في بلدٍ يختنق بالأزمات المالية والسياسية، تعمل خلف الكواليس "خلايا نحل" أمنية لا تهدأ. من
الشمال إلى
البقاع فالجنوب وجبل
لبنان ، تبدو
الأجهزة الأمنية
اللبنانية في سباق مع الوقت، وأحيانًا في "تنافس" مجازي في ما بينها، لإنجاز الملفات وتوقيف المطلوبين وملاحقة شبكات الجريمة المنظمة، في محاولة لقطع الطريق على انهيار أمني يُخيف اللبنانيين بقدر ما تخيفهم الأوضاع الاقتصادية.
من يتتبّع البيانات اليومية يلاحظ مشهداً شبه ثابت. دوريات، مداهمات، كمائن، تعقّب سيارات وأرقام هواتف، وملاحقة مطلوبين "بالجرم المشهود".
شعبة المعلومات في
قوى الأمن الداخلي ، مثلاً، نفذت في الأسابيع الأخيرة سلسلة عمليات متلاحقة من مداهمات في الشمال أفضت إلى توقيف عدد من الأشخاص بموجب خطة أمنية خاصة بالمحافظة، إلى توقيف مروّجي مخدرات في
صيدا ومناطق من
جبل لبنان بعد تعقّب استمر أياماً، في إطار متابعة يومية لملف المخدرات وترويجها في الشوارع والأحياء السكنية.
بالتوازي، يتحرّك الجيش ومديرية المخابرات على خطّ آخر لا يقل خطورة من خلال تنفيذ عمليات دقيقة، أهمّها، مطاردة السلاح المتفلّت وشبكات تجّار الموت. بيانات الجيش خلال الأشهر الماضية توثّق سلسلة مداهمات من صور إلى البقاع، تضمنت توقيف مطلوبين بجرائم إطلاق نار وضبط كميات من الأسلحة والذخائر الحربية، وصولاً إلى عمليات نوعية في البقاع الأوسط وضواحي زحلة اعترضت شحنات من القذائف والذخائر قبل أن تصل إلى وجهتها.
غير أن الصورة الأبرز هذا العام برزت على جبهة المخدرات. توقيف أحد أبرز الأسماء في عالم تصنيع وتهريب المخدرات، نوح زعيتر، شكّل محطة مفصلية في "حرب طويلة" تخوضها الدولة ضد شبكات ممتدة من البقاع إلى الحدود ومعابر التهريب، حيث كان قد كشف "لبنان24" أن العملية ضد "عرّاب المخدرات اللبناني" جاءت بعد سلسلة ضربات متلاحقة طاولت أسماء أخرى مطلوبة في ملفات مخدرات وخطف وسرقة، ضمن ما يشبه "لائحة أهداف" تعمل عليها الأجهزة تباعاً، في تنسيق غير معلن بين الجيش والأمن الداخلي وأجهزة أخرى.
خارج الحدود، يحاول الأمن اللبناني أن يوسّع هوامش حركته. توقيع
المدير العام لقوى الأمن الداخلي اتفاقا مع الإنتربول بشأن الامتيازات والحصانات خلال الجمعية العامة في مراكش، لم يكن تفصيلاً بروتوكولياً فحسب، بل إشارة إلى رغبة في تعزيز القدرة على ملاحقة الشبكات العابرة للحدود، سواء كانت شبكات مخدرات أو تبييض أموال أو تهريب أشخاص. في عالم تتحرك فيه الجريمة بسرعة الإنترنت، لم يعد ممكناً الاكتفاء بخريطة لبنان وحدها.
وسط كل ذلك، يبدو أن "التنافس" بين الأجهزة يأخذ شكلاً إيجابياً في كثير من الحالات. كل جهاز يحاول أن يثبت أنه الأكثر حضوراً على الأرض، والأسرع في كشف الجرائم، والأدق في تتبّع الخيوط. من بيانات الجيش إلى بيانات قوى الأمن الداخلي، ثم الإعلانات المتكررة عن تفكيك شبكات مخدرات أو توقيف مطلوبين خطيرين، تُرسم أمام الرأي العام صورة أجهزة تعمل ليل نهار، وتحاول أن تستعيد جزءاً من ثقة اللبنانيين المفقودة بمؤسساتهم.
لكن خلف هذه الصورة المضيئة، تبقى أسئلة مشروعة: هل تسمح البنية القضائية والمالية للدولة بتحويل هذا المجهود إلى مسار مستدام؟ ماذا عن الاكتظاظ في السجون، وتعقيدات التحقيقات، والملاحقات التي تحتاج إلى قضاء فعّال وسجون مهيّأة وبرامج إعادة تأهيل حقيقية؟ وهل يمكن لحملة أمنية مهما كانت قوية أن تعوّض غياب سياسات اجتماعية واقتصادية تخفّف من "مخزون الجريمة" في مجتمع أنهكه الفقر والبطالة؟
مع ذلك، لا يمكن إنكار أن شيئاً ما تحرّك بقوة في الكواليس الأمنية. من يراقب خطّ الأخبار اليومية يلمس بوضوح إيقاعاً مختلفاً.. توقيفات متزامنة، عمليات نوعية، بيانات متلاحقة، وتنسيق داخلي وخارجي يتوسّع. لبنان الغارق في أزماته، يبدو في المقابل كأنه يرسل رسالة صامتة: "إذا كان الاقتصاد على حافة الانهيار، فإن الأمن لا يزال يحاول أن يبقى واقفاً على قدميه، مدعوماً بأجهزة قررت أن تتصرف ك"خلايا نحل" لا تعرف التوقف، في سباق مع الوقت ومع الجريمة في آنٍ معاً".