عندما نسمع كلمة يتيم فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو المعنى الأصلي والعام للكلمة، ففاقد الأب يتيم الأب، وفاقد الأم يتيم الأم، وفاقدهما كذلك يتيم، وتجمع الكلمة على يتامى وأيتام. ويقيد معنى الفقد في اليتم بالفتح والضم لغة وفقها بمرحلة الطفولة أي بالمرحلة العمرية التي تسبق البلوغ، فمن يفقد أباه قبل عمر البلوغ وسن التكليف يعد يتيما، وما بعد ذلك فإنه بالغ راشد، كما يقيد المعنى بفقد الأب لدى الإنسان، ومن فقد أمه فهو منقطع، ويقيد المعنى بفقد الأم وموتها والانقطاع عنها في عالم الحيوان.
وقد فصل ابن بري في تحديد استعمال كلمة اليتيم فقال: "اليتيم الذي يموت أبوه، والعجِي الذي تموت أمه، واللطيم الذي يموت أبواه".
ويقال إذا كان المرء في حاجة إلى شيء فهو في يتم إليه. واليتم بفتح الياء وتسكين التاء هو الهم والغم. وإذا كان في سير المرء ومشيته فتور وضعف وإبطاء يقال: في سيره يتم. وكل المعاني على اختلاف تحريك الحروف تلتقي في بعد واحد يدور في فلك الفقد والشعور بالحاجة والضيق، وقد قال أبو عمرو: "اليتم هو الإِبطاء، ومنه أخذ اليتيم لأن البر يبطئ عنه"، ومثله قال المفضل: "أصل اليتم الغفلة، وسمي اليتيم يتيما لأنه يتغافل عن بره". وذهب أبو عبيدة إلى أن كل امرأة تبقى يتيمة ما لم تتزوج، فإذا تزوجت زال وصف اليتم عنها وارتفع؛ وكان المفضل ينشد:
أَفاطِمَ إِني هالكٌ فتثَبَّتي
ولا تَجْزَعي، كلُّ النساء يَتيمُ
وقد استعمل اللفظ في وصف بعض الأبيات الشعرية، إذ يُقال: هذا بيت يتيم؛ للدلالة على أنه مفرد مميز لا شبيه ولا نظير له، أو للدلالة على أن صاحبه لم ينشد سواه. ويقال مثل ذلك في وصف فرادة المرء وللدلالة على تميزه، كقولهم: فلان يتيم عصره أو دهره أو زمانه، فكل يتيم فرد منفرد عزّ نظيره بصفاته ومزاياه. ومنه سمى أبو منصور الثعالبي أحد كتبه وأشهرها "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر". كما وصفوا الحرب الضّروس بالميتمة المأيمة؛ لأنها تتسبب بموت الرجال فيتركون من ورائهم أيتاما وأيامى.
ورد لفظ اليتيم بمعنى الفاقد والده قبل بلوغ الحُلُم في القرآن الكريم في 5 مواضع، وكلها تحث على الإحسان إليه، وتنهى عن ظلمه وأكل حقوقه؛ كقوله تعالى في سورة الأنعام/ 152: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾. وقوله في سورة الضحى/ 9: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾.
وقد أُثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضه على رعاية الأيتام والإحسان إليهم، فوراء ذلك أجر عظيم، حتى جعل ذلك سببا من أسباب دخول الجنة، إذ جاء في صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وكافل اليتيم هكذا"، وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما شيئا.
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال فيما نُسِب إليه من الشعر:
ليس اليتيم الذي قد مات والده
إِنَّ اليَتيمَ يَتيمُ العِلْمِ والأَدَب
فاليتيم حقا -برأيه- ليس من فقد أبا يعيله أو أما تحنو عليه، بل كل من فقد علما يهذب نفسه وأدبا يرفع قدره.
وللشعراء العرب تفانين مختلفة في استعمال الألفاظ وابتكار المعاني وإعارتها وتضمينها والانزياح بها مجازا يفاجئ القارئ، ويثير دهشته من جمال اللغة ومرونتها وقدرتها على التحليق في سماء من معان لا تنضب. لا بد أنك -عزيزي القارئ- واجهت كثيرا من معاني اللغة التي صدمك استعمالها في سياقات مختلفة عن المعتاد.
ذهب كثير من الشعراء إلى استعمال لفظ اليتيم بمعنى الفاقد لعزيز عليه، كما استعملوه للدلالة على الوحدة والبعد عن الأحباب كحال المغترب عن وطنه، والمشتاق إلى محبوبته والمحروم المبعد عن صديقه أو خليله، وكذلك المفتقد للتربية والرعاية والأخلاق والقيم وإن كان أبواه على قيد الحياة!
وبذا انتقل اللفظ بين سياقات متعددة تجتمع كلها وتنطوي تحت الجذر اللغوي نفسه، وترسم معالم تطوره وانزياحه من مجال إلى آخر انتقالا بلاغيا فنيا يزيد من شعرية المعنى وجماله. ونلحظ أن بعضها يعتمد على المعنى الحسي المادي للفقد، وبعضها الآخر يتكئ على الفقد المعنوي، فالحسي إيجابي غالبا في سياقه ويستجلب الشعور بالحزن والتعاطف، والمعنوي إذا ما تعلق بفقد الأخلاق والتربية يغلب عليه أن يكون سلبيا في سياقه.
من حضور لفظ اليتيم في العصر الجاهلي ما جاء على لسان الشاعر المهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليبا، الملك الذي كان يحسن للناس من حوله، وبقي الأيتام من بعده بدون معيل أو معين يكلؤهم، فيقول:
لَهفي عَلَيكَ إِذا اليَتيمُ تَخاذَلَت
عَنهُ الأَقارِبُ أَيَّما خِذلانِ
وفي المعنى نفسه رثت الخنساء أخاها صخرا، ورقّت لحال من كان يحسن إليهم من الأيتام والأيامى، فقالت:
يا عَينِ ما لَكِ لا تَبكينَ تَسكابا
إِذ رابَ دَهرٌ وَكانَ الدَهرُ رَيّابا
فَاِبكي أَخاكِ لِأَيتامٍ وَأَرمَلَةٍ
وَاِبكي أَخاكِ إِذا جاوَرتِ أَجنابا
وفي العصر الأموي نجد مجنون لبنى قيس بن ذريح يصف نفسه باليتيم بعد فقده محبوبته وزوجه لبنى التي اضطر إلى تطليقها كرها بأمر من أبيه، وبقي بعدها وحيدا حزينا يتيم القلب عليل الفؤاد، وراح يشكو أمره وحزنه وما حل به من ألم الفراق لله تعالى، فيقول:
إلى اللهِ أشكو فَقدَ لُبنَى كما شَكَا
إلى اللهِ فَقْدَ الوَالدَين يَتِيمُ
يَتِيمٌ جَفَاهُ الأقربُونَ فجسمُهُ
نَحِيلٌ وَعَهْدُ الوَالِدَيْنِ قديمُ
وفي شعر جرير في مدحه للخليفة عمر بن عبد العزيز تحدث عن إحسانه لليتامى، ومدح فعاله معهم وعطفه عليهم فقال:
كَم بِالمَواسِمِ من شَعثاءَ أَرمَلَةٍ
ومِن يَتيمٍ ضَعيفِ الصَوتِ وَالنَظَرِ
يَدعوكَ دَعوَةَ مَلهوفٍ كَأَنَّ بِهِ
خَبلا مِنَ الجِنِّ أو مَسَّا مِنَ البَشَرِ
مِمَّن يَعُدُّكَ تَكفي فَقدَ والِدِهِ
كَالفَرخِ في العُشِّ لَم يَدرُج ولم يَطِرِ
كما جاء لفظ اليتيم في شعر أحمد شوقي في قصيدة البردة صفة من صفات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهي صفة ملازمة واقعة على وجه الحقيقة، فقد ولد عليه الصلاة والسلام يتيم الأب، وفقد أمه وهو في سن صغيرة، وقد قال أحمد شوقي قاصدا هذه الجزئية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم النبين والرسل، في قصيدة البردة المعروفة في العصر الحديث بالشطر الأول من مطلعها "ولد الهدى فالكائنات ضياء":
نِعمَ اليَتيمُ بَدَت مَخايِلُ فَضلِهِ
وَاليُتمُ رِزقٌ بَعضُهُ وَذَكاءُ
وفي رحاب الشعر العربي الحديث نجد للفظ اليتيم حضورا واسعا، فها هو الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي يسطر قصيدة كاملة بعنوان (شكوى اليتيم)، ويقول فيها:
فسرت وناديت: يا أم هيّا إليّ!
فقد أضجرتني الحياة
ولما ندبت ولم ينفع
وناديت أمي ولم تسمع
رجعت بحزني إلى وحدتي
ورددت نوحي على مسمعي
وعانقت في وحدتي لوعتي
وقلت لنفسي: ألا فاسكتي!
وكذلك الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي خطّ قصيدة عن اليتم وسماها (اليتيم)، تحدث فيها عن قسوة الحياة ونظرة المجتمع ومعاملته الناس للأيتام، وبيّن فيها كيف يمكن أن يتحول اليتم إلى قوى متفجرة في نفس الإنسان، تحرر مواهبه وتدفعه نحو إثبات ذاته وتحقيق ما لا يُتوقع منه، ويحدثنا فيها عن إيمانه المطلق برعاية الخالق ومعيّته لكل من ابتُلي باليتم، ويؤكد أهمية دور المجتمع والناس في رعاية الأيتام والحرص عليهم:
اليتيم الذي يلوح زريّا
ليس شيئا لو تعلمون زريّا
إنّه غرسة ستطلع يوما
ثمرا طيّبا وزهرا جنيّا
ربّما كان أودع الله فيه
فيلسوفا، أو شاعرا، أو نبيّا
لم يكن كلّ عبقريّ يتيما
إنّما كان اليتيم صبيّا
ليس يدري لكنّه سوف يدري
أنّ ربّ الأيتام ما زال حيّا
إن يك الموت قد مضى بأبيه
ما مضى بالشّعور فيك وفيّا
وعن اليتم بسبب فقد الأب، وما يخلفه من شعور بالنقص وبحث عن إحساس مفقود طوال العمر، وكأن الروح في مأتم دائما؛ يقول الشاعر محمد حسن علوان:
أنا يا أبي مذ أن فقدتك
لم أزل أحيا على مرّ الزمان بمأتمِ
تجتاحني تلك الرياح
تطيح بي في مهمة قفر ودرب أقتَمِ
ويذهب الشاعر أحمد شوقي في فلسفة اليتم مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ يرى أن اليتيم الحقيقي هو من فقد اهتمام الأبوين وحرصهما على تربيته وتهذيبه، فتركاه يتيم العلم والأدب وانشغلا عنه فاكتسب صفة اليتيم على الرغم من وجود أبويه معه؛ يقول:
ليس اليتيمُ مَنِ انتهى أَبواهُ مِن
هَمِّ الحياة وَخَلَّفاهُ ذَليلا
فَأَصابَ بالدُنيا الحكيمَة منهما
وبِحُسنِ تربيَة الزمانِ بَديلا
إِنَّ اليَتيمَ هو الَّذي تَلقى لَه
أُمّاً تَخَلَّت أو أَبا مشغولا
أما شعور اليتم بسبب فقد الوطن فلا قياس يطوله، ولا ميزان يحمله، ويبقى في الروح جرحا عصيا على المداواة والتعافي، ويبقى سؤال اللقاء معلقا والشوق إليه نابضا بالجرح ما امتد الزمان، وقد عبر الشاعر العراقي أحمد مطر عن هذا الشعور تعبيرا قويا في قصيدته التي سماها (يسقط الوطن)، فقال:
أبي الوطن
أمي الوطن
أنت يتيم أبشع اليتم إذن
لا أمك احتوتك بالحضن
ولا أبوك حن!
وفي الأيام الحاضرة تطرق أسماعنا عبارة (أيتام الأسد) تعبيرا عن مؤيديه الذين فقدوا بسقوطه مزاياهم في التطاول على الخلق والعباد وسحقهم بقوة السلطة ودعمها! ويعد ذلك مجازا لغويا جديد الاستعمال دقيق الإفادة عظيم الوصف والتعبير.