آخر الأخبار

كيف تعيد "يوتوبيا النساء" تشكيل معاني الحرية والمساواة في العالم؟

شارك

يُوتوبيا أدبيّة بديلًا عن واقع مليء بالبُؤس

تُعتبر رواية “جمهورية النساء” (La République des femmes) للكاتبة جيكوندا بيلي (Gioconda Belli) إحدى أبرز الأعمال الأدبية التي يحمل أفق حكايتها رسالة تحرُّر المرأة من القيود التقليدية والانتصار على التمييز الجنسي. تُصوِّر بيلي في هذه الرواية يوتوبيا أدبية تمتزج فيها الحدود بين الخيال والواقع السياسي، حيث يظهر في فاغواس، الفضاء المتخيَّل المستلهم من نيكاراغوا، حزب سياسي يُعرف بـ”حزب اليسار الإيروسي”، ويتكوّن حصريًا من شخصيات نسائية تتزعَّمهن فيفيانا سانسون، التي تخوض نضالًا حثيثًا للقضاء على التمييز الجنسي، مُقترحةً بديلاً لواقع اجتماعي يقوم على اللامساواة. ومن خلال شخصيات الرواية، تجسّد الكاتبة قوة النّساء في مواجهة الأنظمة القَمْعية، معبِّراتٍ عن تمسّكهن بحقوقهن في المشاركة في صُنع القرار والسيطرة على مصيرهن.

جيوكوندا بيلي شاعرة وروائية نيكاراغوية، ثم شيلية اعتبارًا من عام 2023 بعد أن تمّ سحب جنسيتها النيكاراغوية من قبل نظام دانييل أورتيغا، تحظى بشهرة دولية واسعة، كما حازت على العديد من الجوائز، منها جائزة “كاسا دي لاس أميريكاس” للشعر عام 1978 عن ديوانها Linea de Fuego. هي أيضًا مثقفة ملتزمة شاركت في الأحداث السياسة ببلدها وناضلت لعدة سنوات ضمن صفوف جبهة التّحرير الوطني الساندينية.

تشكل رواية “جمهورية النساء” عملاً أدبيًا يعيد مساءلة قضايا النسوية والسلطة والمساواة من خلال حبكةٍ تدور أحداثها في بلد خيالي تحكمه النساء، بعدما نجحن في زعزعة أسس الهيمنة الذكورية وإعادة رسم ملامح السلطة. تتجلى في الرواية مسيرة التحول التي تقودها مارغاريتا، الصحفية المثابرة، ضمن حركة نسائية تسعى إلى إعادة تشكيل البنية الاجتماعية وإرساء نظام جديد يقوم على مبادئ العدالة والمساواة. غير أن هذه الثورة لا تلبث أن تتخذ مسارًا يفضي إلى قلب المعادلات التقليدية، فتُقصي الرجال وتُعيد تشكيل المنظومة السياسية والاجتماعية وفق رؤية بديلة تثير تساؤلات حول طبيعة التغيير وحدوده.

أسئلة الرواية إذا:


* هل يمكن استبدال سُلطة بأخرى دون أن يؤدي ذلك إلى توليد أشكال جديدة من السيطرة؟
* هل تحقق الثورة النسوية في “جمهورية النساء” تغييرًا حقيقيًا، أم أن النتائج ستكون مجرد تكرار للنظام الذي تم التمرد عليه؟
* كيف يمكن فهم التناقضات التي تعيشها الشخصيات النسائية بين الحماس للتغيير والخوف من أن يتحول الحلم إلى استبداد جديد؟
* هل من الممكن تحقيق المساواة الحقيقية دون الوقوع في فخّ الاستبداد المُضادّ؟
* كيف يمكن لثورة التغيير أن تحافظ على مبادئها التحررية دون أن تتحول إلى أداة قمع مضادة؟

نقدٌ حادّ للهياكل الاجتماعية التقليدية

تتخطى الحكاية في رواية “جمهورية النساء”، حدود السرد المباشر لتكتسب أبعادًا رمزية ممعنة في الإيحاء. يتحول البلد الخيالي، “فاغواس”، إلى مرآة تعكس تطلعات النساء نحو التحرر وإعادة تشكيل أدوارهن في المجتمع. وبهذا، تصبح المدينة المتخيَّلة تجسيدًا لمجتمع تتحقق فيه الأحلام النسوية، متحررًا من قبضة الأنظمة الأبوية التقليدية. ومع ذلك، لا تسقط الرواية في فخ التصورات المثالية، بل تقدم عالماً مُعقداً تتداخل فيه آمال التغيير مع صعوبات الواقع وتناقضاته.

تستمد الحكاية، إلى جانب رمزيتها، إلهامها من التّجارب الشخصية للكاتبة إبّان الثورة الساندينية في نيكاراغوا، حين كانت بيلي جزءًا من الحركة السّاعية إلى الإطاحة بحُكم ديكتاتوري مُستبد. ويضفي هذا التمازج بين الشخصي والسياسي على الرواية طابعًا من المصداقية والعمق الوجداني، ما يجعلها تجسيدًا حيًا لتجربة نضالية فكرية وسياسية تنبض في كل تفاصيل السرد.

من خلال أبعادها الرمزية والشخصية، تسلط الرواية الضوء على جوهر التحرر وشروط تحقيقه، مع التركيز على الصعوبات التي تواجهها الحركات النسوية في محاولاتها لإعادة تشكيل دور المرأة في المجتمع. كما تتناول التساؤل حول قدرة هذه الحركات على تجنب الأخطاء والمزالق التي وقع فيها النظام الأبوي الاستبدادي:


* كيف تحقق رواية “جمهورية النساء” التوازن بين الجمالية الفنية والتأمل الفكري بأسلوب إبداعي متفرد؟
* كيف تنسج الرواية خيوط العلاقة بين الأدب والسياسة، سعياً إلى تخطي الواقع المحلي والتأسيس لأفق تحرري شامل؟
* هل تقدم الرواية نموذجًا جديدًا في فهم مفهوم التحرر أم تظل محكومة بالتحديات الثقافية والاجتماعية؟
* وكيف تعكس الشخصيات النسائية في الرواية مسار الحركات النسوية في سعيها لإعادة صياغة الهوية والسلطة داخل المجتمع؟

تتركّز القصة في هذه الرواية حول شخصية مارغاريتا، الصحفية الجريئة والمفعمة بالشغف، حين تتحول إلى قائدة حركة نسوية تسعى لإحداث تغيير جذري في بنية المجتمع، مؤمنة بحق المرأة في التعبير عن نفسها والمشاركة الفاعلة في تشكيل المستقبل. هكذا تصبح مارغاريتا رمزًا لروح المقاومة النسائية ضد الأنظمة القمعية، ولكل التحديات الشخصية التي تواجهها المرأة في مجتمع ذكوري. بتصوُّرها لمجتمع تقُوده النساء، تحاول بيلي استكشاف مفهوم جديد للعدالة والمساواة، مجتمع يضع النساء في موقع الريادة من أجل بناء عالم يُعنى بحقوق الأفراد، بغض النظر عن جنسهم، وذلك من خلال:

المساواة: وتمثل أحد موضوعات الرواية بقيادة نسائية تسعى إلى تقديم بديل مغاير للنظام الأبوي؛ مثال ذلك ما تقدمه الرواية بخصوص تشكيل “حزب اليسار الإيروسي”، الذي يحارب التمييز الجنسي على مستوى السياسة والاقتصاد، مما يساهم في تشكيل بيئة جديدة تتمحور حول الحقوق المتساوية.

السلطة: لا يقتصر التمرد في الرواية على مواجهة النظام الحاكم فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى السعي لإعادة تشكيل السلطة نفسها. تُجسّد مارغاريتا، الصحفية المتمردة، هذا الصراع الطموح من أجل تمكين النساء وتواجدهن في مركز صنع القرار.

حرية المرأة: ليست الحرية مجرد إزالة للقيود الرمزية فحسب، إنها أيضًا تحرّر نفسي وفكري. تقاوم النساء في الرواية القوى الاجتماعية والسياسية من أجل إعادة تشكيل هويتهن الفردية والجماعية. تُعدُّ فيفيانا، على سبيل المثال، نموذجًا لقائدة سياسية تمتلك الرؤية والقدرة على تغيير مسار الأحداث؛ بمعنى آخر، لا تقتصر السلطة النسائية على الثورة والتغيير الاجتماعي، بل تشمل أيضًا عملية بناء الوعي الذاتي وتطويره، حيث تكمن قوتها في القدرة على إعادة صياغة هويتها وفرض وجودها في عالم مليء بالتحديات. ولذلك، لا يتوقف التغيير الذي تسعى إليه المرأة عند المستوى السياسي أو الاجتماعي فحسب، لكنه يمتد إلى مستوى أعمق من الوعي الذاتي حين تعيد اكتشاف قيمها، وتُفكّكُ المفاهيم التقليدية التي تحصرها، لتكتسبَ سُلطة جديدة قائمة على الاستقلال والاختيار الحُر.

التَّوتُّر بين اليُوتوبيا والدّيسْتوبيا

بالرغم من الثورة النسوية التي تسعى إلى تغيير هذا الواقع، فإن الرواية لا تكتفي بتقديم صورة وردية لنجاح الحركة النسوية في الإطاحة بالبنى الأبوية، بل تُظهر كيف أن هذه الحركات قد تُعيد إنتاج نوع من التسلّط، لكن هذه المرة على يد النساء أنفسهن. من خلال نقدها لتلك البنى، تنفتح حكاية الرواية على سؤال محوري: هل يمكن للمجتمع النسوي أن يتجاوز التأثيرات العميقة للنظام الأبوي، أم أنه سيظل محاصرًا بالتناقضات نفسها؟

في هذا السياق، تقدم جيكوندا بيلي في رواية “بلد النساء” رؤية ليُوتوبيا نسوية تسعى إلى تحقيق المساواة والحرية للنساء، إلا أن الرواية لا تقتصر على عرض هذا النموذج الطوباوي، بل تثير أيضًا التناقضات والمخاطر التي قد تطرأ عند السعي لتحقيق بعض أهدافه. يظهر هذا التناقض بجلاء من خلال التركيز على كيفية تحول الحركات النسوية، التي يُفترض أن تكون حركات تحررية، إلى أنظمة سُلطوية بديلة. ولذلك ينفتح أفق الحكاية على سؤال فلسفي يخصّ تأمّل إمكانية تحقيق مجتمع متساوٍ دون الوقوع في فخ الهيمنة والسلطة: هل يمكن للثورة أن تنقلب ضد نفسها؟ وهل يمكن للنساء، بعد تحررهن، أن يتجنبن الوقوع في فخ القمع الذي لطالما عانَيْن منه؟

لا تقدّم حكاية “جمهورية النساء” يوتوبيا نسوية خالصة، بل تركز على هشاشتها المحتملة ومخاطر السلطة، سواء كانت رجالية أم نسائية. فالتحرر والثورة لا يعنيان بالضرورة نهاية الاضطهاد، بل قد يكونان بداية لصراعات جديدة على السلطة، قد تؤدي إلى إعادة إنتاج هياكل قمعية جديدة، حتى وإن تم تبريرها باسم المساواة والعدالة.

يتجلّى في رواية “جمهورية النساء” التوتر بين اليوتوبيا والدّيستوبيا باعتباره أحد الأبعاد الفكرية التي تعكسُ الصّراع في مجتمع فاغواس. يُحاكِي هذا التوتر بين المثالية التي تمثلها اليوتوبيا والظلال القاتمة التي تحملها الديستوبيا معركة حقيقية بين الأمل في التغيير الجذري وواقع التحديات التي قد تفرزها عملية التغيير ذاته.

بهذا المعنى، تمثل اليوتوبيا رؤية مثالية لمستقبل يحقق المساواة الكاملة بين النساء والرجال. ويشكل الحزب النسوي الذي تقوده بطلة الرواية فيفيانا سانسون، بتطلعه لبناء مجتمع يعتمد على العدالة الاجتماعية والمساواة، رمزًا لهذه اليوتوبيا. أما الديستوبيا فتبرز باعتبارها ظلّا يلوحُ في أفق هذا المشروع حين تتكشف التحديات والصراعات التي تطرأ عند محاولة تحقيقه على أرض الواقع؛ أي أنّ الأمل في بناء مجتمع جديد يظل مهددًا بمشاعر الشكّ والخَوف من التحولات التي تفرزها التغييرات السياسية والاجتماعية السريعة.

تنبني الرواية على رؤية نسوية تعيد صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتتصور نموذجًا للحكم يرتكز على التّعاون، عوضًا عن القمع والسّيْطرة. يتجاوزُ هذا التأمّل فكرة التحرر من القمع السياسي، ليشمل التّحرّر النّفسي والثّقافي.

بهذا المعنى، تعيد جيوكوندا بيلي التفكير في منظومة القيم التي تحكم المجتمع، ولذلك ترسم روايتها تقاطعًا خلاقًا بين الواقع واليوتوبيا، مؤكدةً قدرة الأدب على تمثّل رؤى مستقبلية أكثر عدلًا وإنسانية.

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا