آخر الأخبار

يحيى بولمان.. قصة كفيف مغربي غامر بحياته عبر “قوارب الموت” لاستعادة بصره بأوروبا

شارك الخبر

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على الرابط أعلاه للمشاهدة على الموقع الرسمي

بعد سنوات من الصراع مع ظروف قاسية في بلدته “ملعب” بإقليم الراشيدية، وجد يحيى بولمان، الشاب المغربي الكفيف، نفسه مضطرا لخوض مغامرة محفوفة بالمخاطر عبر “قوارب الموت” من السواحل الجزائرية في محاولة للوصول إلى الفردوس الأوروبي، ليؤكد بأن هذه المغامرة لم تعد حكرا على المبصرين أو الأصحاء جسديا، بل امتدت لتشمل ذوي الهمم، خاصة فاقدي البصر، الذين يبحثون عن بصيص أمل في أماكن بعيدة.

بالنسبة ليحيى، الذي يبلغ من العمر 39 عاما، كان القرار صعبا لكنه حتمي في سعيه للحصول على فرصة عمل تضمن له حياة كريمة وتحقيق حلمه باستعادة بصره، بعد أن أحيى طبيب في الرباط آماله في العلاج. وبعدما وجد كل أبواب المسؤولين موصدة أمامه، لم يكن أمامه سوى المجازفة بحياته في رحلة نحو المجهول، على أمل أن تحمله الأمواج إلى مستقبل أفضل.

“السخانة” جعلتني كفيفا

لم يولد يحيى بولمان كفيفا عندما جاء إلى الحياة في شهر يوليوز من سنة 1985، بل عاش السنة الأولى من حياته وهو يبصر العالم من حوله. لكن بعد إصابته بداء الحصبة “بوحمرون” وما صاحبها من حمى شديدة، فقد بصره بشكل مفاجئ. يقول يحيى في حديث مع جريدة “العمق”: “والدي كان فلاحا فقيرا، معدوم الإمكانيات المادية، ولم يتمكن من توفير الاستشفاء اللازم لي، واكتفت عائلتي حينها بالطب البديل، لكن في النهاية اكتشفوا أنني فقدت بصري بالكامل”.


كانت تلك اللحظة بداية رحلة طويلة من المعاناة والتحديات التي رافقت يحيى طوال حياته، وأولى هذه التحديات ظهرت عندما بلغ سن السابعة، فقد رفضت أستاذة قبوله في صفها بحجة أنها “لا تريد تحمل مسؤولية كفيف، خوفا من أن يسقط أو يصاب بمكروه”، كما يروي يحيى. لكن هذا الرفض لم يثنه عن السعي وراء العلم، فبدلا من الاستسلام، كان يرافق أقرانه إلى المدرسة، يظل خارج الفصل يسترق السمع محاولا التقاط ما يستطيع من الدروس، وينتظرهم حتى تنتهي الحصة ليعود معهم إلى الدوار.

نظرة المجتمع تقتل

“هو كفيف، لا يمكنه العمل ولا السفر بمفرده ولا حتى قضاء حاجياته دون مساعدة”، بهذه الكلمات لخص يحيى بولمان نظرة المجتمع إلى الكفيف، نظرة قال عنها إنها “تقتل في الكفيف رغبته في الحياة”. ورغم ذلك، كان يحيى متصالحا مع إعاقته، عازما على تحقيق هدفه في الحصول على حقه في التعليم.

في عام 2010، سافر يحيى إلى الناظور لزيارة أشقائه الذين يعملون في مجال البناء، وهناك قرر ولوج مدرسة عتيقة حيث كان يتلقى تعليمه من خلال السمع. بعد ذلك، انتقل إلى وجدة لنفس الغرض، ثم خاض تجربة جديدة في الدار البيضاء، حيث بحث عن جمعية لتعلم القراءة بطريقة “برايل”، وبفضل هذا الإصرار، استطاع يحيى مواصلة دراسته، فاجتاز امتحان السادس ابتدائي كطالب حر بنجاح، وبعدها نال شهادة الإعدادي بنفس الطريقة.

بحث عن عيش كريم

كان يحيى بولمان معروفا لدى المسؤولين بإقليم الراشيدية بـ”الكفيف المزعج”، نظرا لإصراره المتواصل على المطالبة بحقوقه من خلال وقفات احتجاجية وإضرابات أمام ولاية جهة درعة تافيلالت ومجلس الجهة. كان يحيى يجسد بصوته وقلبه مطلب الكرامة، حيث كان يرفع خلال تلك الاحتجاجات لافتة تحمل رسالة واضحة ومؤثرة: “أنا مواطن مغربي مكفوف، لا أريد التسول ولا السرقة، كل ما أتمناه هو العيش بكرامة وأن أكون منتجًا، وليس عبئا على وطني”.

بهذه الكلمات، عبر يحيى عن حلمه بأن يكون مواطنا يساهم في بناء المجتمع، رغم الصعوبات والإعاقة التي يعاني منها. وصل نداؤه أخيرا إلى والي الجهة، الذي استقبله في عام 2017 واستمع إلى مطالبه. تقرر حينها مساعدته من خلال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لكن تم إبلاغه بضرورة تأسيس جمعية أولا، لأن المبادرة لا تدعم الأفراد. لاحقا، طُلب منه تأسيس تعاونية لتحقيق الدعم، ومع ذلك لم يتلقَ أي مساعدة وظل يقطع المسافات يوميا، يطرق أبواب المسؤولين بحثا عن حلول، لكن دون جدوى. هذه المحاولات التي باءت بالفشل زادت من تحديات يحيى، لكنها لم تنل من عزيمته.

أمل في استعادة البصر
ألقى طبيب في الرباط في أحضان يحيى بولمان شرارة الأمل باستعادة بصره، بعدما أخبره بأن علاجه ممكن في فرنسا عن طريق زرع شبكية العين. يقول يحيى: “سألني الطبيب إذا كان لدي أقارب في فرنسا يمكنهم مساعدتي، فأجبته بالنفي. بعدها بدأت إجراءات التقدم للحصول على تأشيرة طبية، لكنها رُفضت مرارا. عندها قررت السفر إلى تركيا بعد أن أخبرني صديق بأن هناك مستشفيات متطورة يمكنها علاجي. لكن، عند وصولي إلى إسطنبول، تفاجأت بأن العملية تتطلب 135 ألف يورو، فعدت أدراجي إلى المغرب”.

بعدما فقد الأمل في العلاج خارج المغرب، قرر يحيى استغلال وقته في الأعمال الفلاحية، حيث بدأ بشراء التمور وإعادة بيعها في الأسواق، في محاولة ليكون منتجا وفاعلا في مجتمعه. كما أسس تعاونية فلاحية بالتعاون مع مجموعة من النساء والأرامل، وتقدم بعدة طلبات إلى مصالح وزارة الفلاحة للمساعدة في حفر بئر، لكن طلباته كانت تواجه بالتجاهل. بالإضافة إلى ذلك، دفع بمشروع لمؤسسة التعاون الوطني في إطار برنامج التماسك الاجتماعي بقيمة 6 ملايين سنتيم منذ عام 2015 وحتى 2022. وبعد سلسلة من الإضرابات، تم منحه 4 ملايين سنتيم.

فكرة الهجرة
كانت أولى محاولات يحيى للهجرة نحو أوروبا عن طريق “بليونش” قرب تطوان، حيث رافق عددا من شباب منطقته “تنجداد” الذين ساعدوه على تسلق جبل “سيدي موسى”، الذي يعد ملجأ للمئات من المهاجرين السريين. ورغم اقترابه من تحقيق حلمه، رفض “المهرب” السماح ليحيى بالركوب في القارب لأنه كفيف.

في محاولته الثانية للهجرة غير الشرعية، قرر يحيى الاختباء مع مجموعة من الشباب داخل شاحنة محملة بالبطيخ الأحمر “الدلاح” في سلا، لكن سرعان ما داهمتهم الشرطة، وهرب باقي الشباب، فيما تم اعتقال يحيى، وخضع للتحقيق لأكثر من ساعتين، حيث تم استجوابه عن سبب تواجده في تلك المنطقة المعروفة بتواجد شاحنات النقل الدولي ومحاولات الشباب التسلل إليها للهجرة.

الوصول إلى الجزائر
وكشف يحيى بولمان أنه في عام 2023 تواصل مع مهرب جزائري وأعرب له عن نيته في الهجرة بحرا عبر السواحل الجزائرية إلى أوروبا، ليقرر السفر مع مجموعة من شباب منطقته إلى الجزائر عبر تونس، مستغلا هذا المسار غير المعتاد. وأثناء عملية مراقبة الجوازات في الجزائر، استفسر أحد رجال الشرطة عن سبب زيارته للبلاد، فادعى يحيى أنه كفيف وجاء إلى الجزائر بحثا عن العلاج، وهي حيلة لجأ إليها حتى لا يُثير الشكوك حول نواياه الحقيقية.

استقر يحيى في الجزائر لمدة 25 يوما، حيث كان يتردد مع مجموعة من الشباب على غابة بمدينة وهران، التي تعد نقطة انطلاق قوارب الهجرة السرية باتجاه السواحل الإسبانية. وبعد محاولات عدة، نجح في الإبحار عبر قارب مع مجموعة من “الحراكة” نحو مدينة ألميريا الإسبانية، واستغرقت الرحلة خمس ساعات في عرض البحر، ليصل أخيرا إلى مبتغاه شهر ماي 2023.

حياة جديدة وبداية العلاج
لم تتوقف مغامرة الشاب الكفيف عند حدود إسبانيا، فقد اتجه نحو فرنسا، حيث لجأ إلى مركز للشرطة بمدينة مونبولييه طلبا للمساعدة، وبفضل وجود مترجم من منطقة القبائل الجزائرية، نصح الشاب بالتوجه إلى أحد المساجد لتجنب إعادته إلى المغرب، خصوصا وأنه لا يتقن اللغة الفرنسية وليس له عائلة في فرنسا.

كما أشار بولمان إلى أن رحلة علاجه بدأت في المستشفى الجامعي ببوردو، حيث خضع لبعض الفحوصات الطبية الأولية، وعندما سُئل عن مدة تأشيرة إقامته لإجراء العملية، اعترف بأنه مهاجر غير شرعي، وأنه جاء إلى فرنسا بهدف أساسي هو تلقي العلاج واستعادة بصره. وقد أعطاه أحد الأطباء هناك بارقة أمل في استعادة بصره.

“لولا الإهمال”
أكد الشاب الكفيف يحيى بولمان أنه لولا توفر ظروف عيش كريمة في منطقته لما لجأ إلى مخاطرة الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت، مضيفا أنه رغم تأسيسه لتعاونية رفقة نساء أرامل لتوفير مصدر رزق، إلا أنه لم يحظ بالدعم الكافي. كما عبّر عن استيائه من تكرار الاحتجاجات أمام عمالة الرشيدية دون جدوى، ومن التعامل الإحسانِي مع المكفوفين والذي يعتبره مهينا.

وأشار بولمان إلى أنه ليس الوحيد من المكفوفين الذي لجأ إلى هذه المغامرة، فقد رافقه في الرحلة شاب كفيف آخر من تنجداد، كما سمع عن وصول كفيف من العيون إلى إسبانيا، مؤكدا أن إهمال المسؤولين للرياضيين من ذوي الاحتياجات الخاصة يُضيّع على المغرب فرصا ذهبية، مستشهدا بنجاحات رياضيين مغاربة من ذوي الإعاقات في الألعاب البارالمبية بباريس بألوان دول أخرى.

العمق المصدر: العمق
شارك الخبر

إقرأ أيضا