تُظهر المؤشرات السياسية الأخيرة الصادرة عن الجانب الأميركي، ولا سيما في ما يتعلق بالملف اللبناني، تحوّلاً ملحوظاً في مقاربة واشنطن لمسار التصعيد أو التهدئة في المنطقة.
فبعيداً عن الخطاب العلني المتشدد، تعكس الوقائع الميدانية والدبلوماسية توجهاً مختلفاً، قوامه إدارة الوقت وتوسيع هامش التفاوض بدل الذهاب نحو مواجهة مفتوحة. ويبرز في هذا السياق الانفتاح الذي يُظهره السفير الأميركي في
لبنان ميشال عيسى على
رئيس مجلس النواب نبيه بري ، إلى جانب الإصرار الأميركي على أن يضم أي وفد تفاوضي شخصية شيعية، وهو ما يحمل دلالات سياسية لا يمكن فصلها عن طبيعة الصراع القائم وتركيبته الداخلية.
هذا التوجه يتقاطع مع مساعي واشنطن الواضحة لكسب وقت إضافي، سواء عبر طرح مبادرات جديدة أو إعادة تدوير أفكار قديمة بصياغات مختلفة. واللافت أن هذه المحاولات لا تأتي في ذروة قوة أو ثقة مطلقة، بل في لحظة إقليمية شديدة التعقيد، تتراجع فيها قدرة
الولايات المتحدة وحلفائها على فرض الوقائع بالقوة، في مقابل تزايد الحاجة إلى التسويات بعد الانجازات التي حصلت. من هنا، يمكن قراءة هذه التحركات كمؤشر على تراجع احتمالات الحرب، لمصلحة ترجيح كفة السلم، أو على الأقل تأجيل الانفجار الكبير، مع تفضيل واشنطن فتح قنوات تفاوض شاملة مع
حزب الله ، ولو بشكل غير مباشر.
في هذا الإطار، يكتسب حديث
الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم أهمية خاصة. فإشارته إلى أن انجازات
إسرائيل بدأت تتلاشى، لا تبدو مجرد توصيف إعلامي، بل تعبير عن قراءة استراتيجية أوسع. إذ يمكن ربط هذا التوصيف بحالة عدم الاستقرار المتزايدة في الساحة
السورية ، التي لطالما شكّلت الانتصار الاستراتيجي الأبرز لإسرائيل، سواء من حيث ضبط الحدود أو تحييد الجبهات. اليوم، تبدو هذه الساحة أقل قابلية للضبط، وأكثر عرضة للمفاجآت.
ما جرى في بيت جن، وما شهدته تدمر في الأيام الأخيرة، يقدمان نموذجاً عن هذا التحول. فهذه التطورات لا تمثل فقط أحداثاً أمنية متفرقة، بل تعكس خللاً أعمق في توازنات كانت إسرائيل والولايات المتحدة تعتبرانها شبه محسومة. ومع اتساع رقعة الاضطراب، تتحول
سوريا من عنصر استقرار نسبي لإسرائيل إلى مصدر قلق إضافي، يفرض إعادة حسابات دقيقة حول جدوى التصعيد.
في ضوء ذلك، يبدو أن المشهد الإقليمي برمته لا يسير وفق الصورة الإيجابية التي كانت تراهن عليها إسرائيل. فبدلاً من تثبيت معادلات ردع جديدة، تجد نفسها أمام بيئة متحركة، تتراجع فيها القدرة على التحكم بالمسارات، وتتقدم فيها خيارات التفاوض كضرورة لا كمجرد خيار. أما واشنطن، فتعرف جيداً أن أي حرب شاملة في هذا التوقيت قد تفتح أبواباً يصعب إغلاقها، ما يجعل السلم المؤقت، مهما كان هشاً، أقل كلفة من مغامرة غير مضمونة النتائج.