غزة- تعيش المريضة السبعينية جميلة ضاهر على الماء والملح منذ 3 أيام لتفادي إحساسها الدائم بالدوار والغثيان وعدم الاتزان، نتيجة سياسة التجويع الإسرائيلية الحادة التي تفتك بالفلسطينيين على امتداد قطاع غزة .
وهذه الطريقة التي لجأت إليها ضاهر (76 عاما) أحد بدائل شحيحة وجد أهالي القطاع أنفسهم مضطرين إليها حاليا في أشد مراحل التجويع الناجم عن حصار إسرائيلي خانق، وإغلاق المعابر ومنع إدخال المساعدات الإنسانية منذ الثاني من مارس/آذار الماضي.
وأمام خيمة تقيم فيها مع أسرتها المكونة من 14 فردا جلست ضاهر منهكة وتبدو عليها علامات الإعياء الشديد، وتقول للجزيرة نت "أجلس هنا طوال ساعات النهار هربا من حر الخيمة وصرخات جوع الأطفال، كلنا نشعر بالجوع والعجز".
تعاني ضاهر من أمراض مزمنة، وتحتاج الأدوية التي تتناولها بانتظام إلى طعام مفقود تماما من الأسواق، وقد انخفض وزنها منذ تشديد الحصار من 97 إلى 67 كيلوغراما، وفقدت القدرة على الحركة إلا بصعوبة بالغة.
وتقول ابنتها نيفين (48 عاما) للجزيرة نت إن القلق يتملكها على مصير والدتها وهي تشاهد "جسدها يأكل بعضه بعضا من شدة الجوع".
ولنيفين 3 أحفاد أطفال لا يكفون عن البكاء طوال الوقت من قرصات الجوع، ولا تجد أمامها سوى الماء للتحايل عليهم وإسكات "قرقعة بطونهم"، وحتى الماء العذب للشرب ليس متوفرا باستمرار، تتحدث هذه الأم والجدة بمرارة مؤلمة.
قبل اشتداد أزمة الجوع الحالية كانت هذه العائلة النازحة من بلدة جباليا في شمال القطاع تعتمد في معيشتها على تكية خيرية تحصل منها على وجبة واحدة من الطعام، لكنها أغلقت أبوابها أسوة بعشرات التكايا المماثلة التي خرجت من الخدمة، إما نتيجة الاستهداف الإسرائيلي المباشر أو لعدم توفر السلع والمواد الخام لإعداد الطعام.
وكانت آخر مرة تحصل فيها نيفين على ربطة خبز من 10 أرغفة قبل 3 أيام، وبحسب وصفها كانت "كنزا كبيرا"، وعمدت إلى تقسيم كل رغيف إلى 4 أرباع، وتقول "أكلناها على يومين مع الملح أو دقة صنعتها بنفسي من بقايا عدس مطحون".
ويعتبر الخبز مكونا أساسيا على موائد الغزيين، وبات مفقودا تماما من الأسواق، وفي حال عثر عليه فإن أسعاره بلغت مستويات غير مسبوقة.
ووفقا لنيفين، فإن كيلو الطحين الواحد يكفي لصنع 8 إلى 10 أرغفة ويصل سعره حاليا إلى 200 شيكل (نحو 60 دولارا).
وخلال 48 ساعة لم يتناول الفتى أمير النصلة وأسرته (6 أفراد) سوى كوب من الماء المخلوط بالقليل من الملح والبهارات.
يقيم النصلة (15 عاما) وأسرته في خيمة داخل مخيم بحي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة، ويقول للجزيرة نت "آخر مرة أكلنا فيها صحنا من شوربة العدس منذ 4 أيام".
وخلال 3 أيام فقط ارتفع سعر كيلو العدس من 30 شيكلا إلى 100 شيكل (نحو 30 دولارا)، في حين البهارات شحيحة وأسعارها باهظة، ويقول النصلة "تباع بالغرام مثل الذهب".
وتحتل أخبار المجاعة وتداعياتها الحيز الأكبر من تفاعل الغزيين على منصات التواصل الاجتماعي، ومشاركاتهم تجاربهم الشخصية وبدائلهم المتاحة التي اضطروا إليها في محاولات التغلب على الجوع.
ويروي محمد عدوان -وهو صانع محتوى- تجربة أسرة صديق له وجدت في الصوم يوميا وسيلة لمقاومة الجوع، والإفطار على وجبة واحدة مما تيسر لديها من طعام تمكنها من الصمود حتى مغيب شمس اليوم التالي.
ويشبّه عدوان في حديثه للجزيرة نت حياة 2.2 مليون فلسطيني في قطاع غزة حاليا بواقع الأسرى في سجون الاحتلال، ويقول "نحن نعيش أيضا في سجن كبير، ومثلما يخوض الأسرى إضراباتهم الاحتجاجية بالاعتماد على الماء والملح وجدنا أنفسنا مضطرين لمحاكاتها ومجابهة المجاعة الفتاكة".
بدوره، لا يرى مدير مستشفى الأطفال والولادة في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس الدكتور أحمد الفرا أي جدوى في كل هذه البدائل، ويشدد على أنها "لا تمثل بديلا عن الطعام".
ويقول الفرا للجزيرة نت إن "الجوع لا يهدد فقط حياة الإنسان، بل يدمر شخصيته وكرامته مع مرور الوقت، ويؤثر عليه بشكل عميق جسديا ونفسيا، خاصة إذا كان مستمرا".
ويحذر الفرا من أن تداعيات التجويع بدأت في الظهور في أوساط الغزيين، وتبدو من اكتظاظ المستشفيات يوميا بعشرات حالات سوء التغذية التي لا تقف عند الأطفال وكبار السن، وإنما تشمل كل الفئات.
ووفقا له، فإن الآثار الجسدية للمجاعة تتضمن:
ولذلك، يقول الفرا إن جسم الإنسان الجائع أو المجوع يدخل في حالة سبات ثم ينتهي بالموت.
أما الآثار النفسية المترتبة على التجويع فمن أعراضها بحسب الفرا:
ومن بين عشرات الحالات اليومية الناجمة عن الجوع الشديد يذكر الفرا قصتين مؤلمتين، واحدة لأسرة كاملة أصيبت بالتسمم الجماعي نتيجة تناولها معلبات غذائية فاسدة، وعندما سألها الأطباء: ألم تتفحصوا تاريخ صلاحيتها؟ أجابت الأم "نعلم أنها منتهية ولكن ليس أمامنا أي بديل لسد الجوع".
والقصة الأخرى يقول الفرا إنها لطفل رضيع لا يتجاوز الشهرين اضطرت والدته إلى طحن حمص معلب وإطعامه له بديلا عن الحليب المفقود، وأحضرته إلى المستشفى في حالة إعياء شديد، وقد وصلت آثار الحمص إلى الجهاز التنفسي، وأجريت له عملية منظار قصبي رئوي لإزالة بقايا الحمص من الرئتين.
وفي حديثه مع الجزيرة نت، يضع مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي الدكتور إسماعيل الثوابتة سياسة التجويع الحالية في أرقام تعكس عمق الأزمة، وتثبت -برأيه- ما يسميها "هندسة التجويع" التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي: