لم يكن التجويع الذي يعاني منه الغزيون في هذه اللحظة من عمر الإبادة الجماعية المفروضة عليهم عرضيًّا، بل هو جزء من سياسة الإبادة؛ الهادفة إلى الإخضاع وتمهيد الطريق نحو تهجير الغزيين من أرضهم.
ففي اجتماعات الكابينت السياسي والأمني الإسرائيلي، وفي أثناء مناقشة الخطط الإسرائيلية لتطوير حرب الإبادة نحو الحسم، وتحقيق أهدافها الإستراتيجية، وبينما كانت أفكار من قبيل الاحتلال الكامل، أو ما يسمونه ممرات العبور الإنساني؛ محلّ خلاف بين المستوى السياسي والمستوى العسكري، اقترح نتنياهو تشديد الحصار على قطاع غزّة؛ مراهنًا بتاريخه المهني والسياسي، أنّ هذا وحده هو ما سوف يخضع حركة حماس.
ويبدو حديث نتنياهو في سياق مناقشة داخلية عن تشديد الحصار مثيرًا للاستغراب، فالحصار أصلًا مطبق على قطاع غزّة، مما يعني أنّ الذي كان يقصده هو المنع المطلق لوصول الطعام المحدود والمقنن أصلًا طوال شهور الحرب إلى الغزيين.
وإذن يمكن القول الآن، إن التجويع المتخذ أصلًا سلاحًا في حرب الإبادة منذ يومها الأول، يتطوّر بهذا النحو المطبق والكامل – بحيث لم يعد الغزيون يجدون حتى علف الحيوانات لطحنه وخبزه كما فعلوا في شهور سابقة من سياسة التجويع – لأجل الدفع بالإبادة نحو الحسم، على طريق استكمال أهدافها.
وعلاوة على سياسات التشريد والقتل والقصف المستمرّة، فإنّ الإبادة المسلحة في الوقت نفسه تزحف نحو التوغل في المناطق الوسطى، وتجترح ممرًا عازلًا جديدًا يعزل دير البلح عن منطقة المواصي، وذلك في الوقت الذي يناور فيه المفاوض الإسرائيلي بخرائط الانسحاب، بحيث يبقي المجال في الأحوال كلها متاحًا للتأسيس لما يسمونه مناطق العبور الإنساني، والتي هي معسكرات اعتقال نازي تمثل مفتاحًا للتهجير القسري (الذي يسمونه طوعيًّا)، وتعمل على عزل الفلسطينيين عن بعضهم على أساس الانتماء السياسي؛ لأجل الاستفراد بالعناصر التي تنتمي أو تؤيد فصائل المقاومة وعوائلهم وأسرهم، حتى ولو لم يكن لهم نشاط في الجناح العسكري لهذه الفصائل.
وفي الأثناء تستمرّ مراكز توزيع المساعدات، في إطار ما يُسمى مؤسسة غزّة الإنسانية، في تنفيذ سياسة العزل الاجتماعي للغزيين، وتغميس الطعام بالدمّ بتحويل الغزيين طالبي المساعدة إلى فرائس للقتل، بهدف خلق المزيد من الرعب والفزع وتعزيز دوافع الخروج من غزة في اللحظة المناسبة، وزيادة النقمة الاجتماعية على المقاومة.
ولا يقلّ عن ذلك أهمية في الأهداف من هذه المؤسسة توفير الغطاء الدعائي والقانوني لاستمرار الحرب والتجويع بادعاء السماح للمساعدات بالوصول من خلال هذه المؤسسة، ولا ينفصل عن هذه السياسة تسليح مليشيات محلية مرتبطة بأجندة الاحتلال، يوفر لها جيش الاحتلال الملاذات الآمنة، ويسعى بواسطتها إلى الإمعان في تفتيت المجتمع الغزي، وحصار المقاومة، وتنويع خيارات الإستراتيجية الاستعمارية الإسرائيلية إزاء قطاع غزّة.
تعمل سياسة التجويع في شرط موضوعي يتيح لها التحقق والاستمرار والتمدد والاستطالة؛ وذلك أولًا لاشتراك الولايات المتحدة في هذه السياسة بنحو معلن، من خلال مؤسسة غزة الإنسانية، والتي بدأت بإعلان من الولايات المتحدة الأميركية عن إعداد نظام جديد لتقديم المساعدات للفلسطينيين في غزة عبر شركات خاصة، وذلك في بداية مايو / أيار من هذا العام، ليقود هذه المؤسسة لاحقًا جوني مور، وهو قس أميركي من المسيحيين الإنجيليين، وقد عمل سابقًا مستشارًا إنجيليًّا في البيت الأبيض أثناء الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب.
تساهم الولايات المتحدة بذلك، وبنحو مباشر في سياسة التجويع، وهو ما يستدعي تجاوز دعايات التباين والاختلاف بين البيت الأبيض وحكومة بنيامين نتنياهو تجاه سياسات الإبادة في قطاع غزّة.
لا يبتعد الأوروبيون عن توفير الغطاء لسياسات التجويع، سواء بسبب الخطوات المتلكئة تجاه معاقبة إسرائيل، أو من خلال الدعايات التي تعطي فرصة زمانية لسياسة التجويع للمضي إلى الأمام.
فقد أعلنت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس في 10 يوليو/ تموز، عن توصل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق مع إسرائيل "لتحسين الوضع الإنساني في قطاع غزة، بما يشمل زيادة عدد شاحنات المساعدات وفتح المعابر وإعادة فتح طرق المساعدات"؛ إلا أنّ الذي حصل بعد ذلك هو الضدّ تمامًا، بتعزيز سياسات التجويع، مما أفضى إلى مجاعة غير مسبوقة تؤدّي إلى الموت المباشر.
وذلك بينما لم يكن للبيانات الغربية أيّ مفعول في تغيير السياسات الإسرائيلية، بما في ذلك البيان الأخير، الصادر 21 يوليو/ تموز؛ لـ 25 دولة من بينها بريطانيا، وأستراليا، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان، وكندا وعدد من الدول الأوروبية، الذي طالب بإنهاء الحرب على غزة.
وقال إنّ "نموذج الحكومة الإسرائيلية في إيصال المساعدات خطير، ويغذي عدم الاستقرار، ويحرم سكان غزة من الكرامة الإنسانية" وإنّ "رفض الحكومة الإسرائيلية تقديم المساعدات الإنسانية الأساسية للسكان المدنيين أمر غير مقبول".
وقد استمرت بيانات عدد من الدول الأوروبية بهذا المنحى طوال شهور الحرب، ولا يختلف من حيث المفعول إعلان بريطانيا إلى جانب كندا، وأستراليا، ونيوزيلندا والنرويج 10 يونيو/ حزيران الماضي، فرْضَ عقوبات على وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش؛ بسبب تصريحات "متطرفة وغير إنسانية" بشأن الوضع في قطاع غزة، بحسب ما جاء في بيان مشترك لوزراء خارجية هذه الدول؛ وذلك لأنّ سياسة التجويع قرار من حكومة بنيامين نتنياهو، ويشرف على تنفيذها جيش الاحتلال الإسرائيلي، مما يجعل بيانات وقرارات من هذا النوع، أقرب إلى تسجيل موقف أخلاقيّ لأغراض دعائية وسياسية تفضي في النتيجة إلى استمرار سياسة التجويع في إطار الإبادة الشاملة.
وفي السياق نفسه، ينبغي الإشارة إلى كون القضية المرفوعة إلى محكمة العدل الدولية، بخصوص اتهام إسرائيل باقتراف الإبادة، والقرارات التي صدرت عن هذه المحكمة، لم تجد أيّ صدى في الممارسة الإبادية الإسرائيلية، وهي الممارسة التي ظلت بدورها آمنة من العقوبة، مما يعني قصور النظام الدولي برمّته، بما في ذلك الجانب العدلي والقانوني منه، وهو ما يدفع اليوم ثمنه على هذا النحو الرهيب الغزيون، كما دفعه الفلسطينيون دائمًا.
أمّا الشرط الموضوعي الأهم، لنزوع الإبادة نحو انتهاج التجويع المباشر والصريح، فهو انعدام الإرادة الإقليمية، وفي المجالَين العربي والإسلامي، لمواجهة الهيمنة الإسرائيلية المطلقة، والتي تتجاوز حيّز قطاع غزّة، إلى عدوان مباشر على لبنان، وسوريا، وذلك علاوة على تعزيز سياسات تحويل الضفة الغربية إلى بيئة طاردة لسكانها.
وهو ما يعني أنّ السماح لإسرائيل بإطالة إبادتها للفلسطينيين في غزّة طوال هذا الوقت، قد جعلها تُحوِّل قطاع غزّة إلى مرتكز لإعلان نفسها عمليًّا قوّة شبه إمبراطورية في الإقليم، بيد أنّه لا الإبادة المستمرة منذ أكثر من 21 شهرًا قد دفع القوى الإقليمية، وتحديدًا الدول العربية المحيطة بفلسطين ودول الخليج وتركيا، لفعل شيء، ولا الانتقال المريع إلى التجويع الرهيب قد أظهرها في حال المسارع لفعل شيء، ولا التغول الإسرائيلي المتجاوز حدود فلسطين المحتلة نحو لبنان، وسوريا قد دفعها للتحرك على قاعدة سياسة شاملة تنظر للخطر الإسرائيلي بما يتجاوز الرؤى الضيقة والقاصرة للدول والأنظمة الإقليمية.
حين الحديث عن الدول العربية والإسلامية، فإنّه يجب التذكير بقرارات القمة العربية/ الإسلامية المشتركة في الرياض والتي دعا بيانها الختامي، 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، إلى "إدخال المساعدات إلى القطاع بشكل فوري ومستدام وكافٍ"، ثمّ القمة التي تلتها بعام في الرياض كذلك، والتي أكدت على قرارات سابقتها، وهو ما يستدعي مساءلة الدول العربية والإسلامية جميعها عن السبب الذي حال دون إنفاذها قراراتها التي أعلنت عنها بنحو مشترك في قمم جامعة لها.
هل كانت الدول العربية والإسلامية تعلن عن قرارات عاجزة عن تنفيذها؟! أم كانت بدورها تذرّ الرماد في العيون لتسجيل مواقف خطابية لا مفاعيل لها في الواقع؟!
لقد بات من نافلة القول إنّ أكثر ما يمدّ سياسة الإبادة والتجويع بأسباب الاستمرارية هو الموقف العربي السلبيّ، وهذا بقطع النظر عن أسباب سلبيته، وبقطع النظر عن كلّ ما يمكن قوله من عدم تأثر العلاقات التطبيعية واتفاقات السلام بالإبادة القائمة، وعن تشغيل الدعاية المناوئة للمقاومة الفلسطينية، وعن إغلاق المجال العامّ أمام الجماهير والشعوب العربية لفعل أيّ شيء ضاغط، أو على الأقل يؤكّد الانحياز المعنويّ للفلسطينيين الواقعة عليهم الإبادة.
يبقى والحالة هذه القول إنّ القضية ليست في توفير المساعدات، فلو فتح المجال العربي والإسلامي للتبرعات؛ لقطعت أفقر الشعوب العربية القوت عن أفواه أطفالها وأرسلته للغزيين، ولكنّ المشكلة أولًا في إدخال هذه المساعدات، وثانيًّا في العمل على وقف الإبادة، وثالثًا في توفير الظهير للمقاوم الفلسطيني الذي يعاني الحصار والخذلان والتشويه وكشف الظهر، فمهما كان الموقف من هذا المقاوم بسبب أداته النضالية أو مرجعيته الفكرية ومشروعه السياسي، فإنّ إتاحة المجال لإبادة الغزيين، تحوّلت إلى إبادة اعتبارية وسياسية للمجال العربيّ كلّه بغلوّ إسرائيل في بسط هيمنتها على هذا المجال.
إنّ الحلّ، والحالة هذه، هو حلّ عربيّ، لا سيما مع تكدس المساعدات على الجهة المصرية من الحدود مع قطاع غزّة، وذلك بفرض حلول عربية لإنفاذ القرارات المتخذة عربيَّا وإسلاميًّا، وقطعًا، فإنّ إسرائيل لن تغامر بعلاقاتها مع عدد من الدول العربية، ولن تعلن الحرب على تحالف عربيّ وإسلاميّ يعلن عن نفسه بغرض إدخال المساعدات عنوة.
كما أنّه يمكن للحكومات العربية أن تناور بشعوبها وأن تفتح مجالها العام لهذه الشعوب للتعبير عن غضبها إزاء سياسة الإبادة والتجويع، وتعاطفها مع الفلسطينيين، وهو أمر قد يفيد هذه الحكومات في توسيع هوامش حركتها وإقناع الولايات المتحدة بضرورة إنهاء حالة التجويع القائمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.