سعت الجزائر مجددا إلى توظيف اللقاءات الثنائية في سياق تحركاتها الدبلوماسية لإقحام نزاع الصحراء المغربية في المحافل السياسية، حيث أدرجت الملف ضمن أشغال الدورة الخامسة للمشاورات السياسية الجزائرية البلجيكية، التي جمعت لوناس مقرمان، الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية الجزائرية، بنظيرته البلجيكية، ثيودورا جينسيس، أول أمس الثلاثاء في العاصمة الجزائر.
وحسب بيان صادر عن وزارة الخارجية الجزائرية، فقد ناقش الجانبان عددا من القضايا الدولية والإقليمية؛ من بينها تطورات الوضع في فلسطين ومنطقة الساحل، بالإضافة إلى ملف الصحراء، الذي تحرص الجزائر على إدراجه باستمرار في محادثاتها مع الأطراف الأوروبية، رغم عدم ارتباطه المباشر بمسار التعاون الثنائي.
وتجنب البيان الجزائري الإشارة إلى أي موقف صريح عبرت عنه بلجيكا خلال اللقاء بشأن قضية الصحراء؛ وهو ما فسره متابعون بكونه مؤشرا على تحفظ الجانب البلجيكي أو تمسكه بالموقف الأوروبي الرافض للانحياز إلى الطرح الانفصالي، والداعم لجهود الأمم المتحدة باعتبارها الإطار الوحيد لمعالجة النزاع الإقليمي المفتعل.
وتأتي هذه الخطوة في وقت يعرف فيه موقف بروكسيل تطورا متزايدا نحو دعم مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب سنة 2007؛ فقد سبق لبرنارد كوينتين، وزير الخارجية البلجيكي السابق، أن اعتبر المقترح المغربي “جهدا جديا وذا مصداقية” و”أساسا واقعيا” لحل سياسي يقبله جميع الأطراف.
كما يُنظر إلى تحركات الجزائر الأخيرة محاولة لتعويض فقدان الزخم الدولي حول أطروحة جبهة “البوليساريو”، في ظل تزايد عدد الدول الداعمة للمقاربة المغربية، وارتفاع منسوب التفاعل الإيجابي مع الطرح القائم على الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، كحل عملي وواقعي لإنهاء النزاع الإقليمي حول الصحراء.
سجل عبد الوهاب الكاين، رئيس منظمة “أفريكا ووتش”، أن الخارجية الجزائرية لم تفوّت مناسبة دون محاولة إثارة الغموض والالتباس حول قضية الصحراء المغربية، سواء في المحافل الدولية أو في لقاءاتها الثنائية؛ وذلك بهدف إضعاف الموقف المغربي الترافعي، وخلق جيوب مقاومة لمطالب المملكة المشروعة بشأن سيادتها على أقاليمها الجنوبية.
وأضاف الكاين، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هذا السلوك الجزائري يأتي في وقت تعرف فيه مبادرة الحكم الذاتي المغربية زخما دبلوماسيا متزايدا، مدعوما بتأييد دولي واسع ومتنام؛ مما يدفع الجزائر إلى انتهاج سياسة العرقلة والممانعة في محاولة لفرملة التقدم المغربي على المستويين الإقليمي والدولي.
وأوضح المتحدث أن تكرار الجزائر لمحاولة تصوير النزاع الإقليمي حول الصحراء كقضية تصفية استعمار يعكس ما وصفه بـ”منسوب مرتفع من مشاعر التوجس والارتباك”، نتيجة النجاحات المتوالية التي راكمتها المملكة المغربية، سواء على مستوى استراتيجياتها التنموية أو على صعيد توسيع دائرة الشراكات ذات المصداقية والمصالح المشتركة.
وفي تعليقه على إدراج ملف الصحراء ضمن المباحثات الأخيرة التي جمعت الأمين العام لوزارة الخارجية الجزائرية بنظيرته البلجيكية، اعتبر الكاين أن الأمر “يعكس نزعة هروبية من قبل الدبلوماسية الجزائرية”، التي تحاول لفت الأنظار إلى مواقف داعمة للانفصال، دونما اعتبار لإرادة ساكنة الصحراء أو للشرعية الدولية التي تزداد اقتناعا بمبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد وواقعي للنزاع.
وفي هذا السياق وجد المتحدث أن استمرار الجزائر في إعادة إنتاج خطابها التقليدي بشأن “تقرير المصير” و”استقلال الصحراء” في كل مناسبة وبدونها يعكس حالة من الإصرار على تضليل الرأي العام الدولي، في وقت تعيش فيه الجزائر توترا داخليا ناجما عن هيمنة المؤسسة العسكرية على مفاصل القرار السياسي والاجتماعي.
سجل الدكتور داداي بيبوط، باحث في التاريخ الحديث والمعاصر، أن المحادثات الأخيرة بين الجزائر وبلجيكا تعيد إلى الواجهة مساعي النظام الجزائري المتكررة للتأثير على بعض الدوائر الدبلوماسية الغربية داخل الاتحاد الأوروبي، عبر محاولة استغلال القضايا الثنائية لإقحام نزاع الصحراء في سياقات لا علاقة لها به، بهدف التشويش على الشراكات المغربية الأوروبية وتحويل الأنظار عن الأوضاع الداخلية المتأزمة في الجزائر؛ وعلى رأسها انتكاسة الحريات وتراجع مساحة التعبير والحراك المدني.
وأكد بيبوط، في حديثه مع هسبريس، أن هذه الخطوة تأتي في ظل ما وصفه بـ “الهرولة السياسية” لجنرالات الجزائر، من أجل كسر العزلة التي تعيشها الدبلوماسية الجزائرية عقب تدهور علاقاتها مع فرنسا بسبب اعتراف باريس بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية، إضافة إلى العلاقات المتوترة مع إسبانيا وما رافقها من فقدان الثقة في نوايا الجزائر بخصوص الاستقرار الإقليمي.
وسجل الباحث المتخصص في التاريخ الحديث والمعاصر أن النظام الجزائري يسعى من خلال هذه التحركات إلى تسويق خطاب عدائي مبني على نزعة انتقامية من المغرب، مشيرا إلى أن “هذا السلوك يعكس أزمة عميقة في رؤية الجزائر لبناء علاقاتها الخارجية التي تفتقر إلى مقومات حسن الجوار وتقوم بدل ذلك على محاولات متكررة لإحراج المغرب وترويج مزاعم لا تجد لها صدى في الأوساط الدبلوماسية الأوروبية”.
وأردف المتحدث ذاته أن مثل هذه المحاولات لن تُثمر تحولا في المواقف الأوروبية، خصوصا تلك الصادرة عن بلجيكا التي تربطها علاقات قوية واستراتيجية مع المغرب في مجالات متعددة؛ كالأمن والهجرة ومكافحة الإرهاب والمخدرات، إضافة إلى الشراكات الاقتصادية والتعليمية، وهي مرتكزات تضع المملكة المغربية في موقع الشريك الموثوق والأكثر استقرارا في شمال إفريقيا.
وشدد بيبوط على أن إدراج ملف الصحراء خلال المشاورات الثنائية الجزائرية البلجيكية لن يغيّر من حقيقة رسوخ الموقف البلجيكي، الذي يرى في مبادرة الحكم الذاتي المغربية حلا جادا وذا مصداقية؛ بل سيعكس – من جهة أخرى – هشاشة الدبلوماسية الجزائرية، وافتقارها إلى رؤية واقعية في التعامل مع التحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.