آخر الأخبار

يوميات حاج (5): "يوم التروية" في مِنى .. مقام النيّة ومهد السكينة

شارك

في وادي مِنَى، حيث سكنتِ الرؤى القديمة وتجاورتِ الأمنيات، يبدأ الحاجُ أول خطوة نحو كمال الحج. لا بطوافٍ ولا بسعيٍ، بل بنيةٍ صامتة، بنَفَسٍ مطمئن، ووجدانٍ يتوضأ بالسكينة. يوم التروية ليس يومًا للفعل، بل يومًا للإصغاء الداخلي. كل شيء هنا يهمس: “هيئ قلبك، فقد اقترب اللقاء”.

يبيت الحجاج في مِنى كمن يبيت على أبواب مقام، يتهيأ لا بأفعال عظيمة، بل بوعيٍ عميق أنه في طريقه إلى عرفة، إلى ساعة يُرفع فيها الستار بين الأرض والسماء. منى ليست انتظارًا خاملاً؛ بل لحظة للتروّي، للتفكر، ولترتيب الداخل على هدى النية.

ولعلّ اختيار الاسم ليس عبثًا: “التروية”. كأنها تروية الروح قبل عطشها العظيم في عرفة، أو ريّ القلوب قبل لقائها المرتقب مع فيض الرحمة.

هنا، في مِنى، يتساوى الناس في بساطهم، في هندامهم، وفي صمتهم العميق. خيام بيضاء لا تميّز أحدًا، وقلوب تحاول أن تتطهّر من كل شائبة، أن تتذكّر ما كانت تنساه طيلة العام:

أن الإنسان في جوهره سائل، قابل للتشكل، يحتاج فقط إلى لحظة صدق ليعود إلى صفائه.

لا شعائر معقدة، لا أعمال كبرى؛ بل مقام للإقامة مع الذات. تُفتح الصحف القديمة للروح، وتُراجع دفاتر العمر. ربما لذلك كانت مِنى، في عمقها، وادي الأمنيات الصافية. فكما رأى إبراهيم عليه السلام الرؤيا في مِنى، رأى كل حاج، في صمته هناك، صورةً ما من حياته، ليعيد النظر فيها تحت ضوء القرب.

مِنى تعلّمك أن لا يكون الحج أفعالاً متتابعة فحسب؛ بل مراحل من الوعي والشفافية. إنها تهمس للحاج: لا تبدأ بخطواتٍ كبرى قبل أن تسكن إلى نفسك أولاً. قبل عرفة، عليك أن تعرف من أنت، وأن تجلس مع قلبك بلا شتات، بلا استعجال.

وفي منى، الليل له طعم خاص. ينسحب ضجيج العالم شيئًا فشيئًا، ويأخذ الحاج نَفَسًا طويلاً، كأنما يملأ رئتيْه بالطمأنينة. لا شيء يُطلب منه إلا أن يكون حاضرًا، بكامله، مستعدًا.

ويوم التروية، في حقيقته، هو يوم الاستعداد العظيم. لا استعداد البدن؛ بل استعداد النية. فمنى لا تطلب الكثير؛ لكنها تمنح الكثير. تمنح تلك اللحظة الهادئة التي يعيد فيها الحاج ترتيب قلبه، تمهيدًا لأن يرتقي به في عرفة، ثم يُطهّره في المزدلفة، ويُحرّره في رمي الجمرات.

منى، بهذا المعنى، ليست مجرد محطة في الطريق، بل بداية التحول الهادئ، بداية الحجة في شكلها الداخلي: حج النية، حج القلب، حج الصمت النقي الذي يسبق النطق بالعظمة.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا