في خضم دينامية اقتصادية متقلبة، يعود إلى الواجهة ملف إدماج البقالة الصغرى ضمن منظومة الحماية الاجتماعية، في وقت تتسارع فيه الخطى لتوسيع قاعدة المستفيدين من هذا الورش الوطني الكبير. ويجد آلاف “مول الحانوت” أنفسهم أمام معادلة صعبة: فبين رغبة الدولة في محاربة الهشاشة الاقتصادية وضمان الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية، ومخاوف هؤلاء التجار من أثقالهم بواجبات لا تراعي محدودية دخلهم، تتسع فجوة الثقة ويشتد الجدل.
وفي ظل هذا السياق، تطالب العديد من التنظيمات المهنية بإعادة النظر في طريقة تصنيف هؤلاء البقالة ضمن فئة “المقاولات الصغرى”؛ وهو تصنيف يرى فيه كثيرون إجحافا لا يعكس واقع نشاطهم المحدود وهامش ربحهم الضئيل. فالمساواة في الالتزامات بين من يشتغل في محل صغير بزاوية حي شعبي وبين فاعلين اقتصاديين مهيكلين يُعد، حسب الفاعلين المهنيين، ضربا من التعسف المالي، لا سيما أن النظام الضريبي الجديد والتغطية الصحية الإلزامية صارا يشكلان عبئا ثقيلا على قدرتهم الشرائية.
وقد عبّر عدد من البقالة، في تصريحات متطابقة، عن امتعاضهم من الطريقة التي تم بها تنزيل هذا الورش، دون مراعاة لخصوصيات القطاع ولا لظروفهم الاجتماعية والاقتصادية.
ويعتبر هؤلاء البقالة أن غياب التشاور المسبق وفرض مساهمات مالية شهرية تتجاوز أحيانا 600 درهم جعل من التغطية الاجتماعية عبئا إضافيا بدل أن تكون دعما اجتماعيا، مطالبين بإيجاد صيغ أكثر عدلا تعتمد على الدخل الحقيقي لكل تاجر وتضمن استفادتهم من خدمات صحية وتقاعدية دون أن تؤدي إلى إفلاسهم التدريجي.
في المقابل، أكدت الجهات الرسمية أن تعميم التغطية الاجتماعية يُعد خطوة إستراتيجية نحو تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الاقتصاد غير المهيكل، مشددة على أن مساهمة التجار الصغار في هذا الورش ضرورية من أجل استدامته.
وأوضحت أن الدولة تحملت، في مراحل أولى، جزءا من التكلفة الإجمالية للتأمين الإجباري، وتسعى إلى مراجعة بعض المستويات المعيارية المتعلقة بالدخل الجزافي، بهدف تخفيف الضغط عن الفئات الهشة دون التأثير على مبدأ التضامن الذي يقوم عليه النظام.
وفي هذا الإطار، أشارت المندوبية السامية للتخطيط إلى أن نسبة كبيرة من البقالة يشتغلون في ظروف غير مهيكلة، دون سجلات تجارية أو بيانات مالية مضبوطة، مما يصعّب على الدولة تقدير دخلهم الحقيقي وتحديد مساهماتهم بدقة. ومع غياب معطيات رسمية شاملة، يعتمد نظام التغطية على مؤشرات تقريبية، غالبا ما تُلحق ضررا بالفئات الأضعف؛ وهو ما دفع بعدد من الفاعلين المدنيين إلى المطالبة بإجراء إحصاء وطني شامل للبقالة، يضع حدا للفجوة بين الواقع الاقتصادي لهؤلاء، والإجراءات الإدارية المفروضة عليهم.
الحسن، بقال في أحد أحياء مدينة سلا، قال إن البقالة الصغرى تعاني من ضغط متزايد بسبب الالتزامات الجديدة المفروضة باسم التغطية الاجتماعية، مشيرا إلى أن الكثير من زملائه اضطروا إلى إغلاق محلاتهم أو تقليص نشاطهم بشكل كبير.
وأوضح الفاعل المهني، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن إدماج البقالة في منظومة الحماية الاجتماعية يجب أن يُراعى فيه واقعهم الاقتصادي، لا أن يتم التعامل معهم كما لو أنهم مقاولات كبرى، قائلا إن “العدالة الاجتماعية تبدأ من فهم الفوارق على الأرض، لا من فرض مساهمات موحدة على الجميع”.
وأضاف الحسن أن ما يؤرق البقالة اليوم ليس مبدأ التغطية الاجتماعية في حد ذاته؛ بل الكيفية التي يتم بها تطبيقه.
وحسب تعبير المتحدث ذاته، فإن لا أحد يرفض الانخراط في منظومة توفر له ولأسرته العلاج والتقاعد؛ لكن المشكل يكمن في عدم وضوح المعايير المعتمدة لتحديد واجبات الاشتراك، وغياب أية مواكبة فعلية أو دعم مادي يمكن أن يساعد هذه الفئة على التحمل في مرحلة الانتقال.
وأكد الفاعل المهني أن العديد من البقالة وجدوا أنفسهم مجبرين على أداء مبالغ تفوق طاقتهم دون أن يستفيدوا فعليا من الخدمات الموعودة، مشيرا إلى أن بعضهم ظل لأشهر عديدة يدفع الاشتراكات دون أن يتمكن من الاستفادة من أبسط فحوصات طبية؛ إما بسبب مشكل في نظام المعالجة أو لغياب الأطباء في المناطق التي يقطنون فيها.
وختم الحسن حديثه بالتشديد على أن إدماج البقالة في منظومة التغطية الاجتماعية يجب ألا يكون عملية محاسبية جافة؛ بل مشروعا اجتماعيا يُبنى على الإنصات والمرافقة واحترام كرامة هذه الفئة.
عبد القادر الفاسي الفهري، أستاذ الهندسة الاقتصادية بالجامعة الأورومتوسطية بفاس، قال إن إدماج البقالة في نظام التغطية الاجتماعية يجب ألا يُفهم باعتباره مجرد تدبير إداري؛ بل هو رهان على تحويل فاعلين اقتصاديين تقليديين إلى أطراف مهيكلة ضمن الدورة الاقتصادية الوطنية.
وأوضح الفاسي الفهري، في تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن نجاح هذا الإدماج يتطلب تجاوز المقاربة المحاسباتية إلى منطق “الهندسة الاجتماعية-الاقتصادية”، الذي يربط بين القدرة المالية للفئات الهشة وبين مردودية النظام على المدى المتوسط.
وأضاف الأستاذ الجامعي المتخصص في الهندسة الاقتصادية أن فرض مساهمات موحدة على جميع البقالة دون تمييز بين مستوياتهم الاقتصادية يؤدي إلى تشوهات في السوق الاجتماعية ويقوض مبدأ الإنصاف الهيكلي داخل منظومة الحماية.
وأشار المصرح لهسبريس إلى أن النظام الحالي لا يأخذ بعين الاعتبار التباين في رأس المال التداولي، ولا حجم الدورة اليومية للمبيعات؛ وهو ما يجعل بعض المنتسبين يدفعون أكثر مما يستطيعون، في حين لا يلمسون مردودية ملموسة على صعيد الخدمات المقدمة.
وأكد الفاسي الفهري أن الهندسة الاقتصادية للتغطية الاجتماعية تقتضي اعتماد نماذج تنبؤية مرنة قادرة على استيعاب الطابع الموسمي وغير المنتظم لمداخيل البقالة.
وفي هذا الصدد، اقترح المتخصص في الهندسة الاقتصادية العمل على آلية “المساهمة المتدرجة”، التي تربط واجب الاشتراك بدخل مصرح به يتم توثيقه بشكل مرن، إما عبر دفاتر محلية أو تطبيقات رقمية بسيطة.
كما دعا إلى توسيع الشراكات مع البنوك التشاركية وجمعيات القروض الصغرى لتوفير منتجات مالية ملائمة تدعم انخراط هذه الفئة دون إخلال بتوازناتها الاقتصادية.
وشدد المتحدث ذاته على أن أية سياسة عمومية تستهدف الاقتصاد غير المهيكل، وفي مقدمته البقالة الصغرى، ينبغي أن تُصاغ بناء على معطيات ميدانية دقيقة، لا على افتراضات معيارية مستقاة من نماذج اقتصادية كلاسيكية.
واعتبر الفاسي الفهري أن الدولة مطالبة بتوسيع أدوات الرصد الاقتصادي، من خلال إنشاء “مراصد محلية للأنشطة الهشة” تُعنى بجمع وتحليل البيانات الدقيقة حول هذا القطاع، بما يسمح باتخاذ قرارات تستند إلى الواقع لا إلى التقدير.
وختم المتخصص في الهندسة الاقتصادية تصريحه بالتأكيد على أن ورش التغطية الاجتماعية يمثل فرصة تاريخية لبناء تعاقد جديد بين الدولة والمواطن، شريطة أن يكون هذا التعاقد عقلانيا وعادلا وتشاركيا.