آخر الأخبار

قاطف البنجر الذي انسحب من الجنائية الدولية لأجل نتنياهو

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في أحد أيام صيف عام 1989، وقف الشاب ذو 26 عاما، بملامحه الأوروبية وشعره الطويل ولحيته القصيرة نسبيا، مرتديا بزة شبابية بقميص مفتوح وبدون ربطة عنق، أمام الميكروفون مخاطبا زهاء 250 ألف شخص احتشدوا بصورة غير تقليدية في ساحة الأبطال بالعاصمة المجرية بودابست، احتفالا بمراسم إعادة دفن رموز الثورة المجرية ضد الحكم الشيوعي، التي سحقها الجيش السوفياتي بقسوة ودموية عام 1956.

كان رئيس وزراء المجر السابق إيمري ناغي، الذي تمرد على القبضة الستالينية الحديدية للسوفيات على بلاده ودفع ثمن ذلك خسارته لمنصبه ثم لحياته نفسها بعدما أعدمه النظام المجري الموالي للسوفيات، هو البطل الرمزي الأهم لذلك اليوم.

لكن السياسي المجري الشاب نجح في خطف الكثير من الأضواء بخطابه القصير الذي لم يدم أكثر من 7 دقائق، ولكنه كان ثوريا بكل المقاييس، إذ جاء فيه: "الآن، بعد 33 عامًا على الثورة المجرية، و31 عامًا على إعدام آخر رئيس وزراء مجري مسؤول، لدينا فرصة لتحقيق كل ما تمناه ثوار 1956 وخاضوا من أجله مواجهة دامية بالوسائل السلمية".

دعا السياسي المجري المنتمي إلى حزب صغير عُرف باسم حزب "فيدس"، أو "حزب الشباب"، دعا الجماهير إلى الإيمان بأنفسهم حتى يكونوا "قادرين على إنهاء الدكتاتورية الشيوعية"، وإلى التحلي بالعزيمة والإصرار اللازمين من أجل إجبار الحزب الحاكم على الخضوع لانتخابات حرة، قائلا: "إذا تمسكنا بأفكار ثورة 1956، فيمكننا التصويت لحكومة تدخل فورًا في مفاوضات تؤدي في النهاية إلى انسحاب القوات الروسية من بلادنا".

إعلان

كان ذلك خطابا ثوريا "ليبراليا" بكل المقاييس في بلد كان لا يزال يئن تحت وطأة النفوذ السوفياتي، لكن المفارقة أن تلك الكلمات صدرت من شخص سوف يعتبره الجميع لاحقا أحد أهم خصوم الليبرالية وحامل لواء إعادة بلاده إلى زمان "دولة الحزب الواحد".

إذ حكم المجر 15 عامًا متتالية حتى الآن وفاز في 4 انتخابات متعاقبة بأغلبية ساحقة، مسيطرًا على البرلمان، ومغيرا وجه البلاد بتعديلات جذرية على دستورها، لدرجة أنه بات يُنظر إليه في أوروبا والعالم بوصفه أحد القادة الذين يدفعون العالم الغربي نحو الاستبداد والتطرف اليميني بحسب ما يصف خصومه.

والمفارقة الأكبر أنه بات متهما في نظر الكثيرين بأنه "رجل روسيا الأول في أوروبا"، روسيا وريثة عرش السوفيات نفسها التي وقف فيكتور أوربان ذاته منددا بهم يوما ما.

مؤخرًا، أسيل الكثير من الحبر حول رئيس الوزراء المجري أوربان في العالم العربي بعدما استقبل نظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عاصمة المجر بودابست، متحديًا قرار المحكمة الجنائية الدولية القاضي باعتقال نتنياهو بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها خلال حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزة . وقد تمادى أوربان في الأمر معلنًا أن بلاده ستنسحب من المحكمة نهائيا. فما هي قصة فيكتور أوربان؟ وأي دور يلعبه حاليا في المشهد العالمي؟

من ساحات الكرة إلى عوالم السياسة

يمتلك فيكتور أوربان قصة كلاسيكية لواحد من أولئك الذين برزوا من عالم الفقر والحرمان لدرجة أنه جرب الحصول على الماء الساخن بمجرد فتح الصنبور في دورة المياه لأول مرة في حياته وهو في 15 من عمره، بحسب ما حكاه بنفسه.

نشأ أوربان في كنف أسرة فقيرة ضمن قرية تقع داخل دولة أوروبية شرقية هامشية يحكمها نظام شمولي وخاضعة لنفوذ الاتحاد السوفياتي، وقد اعتاد والده الصارم أن يضربه بعنف. وكان فيكتور الصغير يضطر للعمل بجد منذ نعومة أظافره في الحقل مع إخوته حيث يفرزون البطاطس ويقطفون البنجر ويطعمون الدجاج والخنازير.

إعلان

كشأن أقرانه من الأطفال الفقراء المعدمين، كانت تسليته الوحيدة في هذا العالم هي كرة القدم، لكنه لم يرض في ملعبها بأقل من مركز المهاجم الذي يسجل الأهداف، التي ربما رأى فيها طريقة لتحقيق نصر ما في مواجهة صعوبات الحياة.

وربما كانت أقصى آمال فيكتور حينها أن يصبح مهاجمًا لفريق مشهور في الدوري المجري لكرة القدم، وربما وصل بالأحلام إلى درجة تمني أن يصبح لاعبًا دوليًا مرموقا يعيد أمجاد أسطورة الكرة المجرية فرينتس بوشكاش.

في طفولته الصعبة، ورغم تفوقه في الدراسة، كان -كما يصف نفسه- طفلًا مشاغبًا وعنيفا وغير محبوب على الإطلاق، وفي المنزل كان والده يلاحظ افتقاره إلى الانضباط، وهو السبب الرئيسي الذي كان يضربه لأجله.

غير أن حياة أوربان وأسرته بدأت تتحول تدريجيًا منذ سبعينيات القرن العشرين حين تمكن والده من الحصول على شهادة جامعية وترقى في صفوف الحزب الحاكم، وفي نفس الوقت كان أوربان يرتقي تعليميًا ويدرس القانون، ويتقن اللغة الإنجليزية.

بدأت طموحات أوربان السياسية تتبلور مع نهاية الثمانينيات في السنوات التي كانت خلالها "الكتلة الشرقية الشيوعية" حول العالم تلفظ أنفاسها الأخيرة.

وفي عام 1988 تحديدا، أسس الشاب المجري منظمة "تحالف الشباب الديمقراطيين" مع 36 زميلًا سابقًا له في الجامعة، وشرع في ممارسة العمل السياسي من خلالها. وقد حققت المنظمة نموا واتساعا جماهيريا مُثيريْن للإعجاب، وكانت بمثابة حجر الأساس لحزب "فيدس" الشهير الذي يتزعمه أوربان حاليا.

غير أن توجهات أوربان ومنظمته (حزبه لاحقا) في ذلك الوقت كانت مختلفة تمامًا عما نعرفه الآن.

وكما يشير خطابه الشهير في ساحة الأبطال، كان لدى أوربان نفسا ثوريا ليبراليا واضحا، مع عداء صارم للتوجهات الشيوعية والسوفياتية، إلى درجة أن ميوله تلك لفتت أنظار الملياردير الأميركي ذي الأصول المجرية جورج سوروس المشهور بتمويله للقضايا الليبرالية، فوظَّف أوربان بدوام جزئي في منظمة "المجتمع المفتوح" التي يملكها، قبل أن تمنحه المؤسسة منحة لدراسة دور المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الأوروبية بكلية بيمبروك في جامعة أكسفورد البريطانية، وذلك قبل أن ينقلب أوربان على سوروس لاحقا ويصبح من ألد خصومه، متهما إياه باستخدام أمواله "لتخريب العالم".

إعلان

لم يستكمل أوربان منحته، وسرعان ما عاد إلى بودابست مقررا احتراف العمل السياسي، وكانت بدايته خلال الانتخابات البرلمانية الحرة الأولى في المجر بعد عصر الشيوعية عام 1990، حيث وُضع على رأس قائمة المرشحين عن حزب "فيدس".

ورغم عدم حصول الحزب إلا على 22 مقعدًا فقط، فكان ثاني أصغر كتلة في البرلمان، فإن نوابه تميزوا بأن جميعهم من الشباب ذوي اللحى والشعر الطويل الذين يرتدون الجينز والقمصان المفتوحة، مما ساعد على زيادة إعجاب الجمهور بهم، وقد دعوا إلى سياساتٍ اقتصادية وتعليمية واجتماعية ليبرالية، وسارعوا إلى إدانة النزعات القومية لدى الأحزاب التقليدية، ما أكسبهم صوتا مميزا وفريدا في السياسة المجرية.

مصدر الصورة زعيم حزب المعارضة المجري حينها فيكتور أوربان يصل إلى مركز اقتراع خلال الانتخابات البرلمانية في بودابست في 11 أبريل/نيسان 2010. (رويترز)

الانعطاف يمينا

لم تمر فترة طويلة حتى فرض أوربان حضوره وشخصيته على حزبه قبل أن يكمل حتى عقده الثالث، ولكن في أعقاب أداء الحزب المخيب للآمال في انتخابات عام 1994 التي شهدت انتصار الاشتراكيين من الحزب الشيوعي القديم، بدأت انعطافة أوربان والحزب إلى اليمين، حيث بدا أن خيار اعتناق السياسة القومية الشعبوية يقدم الفرصة الواقعية الوحيدة للنجاح في المستقبل ضد اليسار.

وقد آتت هذه السياسة أكلها سريعا على ما يبدو في الانتخابات البرلمانية عام 1998 التي حصد خلالها حزب "فيدس" مقاعد أكثر من أي حزب آخر، و حصل على 29.48% من أصوات الناخبين، وصار أوربان، الذي أصبح الآن حليق اللحية ويرتدي ملابس رسمية، أصغر رئيس وزراء منتخب في تاريخ المجر.

عزف أوربان ورفاقه ببراعة على وتر "القومية" في المجر، مستغلين الحساسية الوطنية الشديدة الناجمة عن معاهدة تريانون (نسبة إلى قصر تريانون في فرساي بفرنسا) عام 1920، التي وقعتها المجر مع الحلفاء الغربيين بعد الحرب العالمية الأولى، وفقدت على إثرها ثلثي أراضيها التاريخية، ووجد أكثر من 3 ملايين مجري أنفسهم بسببها يعيشون في دول أجنبية، ما ولّد لدى المجريين شعورا متوارثا بالمرارة.

إعلان

وقد قاد أوربان اليميني الوسطي آنذاك بلاده لتنضم إلى حلف الناتو (عام 1999)، كما حصل على موافقة الاتحاد الأوروبي على عضوية المجر عام 2000 (وقع الانضمام رسميا عام 2004)، كما استطاعت حكومة اليميني الوسطي الشاب آنذاك أن تجري تحسينات واضحة في الاقتصاد، ورغم ذلك جاءت المفاجأة المدوية لأوربان بخسارة انتخابات عام 2002.

أورثت الخسارة الانتخابية أوربان مرارة سياسية عزم ألا يذوقها مجددا، وكان الحل من وجهة نظره للعودة وتفادي انتكاسة سياسيا جديدة هو تجرع كأس السم نفسه بالانعطاف إلى اليمين أكثر وأكثر. تزامن ذلك مع فضائح مسربة لليسار الحاكم هزت الشارع المجري، وجاءت الأزمة المالية العالمية عام 2008 وضغوط الاتحاد الأوروبي لحل العجز المالي المجري بالمزيد من التقشف لتزيد الطين بلة، ما تسبب في خروج احتجاجات واسعة النطاق في البلاد.

هذه الظروف استغلها أوربان ببراعة ليطل على الشعب اليائس بخطاب يميني جديد يمزج هذه المرة بين الميول القومية التي أظهرها سابقا وبين النزعة الدينية المسيحية المحافظة.

كان ذلك تحولا جديدا مثيرا بالنسبة إلى شخص عرّف نفسه في وقت سابق من حياته بأنه "ملحد" لا يتبع أي دين، قبل أن يسهم زواجه من سيدة كاثوليكية وصداقته مع القس الكالفيني زولتان بالوغ في تهذيب رؤاه تجاه الدين تدريجيا منذ نهاية التسعينيات.

لكن ما غيّر موقفه حقيقة هو إدراكه -من موقعه الجديد كزعيم شعبوي محافظ- لدور الدين "كورقة سياسية" مهمة يمكن أن يربح بها السياسي قطاعات واسعة من الشعب، ويكسب بها أرضية جماهيرية أوسع على حساب خصومه.

في ضوء ذلك، تبنى أوربان خطابا يتمحور حول قيم الأسرة والمحافظة الاجتماعية، مازجا بينها وبين القومية المجرية، مع وعود بتخفيض الضرائب وتحقيق الازدهار الرأسمالي وتعهدات بإصلاح سياسي جذري يُخرج الفاسدين من المعادلة السياسية المجرية نهائيًا.

إعلان

وفي عام 2010 وُلد رسميا نظام أوربان الذي نعرفه الآن، إذ استطاع العودة إلى السلطة بعد حصوله مع حلفائه اليمينيين على 57% من الأصوات، مما أهله لإعادة تشكيل البلاد سياسيًا واقتصاديًا ودستوريًا ومؤسساتيًا.

خلال فترة حكم أوربان الجديدة والممتدة حتى الآن، كان خطابه ينعطف نحو الشعبوية واليمينية رويدا رويدا، وبالتزامن مع ذلك أقر تعديلات دستورية في عام 2011 بهدف ترسيخ سلطته، لكن ذلك لم يكن كافيا أيضا، فخلال انتخابات أوائل عام 2015، فقدت حكومة أوربان أغلبيتها المطلقة، غير أن جحافل المهاجرين التي كانت تتدفق إلى القارة العجوز حينها منحت فيكتور أوربان فرصة لا تقدر بثمن، وساهمت في تشكيل الصورة النهائية لتوجهاته التي يعرفها الجميع اليوم.

مصدر الصورة دعا رئيس الوزراء المجري في 24 فبراير/شباط 2016 إلى إجراء استفتاء وطني على خطة الاتحاد الأوروبي لرفض بلاده الحصول على حصة إلزامية لإعادة توطين المهاجرين واللاجئين. (أسوشيتد برس)

استغل رئيس الوزراء المجري قضية الهجرة للتغلب على تراجع شعبيته، ففي عام 2015 وحده تلقت المجر 174 ألف طلب لجوء (ما يعادل 1770 طالب لجوء لكل 100 ألف من السكان المقيمين في الدولة)، وهي النسبة الأعلى في أي بلد أوروبي.

ومن أجل التعبير عن موقفه المناهض للهجرة، بنى أوربان سياجا على طول الحدود مع صربيا، وسياجا آخر على طول الحدود مع كرواتيا، وحصد ثمرة ذلك تأييدا قويا في استطلاعات الرأي، وشهرة كبيرة في أوساط القوميين الأوروبيين، إلى درجة أن مجلة "دير شبيغل" ذات الميول اليسارية وصفته أنه "المُنتصر السياسي الأكبر في أزمة اللاجئين".

منح الموقف المتشدد من أزمة الهجرة فيكتور أوربان صوتا سياسيا في القارة الأوروبية لا يتلاءم مع وزن المجر كبلد غير ساحلي يقل عدد سكانه عن 10 ملايين نسمة، يرغب زعيمه في تحدي موقف المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل المهيمن على القارة. وخلال تلك الفترة، لم يتوقف أوربان عن لمز ميركل وانتقاد سياساتها "المتساهلة" مع الهجرة، بحسب وصفه. وفي الداخل، استغل أوربان هذا المد المناهض للهجرة الذي ساهم بنفسه في تغذيته، لإعادة تحويل السياسة المجرية بصورة جذرية.

إعلان

أعلن أوربان بوضوح وصراحة أن الدولة التي يضع قواعدها هي دولة ديمقراطية غير ليبرالية، أو ديمقراطية مسيحية بعبارة أوضح، وأكدت التغييرات الدستورية الجديدة على التقاليد المسيحية والوطنية المجرية ما قبل الحقبة الشيوعية. ووفقا لعالمة الاجتماع المجرية إيفا فودور، فإن مفهوم "الديمقراطية المسيحية" ترسخ في لغة أوربان بشكل واضح بعد فوزه في انتخابات عام 2018 تحديدا، ليعلن منذ ذلك الحين أن حماية التقاليد المسيحية أحد الأهداف الرئيسية لحكومته.

وبحسب فودور، فقد خلق أوربان صراعًا رمزيًا بين المجريين الذين يحبون تقاليدهم وثقافتهم، وبين "شبح" التأثيرات الخارجية التي تريد تحطيم تلك التقاليد وهذه الثقافة. وآتت هذه اللغة أكلها رغم أن الشعب المجري ليس متدينًا حقا، كما تثبت الإحصاءات أن علاقته بالمسيحية كدين تتلاشى مع الزمن، وأن دور الكنيسة في المجتمع كان مهمشًا دائمًا، بحسب ما أورده تقرير لمجلة "نيو هيومانيست" البريطانية.

لكن هذا العزوف عن المسيحية كدين صاحبه هوى مسيحي ثقافي متزايد، وهو الوتر الذي لعب عليه أوربان، إذ تنامى في عهده الدور الذي تلعبه الكنيسة، وتزايدت أعداد المؤسسات التعليمية التي تديرها، وعدد الأطفال الذين يلتحقون بها. وبحسب "نيو هيومانيست"، فقد منح أوربان المنظمات المسيحية التي أظهرت الولاء له مزيدا من السلطات والمكاسب داخل الدولة.

في المقابل، حين أقر أوربان سياسة الأسرة عام 2019 والتي تشجع المجريين على الإنجاب، وتعتبر الأسرة المُشكَّلة في أساسها من ذكر وأنثى وأبناء من صلبيهما هي نواة المجتمع الأساسية وليس الفرد، وتزيل الضرائب الشخصية تمامًا عن النساء اللواتي ينجبن أكثر من 4 أولاد، كانت الكنيسة من أكبر الداعمين لسياسته ومن أكبر المروجين لها.

ويؤكد الأستاذ بجامعة ميسكولك المجرية لازلو كوتي، أن الكنائس المسيحية في المجر خضعت تمامًا لدولة أوربان، إذ بنى رئيس الوزراء علاقات متينة مع رجال الدين في الريف على وجه الخصوص، حيث تتركز حواضنه الشعبية في المناطق الريفية بينما تتقلص شعبيته بشدة في المدن الحضرية وعلى رأسها العاصمة بودابست.

إعلان

كيف حوّل أوربان المجر؟

في المجمل، كانت رحلة أوربان لإعادة تشكيل المشهد الاجتماعي والسياسي في المجر إحدى أكثر التجارب نجاحًا في إعادة تشكيل وجهة دولة ما بعد الفوز في الانتخابات، بغض النظر عن طبيعة هذا التغيير، إذ اتبع أوربان سلسلة إجراءات متتابعة تحميه من تكرار ما حصل له في فترة ولايته الأولى، حين أيقن أن بقاءه في السلطة مرتبط بامتلاك سيطرة صارمة على مفاصل المجتمع والدولة، مقررا منذ ذلك الحين تحويل المجر إلى دولة الحزب الواحد والرجل الواحد.

منذ عودته إلى السلطة عام 2010، انتبه أوربان إلى خطورة وسائل الإعلام، ومن ثم سعى تدريجيًا للسيطرة على المشهد الإعلامي في البلاد حتى لا يتمكن خصومه من استخدام وسائل الإعلام ضده، وحتى يمتلك مفاتيح تعبئة الشعب وحشده بين يديه بصورة دائمة، ومن ثم انطلق أنصار أوربان وأتباعه يسيطرون على وسائل الإعلام في البلاد، ويغيّرون المستثمرين الأجانب بآخرين محليين مقربين، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، كما أنشأ هيئة تنظيمية للإعلام تراقبه وعيّن فيها أتباعه.

مصدر الصورة Hرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان يخاطب الحاضرين في جامعة توسفانيوس الصيفية في رومانيا، 27 يوليو/تموز 2024.(الفرنسية)

بالتزامن مع ذلك، سن البرلمان بين عامي 2010 و2012 زهاء 365 قانونًا جديدًا، بحسب "المركز الأوروبي لدراسات الشعبوية". هذه التغييرات القانونية العميقة مكنت أوربان من إعادة تشكيل البلاد معتمدًا على أغلبيته البرلمانية، ولم تكن البلاد قد شهدت تغييرات قانونية على هذا المستوى من الكثافة والعمق حتى في فترة انتقالها من الحقبة الشيوعية إلى حقبة ما بعد الحرب الباردة.

شملت قائمة التغييرات الكثيرة إلغاء مجلس القضاء الوطني الذي يشرف على السلطة القضائية في المجر، وتقليص سلطة المحكمة الدستورية وإلغاء سلطتها الخاصة بمراجعة الميزانية، في حين بات قضاتها يعيَّنون عبر الاختيار البرلماني بأغلبية الثلثين، مع إلغاء سن التقاعد الخاص بالقضاة المعينين وتمديد ولايتهم من 11 عاما إلى 15 عامًا. وهكذا استطاع أوربان أن يجعل غالبية القضاة في المحكمة الدستورية موالين له، هذا فضلًا عن تمرير حزبه تعديلات قانونية أدت إلى إقالة 274 قاضيا.

إعلان

وعلى جانب آخر، وزع أوربان المناصب الإدارية والحكومية الهامة، مثل مناصب رئيس الدولة وديوان المحاسبة والمناصب العليا في المؤسسات الثقافية والجامعات الحكومية، على أتباعه والموالين لحزبه، بعدما كانت أغلب تلك المناصب تكنوقراطية الطابع قبله.

أثارت التغييرات الجذرية التي أجراها أوربان في المجر موجة كبيرة من الاحتجاجات من الهيئات الإدارية الأوروبية ووسائل الإعلام الغربية طوال السنوات الماضية، إذ رأوا أن أوربان يحول المجر إلى "دولة دكتاتورية" مجددا، لكن تجربته الناجحة في إخضاع جهاز الدولة له، نُظر إليها من قبل يمينيين كثيرين في العالم بوصفها تجربة استثنائية ينبغي استنساخها.

وليس غريبًا في هذا الصدد أن الكثيرين من حلفاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأعضاء إدارته يرون في تجربة أوربان مثالا يُحتذى "لتدمير الدولة العميقة في الولايات المتحدة"، وقد صرح رئيس مؤسسة التراث اليمينية الأميركية بأن تجربة أوربان "ينبغي أن يتعلم منها الأميركيون والبريطانيون والإسبان والجميع".

لقد نجح أوربان في غايته الصعبة أيما نجاح، إلى درجة أن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية وصف حكمه بأنه "التجربة الأكثر نجاحًا في أوروبا فيما يتعلق بتفكيك دعائم الليبرالية".

وبحسب دراسة حول استراتيجية أوربان الخارجية، أعدها برنامج دراسات "الليبرالية" التابع لجامعة جورج واشنطن الأميركية، فإن أحد أهداف أوربان الأساسية هو الموازنة في علاقاته بين الشرق والغرب، فهو يتوجه إلى روسيا والصين وفي نفس الوقت يحتاج إلى الحفاظ على علاقاته مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

ويرتكز خطاب أوربان حول السياسة الخارجية على فكرة أن الغرب سيخسر المنافسة مع الشرق، ومن ثم لن يكون من الحكمة أن تقتصر علاقات المجر الوثيقة على الغرب فقط، بل إن أوربان -وبحسب نفس الدراسة- كان قد صرح بأن الصين ستسيطر قريبًا على العالم لمئات السنين. ووفق مجلة "بوليتيكو" الأميركية فإن السياسي المجري يأمل من خلال تعميق علاقاته مع الصين وروسيا أن يكون للمجر دور أكبر في صياغة السياسة العالمية.

إعلان

وعلى الجانب الآخر، وبحسب الورقة البحثية المشار إليها، يحاول أوربان أن يوازن تلك السياسة المتطلعة إلى خارج المحيط الغربي مع مساعيه لتحويل بلاده إلى دولة محورية في أوروبا، حيث أمل دائمًا في بناء تحالفات مع دول من أوروبا الشرقية يستطيع من خلالها أن يواجه ضغوط القوى المهيمنة الليبرالية في الغرب، ومن ثم فهو يسعى دائمًا لتوسيع عضوية الاتحاد الأوروبي لتشمل حلفاء جددا محتملين، ويحاول أن يدعم أي نظام ذي ميول غير ليبرالية في أوروبا حتى تتوسع تلك الأنظمة في القارة وتشكل تكتلا وازنا، وهو نفس الأمر الذي يقوم به على الصعيد العالمي، وهو ما يفسر اهتمامه الكبير بترسيخ العلاقات مع الحزب الجمهوري الأميركي وحركة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى".

نجح أوربان حتى الآن وطوال تلك السنوات في ممارسة لعبة الرقص على الحبال السياسية بين الشرق والغرب بنجاح يُحسد عليه، في الوقت الذي يعزز فيه نظامًا غير ليبرالي في بلاده، دون أن يدخل في صدام فعلي مع الأوروبيين. لكن مؤخرًا، بدأت أجراس الإنذار تدق منذرة بأن تحولات أكثر حدة قد تحدث في القارة العجوز ضد أوربان ونظامه.

وبحسب صحيفة "بوليتيكو" الأميركية فإن المحافظين في ألمانيا بقيادة المستشار المرتقب فريدريش ميرتس وشركاءهم المحتملين في السلطة من يسار الوسط؛ قد اتفقوا على مطالبة الاتحاد الأوروبي بحجب أمواله وتعليق حقوق التصويت عن الدول الأعضاء التي تنتهك سيادة القانون في بلادها (في إشارة واضح إلى المجر).

بل إن السلطة الألمانية الجديدة -بحسب الصحيفة- ستسعى للدعوة داخل الاتحاد إلى توسيع نطاق تصويت "الأغلبية المؤهلة" (التي تعني 55% من الدول الأعضاء) لتشمل مساحة فرض العقوبات، وذلك لمنع أوربان من استخدام حق النقض الذي لطالما برع في استخدامه لحماية نظامه.

وبحسب ترجيحات سياسية وإعلامية، فإن الاتجاه المناهض لنظام أوربان داخل الاتحاد الأوروبي بدأ يأخذ في الأسابيع الأخيرة شكلًا أكثر حدة، وذلك بفضل انضمام ألمانيا بثقلها إلى المجموعة الساخطة على أوربان والراغبة في اتخاذ تدابير أكثر صرامة معه، بعد سنوات من التساهل النسبي.

إعلان

وبحسب صحف أوروبية فإن زيارة نتنياهو لأوربان ساهمت في مضاعفة حجم السخط ضد رئيس الوزراء المجري في بعض دول القارة بسبب انتهاكه الصارخ للقانون الدولي، وهو ما ينذر بحقبة جديدة غير واضحة المعالم في المناورات السياسية بين فيكتور أوربان والقوى الأوروبية.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا