قال الحسن الداكي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة، إن موضوع تدبير منازعات الدولة والوقاية منها ودورها في استقرار الاستثمار وترشيد النفقات العمومية، يأتي استجابةً لحاجات ملحة من أجل تعزيز سيادة القانون وتحقيق التنمية المستدامة في بلادنا عبر تطوير آليات تدبير المنازعات والوقاية منها باعتبارها ركيزة أساسية لضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وتشجيع الاستثمار.
وأكد الداكي الذي كان يتحدث خلال افتتاح أشغال المناظرة الوطنية الأولى حول تدبير منازعات الدولة، أن الوقاية من المنازعات وتدبيرها بفعالية لا يمثل إجراءً تقنيا فحسب، بل يَتَجَسَّدُ كفلسفة شاملة تهدف إلى بناء جسور الثقة بين الأطراف المعنية وتعزيز الحلول التوافقية، موردا أن هذه الحلول ينبغي أن تضمن حقوق جميع الأطراف وتوفر بيئة استثمارية مستقرة وآمنة، باعتبار الاستثمار أحد ركائز الاقتصاد الوطني الذي يساهم بشكل مباشر في تعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص الشغل، ومن هنا تبرز أهمية إيجاد آليات مُبْتَكَرَة تساهم في صون المشروعية وتحقيق الاستقرار وتفادي المنازعات التي تؤثر سلبًا على تحقيق التنمية.
وشدد المتحدث على أن ترشيد النفقات العمومية يشكل تحديًا كبيرًا يتطلب منا جميعًا العمل سوياً لضمان الاستخدام الأمثل للموارد الوطنية، وتطوير آليات فعالة لحل منازعات الدولة والوقاية منها بشكل يسَاهِم في تقليل التكاليف التي قد تنشأ جَرَّاءَ مباشرة الإجراءات والمساطر القانونية والقضائية المرتبطة بهذا الموضوع، مبرزا أن دستور المملكة تضمن مجموعة من المبادئ والأحكام التي تشكل أرضية صلبة لصون المشروعية وسيادة حكم القانون، على رأسها ربط المسؤولية بالمحاسبة والحكامة الجيدة وتخليق الحياة العامة وخلق مناخ أعمال سليم وتنافسي، فضلا عن إجراءات قوية لزجر كل أشكال الانحراف في تدبير النفقات العمومية.
واستحضر الداكي الرسالة الملكية إلى المشاركين في الدورة الثانية للمؤتمر الدولي للعدالة بتاريخ 21 أكتوبر 2019، التي جاء فيها: “… ومن هنا تبرز أهمية توحيد آليات ومساطر تسوية منازعات الاستثمار، على الصعيد الوطني والجهوي والدولي، وتجاوز إشكاليات الاختصاص القضائي الوطني في هذا المجال، عبر إقامة نظام قانوني ملائم، يتوخى تفادي المشاكل والحد من المنازعات، وكذلك إنشاء هيئات متخصصة في فض هذا النوع من النزاعات، داخل الآجال المعقولة، وتراعي خصوصيات المنازعات المالية والتجارية، وتتسم بالسرعة والفعالية والمرونة” .
وأكد أن رئاسة النيابة العامة واعية بأهمية تدبير منازعات الدولة والوقاية منها في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وترشيد النفقات العمومية، حيث بادرت بمعية شركائها، لا سيما الوكالة القضائية للمملكة، إلى بذل جهود متميزة في مسار التدبير الجيد والفعال لمنازعاتها، مستشهدا بندوة علمية وطنية بمراكش خصصت لتدارس موضوع “الخطأ القضائي في مجال الاعتقال الاحتياطي”، نظمت بشراكة مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية والوكالة القضائية للمملكة.
وأضاف الداكي أن رئاسة النيابة العامة انخرطت بكل جدية من أجل تكريس التبادل الإلكتروني للوثائق والمذكرات مع النيابات العامة لدى محاكم المملكة وكذا مع الوكالة القضائية للمملكة، وهو ما كان له الأثر الإيجابي في تسهيل تبادل المعلومات والمستندات ذات الصلة بقضايا المنازعات، ما مكَّن من تجويد الدفاع عن مصالح رئاسة النيابة العامة، وضمان تحقيق النجاعة من خلال ضبط الآجال القانونية واحترام الآجال المحددة من طرف المحاكم، وهو ما انعكس إيجابا على مستوى مؤشر تدبير قضايا التعويض التي يتم رفعها في مواجهة النيابة العامة بسبب بعض القرارات التي قد تتخذها في إطار تدبيرها للدعوى العمومية حيث حققت نسبة نجاح قاربت %100 .
كما عملت رئاسة النيابة العامة، وفق المسؤول القضائي ذاته، على تجميع وتصنيف الاجتهادات القضائية واستخراج المبادئ والقواعد المتعلقة بها وتوظيفها بشكلٍ يضمن المهنية في الدفاع عن مصالحها، وكذا تشخيص خريطة للمخاطر القانونية المرتبطة بمنازعات النيابات العامة، وذلك بهدف تحديد مصادر المنازعات المحتملة وتقييم مخاطرها وآثارها والعمل على تقليصها أو تفاديها.
وأبرز أن استراتيجية رئاسة النيابة العامة في تدبير منازعاتها والدفاع عن مصالحها أفضت إلى خفض نسبة استجابة المحاكم للمطالب المالية للمدعين خلال الست سنوات الأخيرة (2019-2024) إلى أزيد من أربعة وتسعين مليون درهم (94.491.017,00 درهما) وهي مبالغ مهمة تم توفيرها لفائدة خزينة الدولة.
وشدد على أن رئاسة النيابة العامة تسعى إلى تعزيز الوعي لدى النيابات العامة بأهمية الوقاية من المنازعات من خلال تبليغها بنسخ الأحكام والقرارات القضائية الصادرة بشأن القضايا التي تكون النيابة العامة طرفًا فيها، ويأتي هذا النهج إدراكًا منها لأهمية نشر توجهات القضاء الإداري عند البت في هذه القضايا، حيث يُسهم ذلك بشكل فعال في الوقاية من المنازعات والحد من المخاطر القانونية ويؤدي إلى التقليل من المنازعات المعروضة أمام القضاء، مما يُدَعِّم كفاءة العمل القضائي ويُعزز جودة الأداء.
وقال الداكي إن التدبير الجيد لمنازعات الدولة والوقاية منها اليوم لا يقتصر على حل المنازعات بعد حدوثها، بل يتعدى ذلك إلى تبني سياسات وآليات استباقية تمنع نشوء هذه المنازعات، من خلال تعزيز الوسائل البديلة لحلها، مثل الوساطة والتحكيم والمصالحة، التي تُعتبر أدوات فعالة لتخفيف الضغط على المحاكم وتسريع إيجاد حلول مُرضية، وكذا الرقابة الاستباقية على أعمال وتصرفات المؤسسات والتقيد بالإجراءات القانونية التي تضفي الشرعية على أعمال الإدارة.
وختم الداكي كلمته بالتأكيد على ضرورة العمل المشترك بين مختلف المؤسسات، سواء كانت قضائية أو إدارية أو مهنية، وتعزيز التعاون بين القطاعات واستلهام الممارسات الفضلى من التجارب المقارنة الرائدة في هذا المجال بما يساهم في تطوير حلول مبتكرة تستجيب للتحديات الراهنة وتستشرف المستقبل، معبرا عن أمله من كافة الجهات المعنية العمل سوياً على تطوير آليات الوقاية والتدبير الجيد والفعال لمنازعات الدولة بما يخدم مصلحة الوطن والمواطن.