آخر الأخبار

باكستان بين التنين والنسر ولعبة التوازن الصعبة

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

تمر باكستان اليوم بفترة حساسة في مسارها السياسي والاقتصادي، إذ تسعى للحفاظ على تحالفها القديم مع الصين، وفي الوقت نفسه تريد تعزيز جسور التواصل مع الولايات المتحدة.

رغم أن هذا النهج ليس جديدا، إلا أنه أصبح أكثر حساسية في ظل تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين، خاصة بعد الحرب في أوكرانيا والخلافات في بحر جنوب الصين .

جذور العلاقة

العلاقة بين باكستان والصين ليست مجرد تعاون اقتصادي عابر، بل هي تحالف إستراتيجي امتد عقودا، فمنذ ستينيات القرن الماضي، شكلت بكين الظهير السياسي والعسكري الأقوى لإسلام آباد في مواجهة الهند .

يقول درك غوراس مين في تقرير منشور في موقع مؤسسة راند الأميركية، إن الصين وباكستان حافظتا عقودا على شراكة إستراتيجية شاملة، صُممت لتحَمل أي صعوبات. وقد نشأت هذه العلاقة من رغبة متبادلة في مواجهة الهند، وأخيرًا، في تقديم شريك اقتصادي ودفاعي بديل لإسلام آباد في مواجهة علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة".

وقد تعمقت هذه العلاقة أكثر في السنوات الأخيرة مع انطلاق مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، الذي يعتبر أحد أهم فروع مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.

واستثمرت الصين في هذا المشروع أكثر من 60 مليار دولار في مشاريع عملاقة للطاقة والطرق والموانئ، وعلى رأسها ميناء غوادر المطل على بحر العرب، والذي يمنح الصين منفذاً بحرياً إستراتيجياً يختصر طريقها التجاري إلى الشرق الأوسط وأفريقيا .

لهذا السبب، لا تنظر الصين إلى باكستان كشريك اقتصادي فقط، بل كركيزة جيوسياسية في مشروعها العالمي، وفي المقابل، تعتبر باكستان أن الصين هي الضامن الأهم لأمنها القومي، ليس فقط عسكرياً، بل أيضاً في المحافل الدولية مثل مجلس الأمن، حيث استخدمت بكين حق النقض ( الفيتو) دفاعا عن باكستان عام 1972.

وجاء في تقرير مؤسسة راند، أن الشراكة الصينية-الباكستانية شكّلت محورًا إستراتيجيًا متينا بُني على مواجهة النفوذ الهندي وتبادل المصالح الاقتصادية والعسكرية، غير أنّها تواجه أخيرًا تصدعات غير مسبوقة.

إعلان

فقد تصاعد التوتر بين الجانبين إثر تكرار الهجمات التي استهدفت المهندسين الصينيين العاملين في مشاريع "الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني" مما دفع بكين إلى توجيه انتقادات علنية لإسلام آباد لفشلها في حماية مواطنيها، وأدى إلى تباطؤ بعض الاستثمارات الكبرى.

وطرحت الصين في المقابل ترتيبات أمنية جديدة تشمل وجودا محدودا لعناصر أمن صينيين داخل الأراضي الباكستانية، وهو ما أثار بدوره حساسية داخلية وسياسية.

أما الخلاف الأبرز الآخر فقد تمثل في الجدل في مستقبل ميناء غوادر، حيث رفضت باكستان منح الصين وجودا عسكريًا دائمًا هناك، مقابل طلب إسلام آباد من بكين دعمًا نوويا متقدّما لردع الهند، وهو ما قوبل برفض بكين.

وكشفت هذه التطورات -وفق تقرير مؤسسة راند- عن "تراجع الثقة المتبادلة" إذ وصفت وثائق باكستانية داخلية العلاقة بأنها "باردة" ومع ذلك، لا يُتوقع أن تنهار الشراكة تماما، فالتعاون الدفاعي مستمر، وتستعد باكستان لتسلّم مقاتلات الشبح الصينية "جي-35" (J-35).

لكن استمرار الأزمة الاقتصادية والضغوط الأميركية قد يدفع إسلام آباد لإعادة توازن سياستها الخارجية، وربما الميل أكثر نحو واشنطن.

مصدر الصورة باكستان ترفض منح الصين وجودا عسكريا دائما بغوادر مقابل دعم نووي لردع الهند (الفرنسية)

العودة إلى واشنطن

بعد سنوات من الفتور في العلاقات بين واشنطن وإسلام آباد، بدأت مؤشرات انفتاح حذر تلوح في الأفق، في محاولة لإعادة بناء جسور العلاقة التاريخية بين الجانبين.

ووفقًا لتقرير حديث نشرته مجلة "إيكونوميست"، فإن زيارة قائد الجيش الباكستاني المشير عاصم منیر إلى الولايات المتحدة في شهر يونيو/حزيران الماضي تمثل تحولا لافتا في توجهات السياسة الخارجية الأميركية، بما قد ينعكس تأثيره ليس على العلاقات مع الهند فحسب، بل يمتد أيضا إلى الصين والشرق الأوسط.

ولا تزال الولايات المتحدة ترى في باكستان دولة ذات موقع إستراتيجي بالغ الأهمية، فهي تملك حدودا طويلة مع أفغانستان مما يجعلها لاعبا محوريا في أي ترتيبات أمنية تخص وسط آسيا وتقع في جوار الصين وإيران والهند ما يمنحها ثقلا جيوسياسيا مميزا.

وتأتي هذه التحركات في ظل أزمة اقتصادية خانقة تواجهها باكستان، وضغوط متزايدة من صندوق النقد الدولي. ولأن الصين لا تقدّم مساعدات مالية بلا شروط، فإن باكستان تسعى إلى كسب دعم واشنطن من أجل تخفيف الضغط المالي والحصول على قروض وتسهيلات اقتصادية.

ويشكل عرض قائد الجيش الباكستاني على الولايات المتحدة الاستثمار بمبلغ 1.2 مليار دولار في ميناء باسني تحولا في المشهد الإقليمي، إذ يفتح الباب أمام حضور أميركي محتمل في منطقة إستراتيجية على مدخل المحيط الهندي وبالقرب من ميناء غوادر، مما أثار قلق إيران الساعية لتطوير ميناء تشابهار كمركز تجاري يربط الهند بآسيا الوسطى.

يأتي هذا بعدما ألغت الولايات المتحدة الإعفاءات الممنوحة لميناء تشابهار، ما يدفعها إلى البحث عن بدائل في السواحل الباكستانية لتعزيز نفوذها والضغط على المشروع الإيراني الهندي.

ويدرك الجيش الباكستاني -باعتباره لاعبا في السياسة الخارجية- أن القطيعة مع واشنطن تُضعف مكانة باكستان العسكرية والدبلوماسية، ولذلك يحاول إعادة العلاقات إلى مستوى "المنفعة المتبادلة" دون خسارة بكين.

إعلان

سباق اقتصادي

لا يبدو هذا التقارب الجديد بين واشنطن وإسلام آباد معزولا عن السياق الاقتصادي الأوسع الذي يعيد تشكيل العلاقات الدولية في جنوب آسيا. فمع تزايد الاهتمام الأميركي بالموارد المعدنية الباكستانية، وحرص الصين على حماية استثماراتها الضخمة ضمن مشروع "الحزام والطريق" باتت باكستان في قلب صراعٍ جيوسياسي يتجاوز السياسة إلى سباقٍ اقتصادي وتقني على المعادن النادرة التي تشغّل الصناعات الحيوية في العالم المعاصر.

ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة علوم الإدارة في لاهور، سلمان رفيع شيخ، أن بلاده تشهد ملامح حرب باردة جديدة، لكن هذه المرة تدور حول المعادن النادرة التي تُعدّ عصب التكنولوجيا الحديثة. فبينما تسعى الولايات المتحدة إلى استغلال الثروات المعدنية الباكستانية وموقعها البحري الإستراتيجي، ترى الصين في ذلك محاولةً لانتزاع نفوذها المتجذر عبر مشروع ميناء غوادر ومبادرة الحزام والطريق".

ويضيف سلمان شيخ، أنه مع توقيع إسلام آباد مذكرات تفاهم لتصدير المعادن إلى شركات أميركية، سارعت بكين إلى تشديد سيطرتها على صادرات العناصر الأرضية النادرة، في خطوة تُظهر احتدام التنافس بين القوتين الكبريين على الموارد الحيوية".

وهذا يعني أن باكستان تجد نفسها مرة أخرى في قلب لعبة جيوسياسية معقدة، تحاول فيها الموازنة بين شريكيها القديمين دون أن تفقد موقعها الحيوي في جنوب آسيا.

مصدر الصورة باكستان تجد نفسها في قلب لعبة جيوسياسية معقدة تحاول فيها الموازنة بين الصين وأميركا (شترستوك)

التحوط الإستراتيجي

وتحاول باكستان حاليا، أن تعمل على موازنة ذكية في علاقاتها بالقوى الكبرى ضمن ما يعرف بـ"التحوّط الإستراتيجي" (Strategic Hedging)، فهي تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب وتقليل الخسائر إلى الحد الأدنى.

وتظل الصين شريكها الاقتصادي الأبرز، والمصدر الرئيسي لتسليحها، والحليف السياسي الأكثر ثباتا في مواجهة الهند، فقد صرحت وزارة الخارجية الصينية بأن باكستان تبقى حليفها الإستراتيجي.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية لين جيان، إن "باكستان أكدت أن تفاعلاتها مع الولايات المتحدة لن تضرّ بمصالح الصين أو تعاونها معها"، مؤكدا أن الصين وباكستان "شريكان إستراتيجيان متعاونان في جميع الظروف"، وأن صداقتهما الراسخة "صمدت أمام اختبار الزمن".

في الوقت الذي يسعى فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إعادة بناء علاقات بلاده مع باكستان، الحليف التقليدي للصين، ترى الأوساط الصينية، أن إسلام آباد تدرك جيدا حدود الإستراتيجية الأميركية الجديدة التي تهدف إلى احتواء نفوذ بكين المتنامي.

فقد جاءت زيارة قائد الجيش الباكستاني، المشير عاصم منير ، إلى الصين بعد أيام قليلة من زيارته النادرة لواشنطن ولقائه الرئيس ترامب، وهو ما أثار تساؤلات واسعة عن اتجاهات السياسة الخارجية الباكستانية المقبلة.

وبينما حرصت البيانات الرسمية على التأكيد أن العلاقات الصينية الباكستانية لا تزال "متينة وإستراتيجية"، فإن بكين تنظر بحذر إلى هذا التقارب الأميركي الباكستاني، خصوصا في ظل ما تعتبره محاولة من واشنطن لاختراق أحد أهم شركائها الإقليميين.

مصدر الصورة الولايات المتحدة ترى في باكستان دولة ذات موقع إستراتيجي مما يجعلها لاعبا محوريا في أي ترتيبات أمنية (حساب الحكومة الباكستانية على إكس)

ويرى خبراء صينيون أن باكستان لن تضحي بتحالفها التاريخي مع الصين مقابل مكاسب محدودة من الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، يقول هو شي شنغ، مدير معهد دراسات جنوب آسيا في المعاهد الصينية للعلاقات الدولية المعاصرة: "لن تُطور باكستان علاقاتها مع الولايات المتحدة على حساب علاقتها بالصين، ولن تأسرها بسهولة إستراتيجية ترامب".

كما أوضح جيسي وانغ، الباحث في مركز هواشيا للتبادل الاقتصادي والثقافي بجنوب آسيا، أن "تنازلات ترامب لباكستان تبدو مصدر إزعاج لبكين، لكنها في الواقع لا يمكن أن تمسّ الاستقرار الهيكلي للعلاقات الصينية الباكستانية، التي تشبه سبائك فولاذية صمدت أمام اختبار الزمن".

إعلان

ويرى الخبراء أن العلاقة بين الصين وباكستان تجاوزت الطابع التكتيكي لتتحوّل إلى شراكة إستراتيجية متجذرة في مجالات الأمن والاقتصاد والبنية التحتية، مما يجعل باكستان أكثر حذرا في أي تحرك لإعادة تموضعها الإقليمي.

وفي المقابل، يعكس سعي إدارة ترامب لتعزيز الروابط مع إسلام آباد عدم رضا واشنطن من بعض المواقف الهندية ومحاولة الولايات المتحدة الأميركية استخدام باكستان كورقة توازن في إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه جنوب آسيا، والسعي لكبح صعود الصين على الأمد الطويل.

ومن جهة أخرى، يدرك صانعو القرار في إسلام آباد جيدا أن الولايات المتحدة ستظل الضامن الرئيسي للنظام المالي العالمي، والممر الإلزامي لأي دعم من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، كما أن لها تأثيرا كبيرا على الأمن الإقليمي.

وتعي باكستان، أن الانحياز الكامل لأي محور سيكلفها خسارة الآخر، لذلك تسعى للحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها بين بكين وواشنطن لضمان مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية.

مصدر الصورة صانعو القرار في إسلام آباد يدركون جيدا أن الولايات المتحدة ستظل الممر الإلزامي لأي دعم من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي (الجزيرة)

تحديات ومخاطر

رغم براعة باكستان في اتباع سياسة التحوّط الإستراتيجي، إلا أن هذا النهج يواجه عدة مخاطر وتحديات. أولها حساسية صينية متزايدة، إذ تراقب بكين من كثب أي تقارب باكستاني مع واشنطن، خصوصًا في المجالات العسكرية والاستخبارية، وقد ترد بتقليص استثماراتها أو تجميد بعض المشاريع الكبرى إذا شعرت بأن إسلام آباد تُستخدم أداة لاحتوائها في المنطقة.

أما التحدي الثاني فيتمثل في الترقب الأميركي المستمر، إذ تبقي واشنطن المساعدات والدعم المالي مشروطًا بعدم تجاوز الخطوط الحمراء، وهو ما يعكس الحرص على ضمان استقرار التحالف بباكستان ضمن إطار المصالح الإستراتيجية الأميركية.

كما يشير الباحث الصيني جيسي وانغ: "تاريخيا، تطورت علاقات باكستان بالولايات المتحدة والصين توازيا دون أن تُلغي إحداها الأخرى، والقيمة الإستراتيجية لباكستان أو موقفها التفاوضي مع الولايات المتحدة يعتمد على علاقاتها الوثيقة مع الصين".

إضافة إلى ذلك، يشكل الوضع الداخلي الباكستاني تحديا مهما، إذ تجعل الأزمة السياسية والاقتصادية البلاد أكثر هشاشة أمام ضغوط الخارج، وقد يدفع ضعف الاقتصاد والانقسامات الداخلية إسلام آباد أحيانا إلى قبول تنازلات إستراتيجية أكبر مما ترغب.

ولا يهدد التقارب الباكستاني الأميركي بالضرورة عمق الشراكة مع الصين، فالعلاقات بين بكين وإسلام آباد تمتد إلى مستوى إستراتيجي أوسع من مجرد تحركات ظرفية، إلا أن هذا التقارب قد يجعل الصين أكثر حذرا ويحثها على إعادة تقييم مستوى الثقة في شريكها الباكستاني.

وعلى المدى المتوسط، ستستمر باكستان في الموازنة بين المعسكرين، مستفيدة من موقعها الجغرافي الحيوي الذي يربط بين جنوب آسيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، غير أن الحفاظ على هذا التوازن يتطلب منها استقلالية في القرار الداخلي وإصلاحا اقتصاديا عميقا، لتجنب التحول إلى ساحة نفوذ متنازع عليها.

وقد لا تمتلك باكستان القدرة على مواجهة القوى الكبرى مباشرة، لكنها تحتفظ بما يكفي من أوراق قوة تجعلها لاعبا لا يمكن تجاهله، فهي دولة نووية، ذات موقع إستراتيجي حساس، وتتمتع بجيش قوي وشعب صبور. ومع ذلك، يعتمد نجاحها في المرحلة المقبلة على قدرتها على الحفاظ على التوازن الدقيق بين التنين الصيني والنسر الأميركي.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا