آخر الأخبار

رحلة التشظي ومأساة الشرق الأوسط في “البحر الأسود المتوسط”

شارك

بعيدا عن الجماليات بمفاهيمها الكلاسيكية المرتبطة بالفصاحة والبلاغة وضروب البيان، والحداثية المرتبطة بمفاهيم فلسفة الفن في المتعة واللذة بتذوق النصوص، يأخذنا الروائي الأردني هزاع البراري في روايته الجديدة "البحر الأسود المتوسط" في رحلة نطوف فيها شواطئ البحر المتوسط مع شخصياته في الرواية.

رحلة ليست للاستجمام والمتعة، بل لنعيش صولات وجولات الحاضر وما استجد فيه من تحولات في العلاقات بين سكان مدن المتوسط، لا سيما في شرقه وجنوبه، بفعل الحروب والكوارث، وكيف أنتجت مجتمعات تائهة هائمة، مليئة بالتشظي، تعكس الواقع الراهن للمنطقة العربية، خاصة بعد أحداث "الربيع العربي" والزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا .

وترصد الرواية التأثيرات العميقة للأزمات والتحولات الجذرية على الإنسان في المنطقة، حيث تتجول الشخصيات في حوض البحر الأبيض المتوسط وتواجه نتائج هذه التحولات من حروب وتشرذم، وتركز على التشظي الذي يعيشه أبناء المنطقة. فتلك الحروب والكوارث التي لم تتوقف تركت شروخا عميقة، وفقدانا ينهش الإنسان من الداخل.

لكن البراري لم يترك القارئ غارقا في السوداوية، بل راح يقدم حلولا مع شخوصه، من خلال استحضار التاريخ عبر الذاكرة، بوصفها منجاة وتطهيرا من حريق العالم، وأن التذكر هو سبيل للتعافي، ووحدة المصير الإنساني.

البراري في "بحره الأسود المتوسط"، وفي رحلته مع الشخصية الرئيسية في الرواية، الصحفي كريم، الذي يمثل محور التقاء السرديات، يطرح سرديات متشابكة ومعقدة، فهو الباحث عن الحقيقة الإنسانية المشوهة، في رحلة مليئة بالانكسارات الفردية والمجتمعية، وحالة التشظي اللامتناهية.

ويقدم نماذج واقعية من شخصيات تعكس واقع القهر والمعاناة، وعبر رسم "صورة فوتوغرافية" للحظة زمنية تعكس حالة شعورية إزاء الأحداث الأليمة، وبأسلوب واقعي ابتعد فيه البراري عن الميثولوجيا وأسطرة السرد. تعالق في الرواية التاريخ مع الحاضر، من خلال ذاكرة فردية وجمعية، تم خلالها طرح الأسئلة الكبرى حول "الأنا والآخر"، وصراع الهويات، والإرهاب، والليبرالية، والقوميات، عبر استدعاءات للتاريخ من خلال عدد من الشخصيات في مفاصل مهمة من تاريخ المنطقة، مثل نكبة 1948، ونكسة 1967 ، والحرب اللبنانية.

إعلان

هذا التشابك بين الماضي والحاضر يظهر أن التحولات الكبرى التي تعيشها المنطقة هي نتيجة لتراكمات تاريخية طويلة، وأن ما نشهده من انقسامات طائفية ومذهبية وسياسية، أنتجه "ربيع عربي" تحول إلى خريف لا تعقبه فصول، وألقى بظلاله السوداء على المنطقة بأسرها، جاعلا البحر الأبيض يتحول إلى أسود، بعناوين الموت الدائم.

مصدر الصورة هزاع البراري في روايته "البحر الأسود المتوسط" يعيد تعريف الهوية من خلال سرديات تمزج بين الحاضر والماضي (مواقع التواصل)

معايير السرد ونقد الخطاب

خلافا لما استقرت عليه الدراسات النقدية للسرد، فيما يشبه معايير "كلاسيكية" توافق عليها النقاد، تركز على الحكاية، والشخوص، وفضاءات الزمان والمكان، والسياق، ومستويات التلقي… إلخ، فإن التحليل النقدي للخطاب، الذي ولد من تلاقح مضامين ما قدمته النظرية النقدية، ونظام الخطاب عند ميشيل فوكو، ومقاربات ما بعد الحداثة ومنظومتها، بما فيها "السرديات الكبرى" كما طرحها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "جان فرانسوا ليوتار"، فإن هذا التحليل يركز على مساءلة النصوص والخطابات، وفضح المسكوت عنه فيها، وتعرية السائد، منطلقا من علاقة اللغة بالمجتمع، والسياقين المصغر والموسع لنطاقات الخطابات.

ويروم هذا التحليل الكشف عن مفاهيم الزمن (الماضي، الحاضر، والمستقبل)، ويقدم مقاربات جديدة لا تستثني المعايير الكلاسيكية في تطبيقاته، بل تعد إحدى مرجعياته فيما يعرف بالبنية "اللسانية"، التي تشمل كيفيات استخدام المستويات اللسانية، اللغوية، والبلاغية، بوصفها معيارا في الكشف عن ثلاثية: السلطة، الأيديولوجيا، والتاريخ.

هذه الثلاثية، التي يروم هذا النقد الكشف عنها، تتحول معها "الجماليات" النقدية، بمستوياتها المتعددة، في مقارباته، إلى معيار كاشف عن السلطة والتاريخ والأيديولوجيا.

ورغم تعدد المقاربات الإجرائية في التحليل النقدي للخطاب، وعلى أهميتها، مثل: نورمان فيركلوف، تون فان دايك، روث ووداك، وثيو فان ليوين، فإنها تلتقي فيما بينها على تحليل الخطابات عبر 3 مراحل رئيسة: وهي: الوصف والتفسير والشرح، واستقرت الأدبيات على وصفها بـ"الممارسات".


* الممارسة النصية: تركز على كشف العلاقة بين المفردات والتراكيب، ومستويات الدلالة وتحولاتها، ومقاربات السبك والاتساق والانسجام، والمستويات البلاغية، بمرجعية الكشف عن آثارها وتفاعلاتها الاجتماعية، وليس بمرجعيات جمالية بحتة.
* الممارسة الخطابية: وتركز على الخلفية المعرفية للمشاركين في إنتاج النص، بما فيه من فرضيات، للكشف عن العلاقة الجدلية بين اللغة والمجتمع، بهدف كشف التقاطعات بين المشاركين في إنتاج النص، بمرجعية السياق، وصولا إلى الكشف عن الأيديولوجيات والأفكار الكامنة فيه.
* الممارسة الاجتماعية: تركز على ما بعد سيرورات المعنى، ودورها في ممارسة السلطة بمعناها الشمولي، ودورها في الهيمنة وإنتاج الخطاب السائد، وتثبيت بنى القوة في المجتمع. مصدر الصورة الرواية تطرح تساؤلات حول المصير الإنساني في سياق الحروب والكوارث (رويترز)

حواريات الرواية

وبمرجعية دراسة الخطاب الروائي لهزاع البراري في "البحر الأسود المتوسط"، استنادا إلى الثلاثية التي أشرنا إليها سابقا (النصية، الخطابية، والاجتماعية)، نلحظ أن الممارسة النصية بكل مستوياتها ومفاصلها عبرت، من خلال التراكيب اللغوية، عن السردية الكبرى لخطاب الرواية: "التشظي والتشتت".

إعلان

فالحواريات في الرواية تنضح بسيل جارف من اليأس والحيرة، مع أضواء أمل خافتة في آخر نفق يبدو بلا نهاية. ولعل ما بعد سيميائية العنوان، الذي استعاض فيه عن "الأبيض" بـ"الأسود"، وولوجا في الخطاب الموازي كما قدمه الناقد الأدبي الفرنسي "جيرار جنيت"، يدرك القارئ أنه أمام حزن وتعاسة ربما كانا فرحا فيما مضى.

وتبدو اللغة الواقعية التي يعتمدها البراري أداة فاعلة في التعبير عن المعنى وإيصاله لمستويات التلقي، في حين جاء غياب تقنيات الانسجام، والاتساق، والتدرج منسجما مع بنية الخطاب الذي يركز على التشظي. فالرحلة وشخوص الرواية مشتتون بين الحاضر والاسترجاعات الزمنية والمكانية في حفريات الذاكرة، وهو ما يفسر كثافة استخدام الأفعال الماضية والمضارعة، بينما كان الحديث عن المستقبل بالأفعال قليل الحضور.

أما في الممارسة الخطابية، فبالإضافة إلى مركزية خطاب البراري حول حالة التشظي التي يعيشها إنسان شرق المتوسط وسعيه الدائم نحو الاستقرار، فإن هذا الخطاب يرتكز على بناء إستراتيجية تضامنية وتوجيهية غير مباشرة، تروم جذب المتلقي ليكون شريكا في التفكير بالواقع والمستقبل.

وهو ما يعد أحد معايير التحليل النقدي للخطاب، حسب مقاربات "فان دايك"، في الكشف عن تشاركية المتلقي بمرجعية افتراضاته المسبقة وحدود معارفه.

وبالتزامن، كانت ملامح السياق، بمستوييه الكبير والصغير، حاضرة عبر استرجاع السرديات الكبرى التي حكمت ثقافة "الشرق الجريح"، والسياقات المصغرة في اللحظة الراهنة. وهذه السياقات في اتصال دائم وارتباط وثيق مع السرديات الكبرى، تعيش معها، وتترجم داخل النص عبر ثنائيات ضدية واستفهامات إنكارية، تشكل مرجعيات في التكوين النفسي والاجتماعي للشخصيات داخل الرواية.

مصدر الصورة البراري تمكن عبر روايته من رصد الانكسارات والتشوهات التي أصابت إنسان المنطقة في حوض البحر الأبيض المتوسط (غيتي)

وفي الممارسة الاجتماعية، فإن الخطاب الروائي عند البراري في البحر الأسود المتوسط يستبطن آثار "الهيمنة والسلطة"، تلك السلطة التي تتوزع بين سلطة المجتمع، والدين، والتاريخ، والتي جعلت المشاركين في إنتاج هذا الخطاب أسرى في سجن كبير، عبرت عنه شعرية المكان في دول شرق المتوسط وجنوبه، كما تجلت في حكايات شخوص الرواية وقصصهم، بين الحاضر والماضي، وتساؤلات مفتوحة.

وقد أوصل هذا الخطاب رسالة مفادها أن الخلاصات الفردية، رغم ما قد تحققه من نجاحات مؤقتة، إلا أنها غير مضمونة بالاستمرارية والديمومة في ظل هذا التشظي. بينما قد تمثل الخلاصات الجماعية حلا ناجعا، رغم ما يحتاجه ذلك من جهود جبارة، تقطع بالفؤوس جذور شجرة السرديات الكبرى الوارفة.

ولأن كل خطاب لا بد له من سابق يبنى عليه ويستكمله برؤى متناقضة أو متوافقة، فإن البحر الأسود المتوسط يتفاعل، بشكل أو بآخر، في تناص مع رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح.

ورغم اختلاف التفاصيل، فإن الطيب صالح ركز على صراع الهوية والصدام بين الشرق والغرب، وتداعيات الاستعمار على الفرد والمجتمع، فيما رصد البراري الانكسارات والتشوهات التي أصابت إنسان المنطقة في حوض البحر الأبيض المتوسط، متتبعا مصائر شخصيات تعاني من الخراب والواقع المتراكم منذ عقود.

وفي حين تأسست الهجرة إلى الشمال على ثنائية الهجرة والعودة وتأثير الغربة على الشخصية، فإن البحر الأسود المتوسط ركز على التنقل الدائم وعدم الاستقرار.

وفي الخلاصة، فإن البحر الأسود المتوسط لا يمكن قراءتها نقديا بمرجعية المعايير الموضوعية والتقليدية فنيا وجماليا في البناء السردي فقط. فعلى أهمية تلك المعايير، إلا أن البراري يقودنا معه إلى تفكيك سرديات نعيشها نحن في مستويات التلقي؛ سرديات عناوينها ثقل التاريخ وضغوطه، والبحث عن الهوية، وأسئلة الشرق والغرب: "نحن وهم". وهي تفتح أفقا للولوج إلى عالم الحاضر، عبر مشاريع خلاص فردية وجماعية.

كما تقول إحدى إشارات الرواية:

"عليك أن تستدل على الباب، فكثير من الأبواب يفتح على غرف أخرى؛ الباب الحقيقي هو المفتوح على الطريق".

لكن، وبعد سرد طويل، يعيدنا البراري حيث ابتدأت الرحلة، في قفلة الرواية التي تلخص المأساة:

"الحرب أن يأتي الموت من الغرب إلى الشرق، فتهرب من الشرق إلى الغرب. الحرب وحدها من يغير لون البحر. الحرب كل ذلك وأكثر".

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار