أعاد القرار الأخير الصادر عن
مصرف لبنان ، والقاضي بحظر التعامل مع عدد من الجهات المالية غير المرخص لها ، فتح
النقاش حول واقع المنظومة المالية الموازية في البلاد، في مرحلة تتشابك فيها تداعيات الانهيار الاقتصادي مع الضغوط الدولية المتصاعدة. وفي قلب هذا السجال، تبرز "جمعية القرض الحسن" كنموذج معقد يجمع بين وظيفة اجتماعية واسعة، ووضع قانوني ملتبس، ودور مالي بديل تمدد بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة.
ويعد هذا القرار تحولا نوعيا في مقاربة السلطات النقدية لقطاع لطالما عمل خارج الرقابة المباشرة، مستفيدًا من الثغرات القانونية ومن تراجع دور المصارف التقليدية. وقد أثار إدراج "القرض الحسن" ضمن الجهات المشمولة بالمنع نقاشا واسعا حول شرعية نشاطها وحدود الدور الذي يمكن أن تؤدّيه في ظل الغياب شبه الكامل للمؤسسات المصرفية عن وظائفها الأساسية.
تعود جذور الجمعية إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حيث نشأت في بيئة اجتماعية وأمنية مضطربة، واتخذت في بداياتها طابعًا خيريًا، قبل أن تحصل على ترخيص رسمي كجمعية من
وزارة الداخلية . هذا الإطار القانوني أتاح لها العمل ضمن نظام الجمعيات، من دون الخضوع لقانون النقد والتسليف، ما مكّنها من تطوير نموذج مالي خاص قائم على القروض الحسنة والضمانات العينية، ولا سيما رهن الذهب.
ومع تفجر الأزمة المالية عام 2019، ازداد حضور الجمعية واتسع نطاق نشاطها، غير أن هذا التمدد وضعها في مواجهة ضغوط خارجية متزايدة، خصوصًا من
الولايات المتحدة ، التي ترى في نشاطها المالي خروجا عن منظومة الشفافية والرقابة.
داخليا، ترجمت هذه الضغوط بإجراءات تنظيمية دفعت المؤسسة إلى اعتماد مسار تكيفي جديد، تمثل في فصل بعض الأنشطة الحساسة ونقلها إلى أطر قانونية مختلفة.
وفي هذا السياق، برز إنشاء شركة تجارية مرخص لها تحمل اسم "جود"، تولت منذ مطلع كانون الأول الحالي تنفيذ جزء من العمليات المرتبطة بالذهب. وتعتمد الصيغة الجديدة على معاملات تجارية موثقة، تقوم على شراء الذهب من الزبائن وإعادة بيعه لهم بالتقسيط، عبر عقود وفواتير رسمية، بما يشكل انتقالا من الإقراض المباشر إلى نموذج تجاري يحافظ على الوظيفة التمويلية ضمن إطار قانوني مغاير، من دون أن يحسم الجدل القائم حول مستقبل هذا الدور وحدوده.
من حيث الجوهر، لا يعالج نموذج "جود" ، كما يؤكد استاذ الاقتصاد السياسي محمد موسى الإشكالية البنيوية المرتبطة بتصدّر الأموال، بل يقدّم حلًا شكليًا يهدف إلى تفادي منطق
العقوبات وتخفيف الإحراج عن الدولة
اللبنانية . فالمشكلة الأساسية في
لبنان لا تقتصر على نقص القنوات التمويلية، بل تكمن في غياب نظام مالي موحّد وخاضع للرقابة، قادر على تتبّع حركة الأموال، ومصادرها، واستخداماتها. أي كيان يعمل خارج النظام المصرفي، حتى ولو كان منظمًا داخليًا، لا يعالج أصل الخلل، بل ينقله من حيّز الانكشاف إلى حيّز الظل. وبذلك، لا يساهم هذا النموذج في إعادة بناء الثقة المالية أو في توحيد
الدورة النقدية، بل يعمّق الازدواجية النقدية التي يتبرأ منها الجميع، وذلك توصيفًا تقنيًا بعيدًا عن أي اعتبار سياسي.
في حال لم تكن عمليات "جود" مرتبطة فعليًا بمصارف خاضعة لقانون النقد والتسليف أو لرقابة هيئة التحقيق الخاصة، فإنها تكون، بحسب الدكتور موسى، عمليا خارج النظام المالي المنظّم. فالترخيص التجاري وحده غير كاف، لأن الأنشطة المالية مثل تجميع الأموال، الإقراض، الوساطة، أو تداول الذهب، تخضع لمعايير تنظيمية ورقابية مختلفة عن التجارة التقليدية. في هذا السياق، يصبح التعاطي مع هذا النموذج إشكاليا، إما عبر إخضاعه لإطار تنظيمي مالي خاص غير متوافر حاليا، أو عبر التعامل معه ككيان نقدي موازٍ، بما يحمله ذلك من مخاطر نظامية. أما تشبيهه ب"القرض الحسن"، فرغم وجاهته من حيث الوظيفة، فإنه يكرس المشكلة بدل حلها، إذ يؤكد استمرار وجود نماذج مالية تعمل باستثناء دائم عن القواعد العامة.
على المستوى التقني البحت، يطرح هذا النموذج تحديات جدية في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الأنشطة غير المشروعة. فحتى مع وجود عقود وفواتير تجارية، تبقى المخاطر، كما يقول الدكتور موسى لـ"لبنان24" قائمة لعدة أسباب، أبرزها أن العقود لا تعوّض غياب التحقق المستقل من هوية المستفيد النهائي (UBO)، وأن الفواتير لا تضمن بالضرورة أن العمليات تعكس نشاطًا اقتصاديا حقيقيا، ما يفتح الباب أمام خطر الفواتير الوهمية. كما أن الاعتماد على التداول النقدي والذهب يقلّص قابلية التتبع ويضعف أدوات التدقيق اللاحق. ووفق معايير مجموعة العمل المالي (FATF)، فإن الارتفاع في استخدام النقد والسلع القابلة للتخزين، كالذهب، يصنف تلقائيا كعامل مخاطر مرتفع بغض النظر عن النيات المعلنة. ويزداد هذا التعقيد في الحالة اللبنانية، نظرًا لوجود لبنان على القائمة الرمادية، وما يرافق ذلك من ضغوط تقنية وسياسية متواصلة خشية الانتقال إلى تصنيف أكثر سوءًا.
علميا وبشفافية كاملة، وفي غياب جهة رقابية قادرة على فرض اختبارات ضغط (Stress Tests)، وتحديد نسب سيولة دنيا، وفرض إفصاح
دوري عن الالتزامات، تبقى مخاطر السيولة في هذا النموذج غير قابلة للقياس الموضوعي، يقول موسى. فالاعتماد على النقد والذهب يخلق وهما بالسيولة، إذ إن الذهب أصل غير فوري وتتقلب أسعاره في الأسواق العالمية رغم قابليته للتسييل في الأزمات، فيما يبقى النقد عرضة لحالات الهلع والسحب الجماعي، في ظل غياب أي جهة تؤدي دور المقرض الأخير (Lender of Last Resort). ووفق المنهج العلمي، قد يبدو النموذج مستقرًا في الظروف العادية، لكنه يكون هشًا للغاية عند التعرّض للصدمات.
بخلاصة بعيدة عن السياسة، التي تشكل للأسف، وفق موسى، محركا أساسيا في هذا الملف، فإن نموذج "جود" لا يعالج الخلل البنيوي في النظام المالي اللبناني، بل يعمل كحل جزئي خارج الإطار المؤسسي. وحتى مع انتظامه الداخلي، فإنه يطرح تحديات حقيقية في مجالات مكافحة غسل الأموال وإدارة مخاطر السيولة، ويكرّس منطق الاقتصاد الموازي المفتوح بأحجام مالية تفوق موازنات جهات سياسية كبرى، ما يطرح إشكالية جوهرية حول اختزال اقتصاد الكاش بجهة واحدة.
وعليه، فإن السماح لهذا النموذج بالعمل من دون إطار رقابي مالي صريح لا يشكّل إصلاحًا فعليًا، بل يؤدّي إلى تأجيل منظّم للأزمة. ومع ذلك، فإن إدخال تعديلات بنيوية حقيقية، وتعزيز التعاون بين السلطات المعنية والقيّمين على "جود" ، قد يفتح المجال للوصول إلى أرضية مشتركة مبدئية يكون عنوانها الأساسي: مصالح الناس أولًا.