غزة – في قطاعٍ ينهشه الحصار وتغمره النيران لأكثر من عامين من حرب الإبادة، تنهض غزة من تحت الركام لا بقرارات رسمية ولا بموازنات دولية، بل بما تبقى من إرادة في قلوب أبنائها؛ مبادرات فردية تنبت بين الأنقاض كالعشب في أرض محروقة؛ تسد الجوع، وتروي العطش، وتُبقي للناس معنى أن يعيشوا رغم أن الحياة لم تعد ممكنة.
فوسط دمارٍ شامل لم يُبق شيئا على حاله، خرجت مبادرات شبابية ومجتمعية في مجالات متعددة: إطعام الجائعين في المخيمات، ونقل المياه الصالحة للشرب، وجمع الأدوية، وتوفير الحليب للأطفال، والمساعدة في دفن الشهداء وتنظيف الشوارع، وتقديم الدعم النفسي للنازحين، وابتكار حلول ريادية وإبداعية للخروج من الأزمات.
يقول خبير التنمية البشرية الدكتور نبيل اللوح، "إن ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد مبادرات عادية، بل حركة حياة في وجه الفناء".
ويضيف اللوح لـ"الجزيرة نت"، أن كل عمل -مهما بدا صغيرا- أصبح ذا قيمة عظيمة، لأن الجوع والموت والبرد مظاهر جعلت من أبسط المبادرات عملا بطوليا.
ويرى أن هذه الجهود المتناثرة أسهمت في تعزيز التكافل الاجتماعي وصمود السكان، فالمجتمع الغزي -كما يقول- "أثبت أن الخير لا يُقصف، وأن الروح الجماعية ما زالت قادرة على ترميم ما تهدّم".
ويتابع "في قلب المشهد، يقف الشباب الفلسطيني في غزة كطائر الفينيق، يخرج من الرماد ليصنع أملا، فمنهم من يطبخ ويوزع الطعام والماء، ومنهم من يدفن الشهداء أو ينظف الشوارع، وآخرون يوثقون جرائم الحرب بالكاميرات وأصواتهم التي لم تُسكتها الغارات".
يقول اللوح "الاحتلال قتل مئات الصحفيين، لكنه فشل في قتل الحقيقة، فهؤلاء الشباب أوصلوا للعالم مشهد الإبادة الجماعية ، وحوّلوا المأساة إلى رواية مقاومة، بصمود الشعب وروح المبادرين".
هذا الفعل الجمعي جعل غزة تبدو -رغم ركامها- أكثر تماسكا من أي وقت مضى، فكل بيت مدمّر يجد حوله من يمدّ له يدا، وكل نازح يجد من يعينه على نصب خيمته، فهي أشبه بشبكة صمود غير مرئية، يصنعها الناس بأيديهم، ويرممون بها ما تهشّم من حياتهم وكرامتهم.
من بين هذه النماذج تبرز مبادرة "روضة ومدرسة الجنان الحديثة" التي أطلقتها الدكتورة رناد الحلو وسط فوضى النزوح.
تقول الحلو "بدأتُ من العدم؛ فقدتُ مؤسستي الكبيرة التي قصفت قبل افتتاحها، لكنني شعرت أن علينا إنقاذ أطفالنا من الضياع النفسي والتعليمي، فبدأتُ من جديد في أي مساحة آمنة".
3 مرات أُعيد افتتاح المدرسة في أماكن مختلفة بعد موجات نزوح متكررة، حيث لا خيام، لا مقاعد، وبأرض تُدرّس فوقها الحروف.
تروي الحلو لـ"الجزيرة نت": "كنا نعمل تحت الشمس أو المطر، نجلس على الأرض بلا قرطاسية ولا حماية؛ بعض الأطفال استُشهدوا خلال القصف، لكننا واصلنا العمل لأن الاستسلام يعني موتا آخر".
تفاعل الأهالي كان مذهلا، كما تقول، "المبادرة منحت الأطفال شعورا بأن التعليم ما زال ممكنا، وأن هناك من يهتم بهم، حتى المعلمات النازحات تطوعن من تلقاء أنفسهن، لأنهن أدركن أن التعليم صار شكلا من أشكال المقاومة".
وفي فصول الجنان الحديثة، لم يكن التعليم أكاديميا فقط، بل نفسيا أيضا، حيث توضح الحلو وهي ناشطة مجتمعية ونفسية: "كنا نحاول نقل الأطفال من دائرة الخوف إلى التعلم، ومن الفقد إلى الإنتاج؛ لاحظنا تراجع السلوك العدواني لديهم وارتفاع قدرتهم على التركيز".
وترى أن المرأة الفلسطينية كانت قائدة الصمود الحقيقي، لأنها تجمع بين رعاية الأسرة وقيادة المبادرات المجتمعية.
وتختم "ما زلنا نحلم بإعادة بناء مؤسستنا الأصلية التي دمرتها طائرات الاحتلال، وبتوسيع الفروع لتصل إلى كل مخيم نزوح، فالتعليم بالنسبة لنا ليس رفاهية، بل علاج جماعي للبقاء".
من جانبه، يشرح الدكتور سامي أبو شمالة، استشاري ريادة وتطوير الأعمال، أن الحرب "قضت على معظم المشاريع الصغيرة، لكن روح الريادة لم تمت".
فبعد أن اختفى عدد كبير من المشاريع تحت الأنقاض أو بسبب انقطاع الإنترنت والكهرباء، بدأت تظهر مبادرات جديدة تحاول ترميم الاقتصاد المنزلي والفرص الفردية.
يقول "شاهدنا شبابا أطلقوا مبادرات لتوفير أماكن عمل آمنة فيها كهرباء وإنترنت للعاملين في مجالات العمل الحر؛ آخرون أعادوا التجمعات التعليمية التطوعية، وحتى سيدات محدودات الدخل أسسن مشاريع تعاونية صغيرة لتوفير دخلٍ لأسرهن".
ويرى أبو شمالة أن هذه المحاولات ربما تبدو محدودة، لكنها تمثل بذورا لاقتصاد مجتمعي بديل في ظروف يستحيل فيها العمل المؤسسي، مضيفا: "المرحلة القادمة ستكون مرحلة جني الثمار؛ سنرى جيلا جديدا من الرياديين الذين بدؤوا من الصفر، وتعلموا من الحرب كيف يصنعون مشروعا من لا شيء، لكن التحدي الأكبر -كما يؤكد- هو غياب الدعم المؤسساتي الكافي".
ويختم بالقول "المؤسسات الدولية مطالبة باستيعاب هذه الطاقات وتمكينها، لأن استمرارها يعني بقاء المجتمع نفسه".
أما المستشار ماهر شبير، عضو المجلس الأعلى للإبداع والتميّز في فلسطين ، فيؤكد أن المجلس رأى في المبادرات الفردية طاقة وطنية يجب احتضانها، فخلال الحرب، رصد المجلس المبادرات الميدانية، وابتكر آليات دعم رقمية تتيح تقييم الأفكار ومتابعتها رغم انقطاع التواصل الميداني.
يقول شبير إن المجلس أطلق برامج خاصة مثل "هاكاثون غزة في الطوارئ" و"تحدي الابتكار من أجل البقاء"، لجمع أفكار تساعد في استعادة الخدمات الأساسية: التعليم، والمياه، والطاقة.
ومن بين المبادرات اللافتة -كما يذكر- "مبادرة حياة" التي طورت حلولا إنسانية لتحسين ظروف النازحين، و"مسابقة القصة الملهمة" التي وثّقت حكايات الصمود والإبداع وسط الكارثة.
ويضيف شبير لـ"الجزيرة نت"، "هذه المبادرات تثبت أن الإبداع ليس ترفا في زمن الحرب، بل وسيلة للبقاء ومقاومة ناعمة تعيد للناس قدرتهم على رواية قصتهم بأدواتهم".
في النهاية، لا يمكن اختزال ما يحدث في غزة بمعادلة البقاء فقط، بل هو شكل من أشكال إعادة تعريف الحياة نفسها.
فكل مبادرة صغيرة -من توزيع الماء إلى تعليم طفل- تمثل تحديا ضد المنطق الذي أراد للغزيين أن يختفوا، فغزة، كما يراها مبادروها، ليست فقط ساحة حرب مستمرة، بل ورشة بناء للكرامة الإنسانية، ومن بين الركام، يخرج صوتها واضحا: نحن نحيا.. لأننا نُبادر.
المصدر:
الجزيرة