آخر الأخبار

من بوجنيبة إلى مونتريال.. شذرات من طفولة عبد الرحمان الفولادي

شارك

يتناول عبد الرحمان الفولادي في هذا الكتاب سيرته الذاتية التي تدور أحداثها بين بادية أولاد مبارك، مسقط رأسه، وقرية بوجنيبة موطن ترعرعه؛ في بداية خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إذ أصدر الطبعة الأولى (2012) ثم أعاد طبعه عام 2018، طبعة مراجعة ومصححة في 222 صفحة من القطع المتوسط، باللغة الفرنسية، من منشورات مغرب كندا؛ ويضم غلافه صورة طفل وبجانبه كلب، قدم له الكاتب مصطفى بوحدار، فبدأ سرد قصة حياته مستلهما قولة أو حكمة لأحد الفلاسفة أو المثقفين، تبرز معنى عميقا يود الكاتب أن يعبر عنه، مدعما ذلك بصور شخصية وخرائط توضيحية للمنطقة التي يحكي عنها، وأنهاه بخاتمة لمساره العلمي بشكل مختصر (من سنة 1969 إلى 2016) الذي قاده من بوجنيبة إلى مونتريال.

1-

يحكي الكتاب عن سيرة طفل فقد أمه “الأمازيغية” في سن مبكرة وهو ابن خمس سنوات، ليتربى في كنف أم أخرى “زوجة أبيه”، بعدما تعرض الأب للفصل من العمل بالمكتب الشريف للفوسفاط (لوسيبي/لوفيس)، والسجن لمشاركته في حركة التحرير الوطنية، حيث طردت الأسرة نحو أولاد مبارك، لتتم العودة مرة أخرى إلى بوجنيبة بعد استقلال البلد وعودة محمد الخامس من منفاه لاستئناف حياة جديدة.

في هذا الكتاب الأنيق شكلا ومضمونا يصطحبك الكاتب عبد الرحمان في رحلة للتعرُّف على حقبة تاريخية من ماضي المنطقة، حيث وجد المغاربة أنفسهم أمام أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة وقاسية، توالت فيها سنوات الجفاف والجوع، وفي الآن ذاته مواجهة الاستعمار الفرنسي الغاشم.

بدأ الطفل عبد الرحمان حياته في فضاء قرية منجمية، مازالت مرافقها محدودة، يشق طريقه بتؤدة؛ حيث دخل إلى الكُتّاب (الجامع) ثم بعدها إلى المدرسة العصرية . في فضاء الطاشرون بهندسته المعمارية “الإسلامية” – التي تتشابه مع حي “البيوت” بخريبكة، وكذا بنايات حطان وبولنوار- تزينه نافورة حيث كان يلتقي أبناء القرية وبناتها للهو والسقي.

يحكي عبد الرحمان عن أصدقائه (إبراهيم ، إدريس، بن صالح، زريقة) (أزرق العينين)، ويخص بالذكر تحديدا إبراهيم، الذي كان هو الآخر يتيما ومن عائلة أمازيغية، فقد كان مصدر مشورة وتوجيه له، إذ يكبره سنا. فكلما أقدم عبد الرحمان على مغامرة أوقعته في ورطة لجأ إلى إبراهيم ليقدم له مخرجا من مشكلته، ولاسيما أن أب عبد الرحمان- كما هو شأن معظم الآباء في تلك الحقبة –يتعامل بصرامة وقسوة وبعنف زائد عن اللزوم، إذ يظن أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لردع نزق الطفل، ورده إلى جادة الصواب.

2-

استطاع عبد الرحمان ببراعة أن يسترجع أحداثا في طفولته التي مرت عليها السنون، ووصفها بدقة عالية، وبلغة رائقة، وسرد ماتع؛ تناول لباس الأطفال في ذلك الزمن وأكلاتهم، وألعابهم، ونزاعاتهم العنيفة، ومغامرته، وشغبه في الجامع، وتصرفات الفقيه وكتابته طلاسيم و”حجابات” لنسوة المدينة؛ تحدث عن “لالة فاطنة بنت أحمد”، أيقونة بوجنيبة، وعن القافلة السينمائية التي كان تعرض الأفلام في الهواء الطلق. كل ذلك التقطته أعين هذا الطفل بشكل دقيق، واحتفظت به ذاكرته، مع جولاته ضواحي القرية للصيد، وذهابه مع أبيه إلى سوق الأحد، وقصته مع بندقية القنص (المكحلة)، ورحلته إلى زاوية الشيخ وإعجابه بطبيعتها الجبلية؛ مع تذكره حادثة سير في بني ملال لما ذهب بمعية أبيه لتغيير تاريخ ميلاده بالمحكمة، وعلاقته بأخته الكبرى، وتربيته كلبة في بادية أولاد مبارك، وركوبه على الدراجة الهوائية لأول مرة في حياته؛ إلى جانب إشارته إلى الدراسة في ابن ياسين بخريبكة… وغير ذلك من التفاصيل والأحداث والوقائع. وأشير إلى أن التفاصيل التي سردها الكاتب تم بناؤها بتدرج، واقتصرت على مرحلة طفولته ولم يتعدها إلى مرحلة المراهقة. وألاحظ أن المؤلف لم يتحدث بتفصيل عن عالم الداخلية بثانوية بن ياسين بخريبكة، وكذا أجواء متابعته الدراسة بثانوية مولاي عبد الله بالبيضاء، وكذا متابعته الدراسة بمكناس، وحتى زمن عيشه في الرباط كموظف؛ لم ترد إلا إشارات عامة لا تتعلق بشخصه، بل بأجواء العمل البيروقراطي… قد يكون حدد مجال الكتابة في المرحلة التي يعتبرها تأسيسية لما أتى وسيأتي بعدها.

وفي الصدد ذاته استوقفتني قضية مازالت ترخي بظلالها في واقعنا الحالي، أشار إليها الكاتب بشكل ضمني، وهي مسألة التعامل مع الأطفال وتربيتهم أو صراع الأجيال. يتعلق الأمر بخطاب التيئيس وزرع الإحباط، وخطاب التشجيع وزرع الأمل. الخطاب الأول تعبر عنه العبارة التالية:

Je sais que tu ne vaux rien

والخطاب الثاني تعبر عنه العبارة التالية:

Je sais que tu vas réussir

عاش عبد الرحمان في مرحلة طفولته بين هذين الخطابين؛ فالأول يمثله الأب الذي كان صارما وأشد قسوة، ويقابله الطفل بالتحدي والعناد، وخطاب “الفقير”، وهو بشكل ضمني جسدته كذلك الأم الحنون، المليء بالأمل، وقد كان حاضرا / غائبا، وحافزا له للنجاح في دراسته ومن ثم حياته.

وتلكم التيمة أو الموضوعة التي غلبت على طفولة الكاتب، أي صراعه مع الأب الذي لم يذكره بالاسم، ويبدو أن تأثيره على نفسية طفله بدا واضحا، لكن إرادة هذا الأخير انتصرت في نهاية المطاف. أحيانا وأنت تتابع سرد الكاتب ينتابك شعور بالتعاطف، والفرح الممزوج بالبكاء مع هذا الطفل اليتيم، لما يذكر– على مشارف خاتمة قصته- “لقد عدت إلى بادية أولاد مبارك منتصرا (ص 210)، مرفوع الرأس، هذه المرة سأتمتع فيها بالعطل”. وتجسدت فرحة الأب بذبح خروف شكرا لله. هكذا أنهى الكاتب قصة طفولته، موظفا سلاسة السرد، والصراحة والصدق اللذين ميزا أسلوبه.

لما أشرفت على إنهاء القراءة استحضرت قولة ماي جورج: “ما يميز موقفنا من السيرة الذاتية عن موقفنا عند قراءة رواية ليس كون الأولى حقيقية، والثانية خيالية، وإنما كون الأولى تظهر لنا في لبوس الحقيقة، والثانية في لبوس الخيال”؛ فالعمل الذي أنجزه الكاتب يصلح أن يصاغ روائيا وسينمائيا طبعا، مع تعديلات تقتضيها خصوصية فنية، لأنه بدأ السرد من فضاء أولاد مبارك، وحمل الطفل / البطل معه طيف الأم الحاضر/ الغائب، لتبدأ الأحداث تتصاعد في قرية بوجنيبة، والصراع يشتد مع الخصم اللدود/ الأب، ويتقلب البطل بين الأزمات، فلا يخرج من أزمة إلا ليدخل في أخرى، إلى أن ينتهي بانتصار الطفل / البطل الذكي وعودته منتصرا إلى موطن انطلاق الأحداث بأولاد مبارك.

3-

يحكي عبد الرحمان قصة حياته، ويجيب من خلالها عن السؤال المخفي في صياغة عنوان كتابه “من بوجنيبة إلى مونتريال.. مسار مكافح أو كادح حافي القدمين”، وهو أبلغ من عنوان: من المغرب إلى كندا: مسار مكافح من اللاشيء أو من الصفر إن صح هذا التعبير؛ فالعنوان لم يكن نمطيا من قبيل “لمحات أو أوراق من حياتي أو قصة حياتي”… بل كان مقصودا أن يكون بهذه الصيغة، ليدع القارئ يتخيل كيف تمت هذه الطفرة أو القفزة من قرية منجمية غير معروفة لدى المغاربة إلى منطقة كندية يهاجر إليها من يريد العيش بكرامة وسعادة؛ بالعودة إلى السؤال المخفي وراء العنوان: كيف وصل عبد الرحمان إلى القمة؟ وكيف حقق أحلامه؟ ولماذا اتخذ قرار الهجرة إلى كندا وهو في وضعية وظيفية مريحة إلى حد ما؟.

طبعا لم يكن الطفل يملك شيئا سوى الإرادة القوية والثقة في الذات، والرغبة في بناء مستقبل آخر يروقه، ويحقق طموحاته. لم تكن الطريق مفروشة بالورود، مر الطفل عبد الرحمان بصعوبات وإكراهات كادت أن ترجعه إلى نقطة الصفر، إلى بادية أولاد مبارك، ليرعى الغنم والأبقار؛

فلم يكن من أبناء المركز ممن توفرت لهم كل الإمكانيات المادية، لقد كان شأنه شأن الكثير من أبناء الهامش أو المغرب العميق أو المغرب غير النافع، وليس من عائلة محظوظة أو شريفة تُقدم لها العطايا، وأبوه لم يكن سوى عامل في “لوفيس”، وفلاح بسيط بأولاد مبارك، كما كان متعاطفا ومناضلا في صفوف الحركة الوطنية للمطالبة بالاستقلال.

استطاع عبد الرحمان أن يتخطى كل المعيقات بقدراته الذاتية وإرادته القوية في أن يحقق أحلامه، ويسعد عائلته، وتستجاب أمنيات أمه الأمازيغية ودعواتها (رحمها الله ورحم الله جميع الأموات) في أن يصبح رجلا سعيدا في حياته.

تمكن عبد الرحمان في نهاية المطاف أن يحقق شهادات عليا في تخصصات متنوعة، وأن يتقلب في مهام وظيفية مختلفة، ومازال إلى حدود ما كتبه يحلم، بعدما طاف حول أرجاء الأرض، بأن يجول في السماء؛ وحق له أن يكون – بنظري- رمزا لأبناء الهامش، وأيقونة بوجنيبة وضواحيها، وأولاد مبارك ونواحيها، بل كل أبناء المغرب العميق أو غير النافع؛ لقد وضع بين أيديهم قصة للاستلهام والاسترشاد في طريقهم لبناء ذواتهم، وتحقيق أحلامهم.

4-

استهل الكاتب عبد الرحمان قصة حياته بقولة لسنتيانا جورج، من كتاب “الحياة والعقل”؛ مفادها أن “الذين لا يستطعون تذكر الماضي فهم معرضون لتكراره” (ص 9)، قد تكون من بين دواعي الكتابة عما مضى، بكل ما تضمنه من سلبيات وإيجابيات، وعرضه بكل وضوح وصراحة، وذلك تجنبا لعدم تكراره. لعل هذا الاستهلال يعد تصريحا من الكاتب بأهمية الكتابة عن الماضي، لا للاسترجاعه وتكرار مآسيه، بل لاستلهام ما يعين على بناء المستقبل.

هذا الكتاب لم يعد – بنظري- ملكا خاصا لعبد الرحمان الفولادي وحسب، بل أضحى وثيقة تهم القاطنين بالمنطقة برمتها، والمهتمين بالشأن العام والشأن الثقافي والتعليمي، نظرا لما ينطوي عليه -رغم أنه سيرة ذاتية تقتصر على مرحلة الطفولة- من إشارات تاريخية وأنتربولوجية وثقافية تحتاج إلى قراءتها بمنظور آخر، بحيث تستخرج منها خلاصات مفيدة، يستفيد منها الجيل الحالي، وكذا تُفهم عبرها التحولات الجذرية التي مرمنها المجتمع.

خيرا فعل الأستاذ عبد الرحمان لما وثق لذاته، وللحظته التاريخية الماضية التي عاشها بمرها وحلوها، فقد ناب عن كثير من أبناء المنطقة الذين مروا بتجارب مختلفة جديرة هي الأخرى بأن توثق لتوضع بين أيدي هذه الأجيال الصاعدة، وتساهم في حفظ الذاكرة الجماعية لمنطقة ذات خصوصية ولم تنل حقها من التنمية والعناية اللازمتين لمجالها الجغرافي، فتم امتصاصها واستغلالها أبشع استغلال، وتركها لمصير مجهول.

كان حريا بأقران الكاتب ومن جاء بعدهم أن يدونوا قصص حياتهم وكفاحهم ونضالهم، بدلا من أن تبقى حبيسة المشافهة، فتموت ذكرياتهم بموتهم.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا