتحول تفاحة حواء التي تجسدها شخصية نعيمة إلى تفاحة سخرية، تعيد الحالِم إلى قاع الخراب. لا خلاص هناك، لا فداء. فقط جرح صغير في الركبة، وشتائم كبيرة من الأم، ونفي واضح من المدينة.
نزول البطل إلى “الخرابة” بحثًا عن دجاجة هو في حقيقته نزول إلى بطن المدينة، إلى ذاكرة الطبقات المنسية، حيث الخشب المكسور والمسامير والرماد. المكان نفسه لا يعكس الفقر فقط، بل انهيار الحلم، تآكل الزمن، وترسبات مجتمع لا يرحم، لا يحن ولا يغفر.
الخرابة لا تختلف كثيرًا عن الشارع، ولا عن البيت. كلها مواقع لدراما رمزية محكومة بجغرافيا أخلاقية دقيقة: السطح حلم، الخرابة غواية، باب المنزل عقوبة. المدينة هنا تفرز أبناءها كما لو أنها آلة فرز أخلاقي. من يخطئ، يُقصى، من يرغب يُهان، من يحلم يُقذف بحبة بطاطا كأن الحلم صار نجاسة.
ليست المدينة مجرد خلفية، بل هي كائن رمزي، متآكل، غاضب، ينتج أبناءه ثم يلفظهم، يزرع فيهم الشوق والعار، ويتركهم يتعفنون في سطوح مغلقة أو خرابات مهدمة، وهي ليست رومانسية، ولا حنونة، بل مدينة طاردة، تحمي “شرفها” بالضرب، وتصون حدودها بالقمع.
يخرج البطل من التجربة لا إلى النضج؛ بل إلى الطرد. كما تقول الأم: “من اليوم، اذهب لتبحث أين ستعيش، أيها الكلب الأجرب الأعرج، والله لو دخلت منولي لقتلتك” ص50. مقطع لا يعني فقط طردًا من البيت، بل من الهوية، من المدينة، من الذكورة نفسها. كأن المدينة العتيقة لم تعد قادرة على احتواء أبنائها؛ بل تدفعهم إلى الخارج، إلى الفراغ.
النص لا يدور حول لحظة شبقية؛ بل يُفكك بنية صراع نفسي واجتماعي عميق، حيث الجسد مُهدد، والهوية مكسورة، والحلم معلق في مدينة لا تمنح إلا الرفض. فيه شعرية عالية مغمسة بطين الواقع، وسخرية مُرَّة لا تُفرغ المعنى؛ بل تُثقله بدلالات رمزية. إنه نصّ يُذكّرنا بأن المدن ليست دائمًا أماكن للسكنى؛ بل قد تكون كائنات حية تراقب وتُحاسب وتطرد من لا يناسب شكلها الأخلاقي.
وهكذا، تتحول المدينة إلى نص مُوازٍ، يتحدث ويقسو ويُصدر الأحكام، ولا يبقي للحالم سوى لطمة، وخرابة، وبقايا تفاحة.
خلفية المدينة في هذا النص ليست مجرد ديكور خارجي؛ بل عمق رمزي يتغلغل في مسارات السرد ومصائر الشخصيات. المدينة في هذا النص جغرافيا أخلاقية دقيقة، حيث ترتبط الفضاءات بالمحرمات والرغبة والعقاب. إنها مدينة تقف ككائن أخلاقي مشروخ، لا يسع الحلم، ولا يرحم الجسد، بل يُقابل الرغبة بالنبذ، والاقتراب بالضرب.
تتموضع المدينة في رواية “في انتظار الأطباق الطائرة” للبشير الدامون كطبقة زمنية متآكلة، متراكمة فوق نفسها، لم تتجدد؛ بل اختنقت بثقل التاريخ وركام الأطلال. حتى الأم والخرابة والبطاطس ليست سوى أدوات تعبّر عن هذا الانهيار الرمزي. والنتيجة: ذات جماعية خائفة، وأحلام مؤجلة إلى “موسم التفاح”، حيث لا حلم يتحقق في غير أوانه.
حضرتني بالمناسبة مقارنة هذا النص البديع مع نصوص أخرى، مثل “كازابلانكا” لمحمد زفزاف.. نص اشتغل هو الآخر على المدينة؛ لكن التباين واضح بين المدينتين، مدينة زفزاف تبتلع وتُفرغ، بينما مدينة الدامون تطرد وتعاقب. الأولى تُغري وتُهلك، الثانية تُراقب وتمنع. إنها ليست فقط مدنًا مختلفة (حديثة مقابل عتيقة)؛ بل رؤيتان مختلفتان للمدينة المغربية: واحدة ترى في المدينة فضاء استهلاك، والأخرى تراها سجنًا أخلاقيًا.
يأتي العنوان “في انتظار الأطباق الطائرة” ليُكمل هذا البناء الرمزي، فهو يحيل إلى الانتظار العبثي، إلى حلم لا يأتي، إلى خلاص مستحيل. “الأطباق الطائرة” لا تحضر أبدًا؛ لكنها تظل وعدًا غامضًا بالخلاص، بحياة أخرى، بحضارة تنقذ الفرد من سطوح الخزي وخرابات الفقر والعقاب. هو عنوان ساخر، يفتح الرواية على أفق كوني؛ لكنه يُبقي القارئ رهين الأرض، حيث لا تحلّق سوى الأحلام المكسورة. إنّه تعبير عن انتظار ممتدّ، عن توق للخلاص الفردي في واقع جماعيّ خانق، انتظار قد يتحوّل، كما تحوّلت التفاحة إلى بطاطا، من وعدٍ بالخلاص إلى صفعةٍ رمزية تنهي الحلم قبل أن يكتمل.
إنها رواية لا تكتفي بالحكي، بل تحفر في جغرافيا المدينة/ الذات/ الجسد، وتُذكّرنا بأن بعض المدن، في عمقها الرمزي، لا تسكننا؛ بل تطردنا.. ولا تمنحنا النعيم؛ بل تجلدنا بوهمه. رواية تتطلب أكثر من قراءة، وتستحق أكثر من انتظار.