بين من يعتبر أنها بلغت مرحلة “اللاعودة” وبين من يصفها بـ”سحابة عابرة”، تواصل الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا التعقيد يوما بعد آخر؛ فبعدما كان يتعلق بـ”خلاف سياسي” حول موقف باريس المستجد من قضية الصحراء المغربية ومقترح الحكم الذاتي، بات الأمر يتجاوز ذلك بكثير ليتحول إلى ما يصفه النظام الجزائري “تدخلا سافرا وغير مقبول في الشؤون الداخلية للجزائر”، في رد على تصريحات إيمانويل ماكرون المنتقدة لاستمرار اعتقال الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال.
ومنذ 25 يوليوز من العام الماضي، حين حذر “قصر المرادية” فرنسا من المضي قدما نحو إعلان الموقف الذي تم إعلانه بالفعل في الـ30 من الشهر ذاته، والذي اعتبر أن “حاضر ومستقبل الصحراء المغربية يندرجان في إطار السيادة المغربية” ودفع النظام الجزائري إلى استدعاء سفيره بباريس قبل انقضاء اليوم، لم تجد العلاقات الجزائرية الفرنسية طريقا نحو حالها السابق.
وخلال الأيام الأخيرة، تفاقمت أزمة البلدين، حيث تنفذ السلطات الفرنسية سلسلة من الاعتقالات في صفوف “مؤثرين” جزائريين بسبب رسائل كراهية نشروها؛ من بينهم ملقب بـ”بوعلام” جرى ترحيله إلى الجزائر قبل أن ترفض الأخيرة استقباله لتعيده من جديد إلى فرنسا.
ويرى المراقبون أن هذه التطورات لا يمكن فصلها عن أصل الأزمة بين البلدين والمتعلقة أساسا برفض النظام العسكري في الجزائري لموقف باريس من مغربية الصحراء، إذ يحاول ممارسة ضغوط سياسية، مستخدما مجموعة من الأدوات الدبلوماسية والإعلامية لفرض مواقفه من هذا الملف ومواصلة دعم جبهة “البوليساريو” الانفصالية.
المحلل السياسي محمد العمراني بوخبزة قال إن الجزائر تعيش “حالة من فقدان البوصلة بشكل كبير في علاقاتها الخارجية”، حيث لم تستطع قراءة التحولات الكبرى التي شهدها النظام العالمي ولا تزال تعتمد الآليات التقليدية نفسها في سياستها الخارجية؛ وهو ما جعلها عاجزة عن مواكبة هذه التحولات.
وأضاف العمراني بوخبزة، ضمن تصريح لهسبريس، أن هذا العجز يتجلى بشكل واضح في علاقات الجزائر مع محور سوريا وإيران، وأيضا في اختياراتها في التعامل مع الجيران، إذ أصبحت الجزائر غير قادرة على مواكبة الاعتبارات الجديدة التي تؤثر على الدول التقليدية التي كانت تتعامل معها، مثل فرنسا وإسبانيا، حيث فقدت القدرة على التكيف مع المتغيرات الخارجية.
وأشار المحلل إلى أن الوضع الداخلي في الجزائر لا يقل تعقيدا عن الوضع الخارجي، حيث تواجه السلطة أزمات اجتماعية متعاقبة؛ بالإضافة إلى الحراك الاجتماعي القوي الذي يزيد من حدة الأزمة. ونتيجة لذلك، بدأت الجزائر تتخذ مواقف خارجية انعكاسية قد تكلفها الكثير على مستوى علاقاتها الدولية، خاصة مع فرنسا والمغرب وليبيا؛ بالإضافة إلى دول مثل مالي والنيجر وتشاد.
وشدد العمراني بوخبزة على أن الجزائر تعتمد الآن على وسائل ضغط مثل المؤثرين والتشويش على الداخل الفرنسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو وسائل إعلام تهيمن عليها الجزائر داخل فرنسا، “وهي استراتيجية قد تأتي بنتائج عكسية”.
وأكد أن الجزائر قد تتسبب في تعميق الأزمة مع فرنسا، خصوصا أن العلاقة بين البلدين ليست عادية بل متشابكة ومعقدة، مع وجود مصالح اقتصادية واجتماعية كبيرة بينهما.
وخلص المحلل السياسي ذاته إلى أن فرنسا لم تتخذ، حتى الآن، خطوات تصعيدية كبيرة تجاه الجزائر؛ “ولكن قد نشهد تحولا في الموقف الفرنسي قريبا، إذا استمرت الجزائر في اتخاذ قرارات عشوائية من أجل وضع حد لها؛ ما سيزيد من عزلة الجزائر على المستويين الإقليمي والدولي، خاصة أن فرنسا تتمتع بثقل كبير داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، مما يعني أن أي تصعيد قد تكون له تداعيات أوسع على مستوى العلاقات الدولية.
من جانبه، سجل عبد العالي بنلياس، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن الدبلوماسية الجزائرية تواجه، حاليا، “سلسلة من الانكسارات” على مستوى علاقاتها الخارجية، خاصة مع فرنسا.
وأرجع بنلياس، في تصريح لهسبريس، هذا الوضع إلى “الفوبيا السياسية” التي تعاني منها الجزائر نتيجة الاعترافات الدولية المتزايدة بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية.
وأوضح الأستاذ الجامعي أن الجزائر تحاول جاهدة استرجاع بعض المكاسب السياسية التي فقدتها بفعل التحولات الجيوسياسية العالمية، خصوصا من خلال الضغط على فرنسا للحصول على مواقف داعمة لها، سواء فيما يتعلق بملف الذاكرة أو موقف باريس من قضية الصحراء المغربية.
ويأتي هذا التصعيد في محاولة للتأثير على الرأي العام الداخلي في الجزائر وتقديم صورة مفادها أن الدبلوماسية الجزائرية قادرة على الرد على التحديات الخارجية وفق المحلل ذاته، الذي أشار إلى أن النظام الجزائري يسعى أيضا إلى الحصول على هامش تحرك داخل التراب الفرنسي؛ من خلال السماح للأصوات المحسوبة عليه بتمرير خطاباته، أو من خلال شرعنة الاعتقالات التي تطال النشطاء والمعارضين.