دخلت الاستهدافات
الإسرائيلية الأخيرة على
جنوب لبنان مشهدًا جديدًا في مسار التصعيد، إذ بدت
إسرائيل وكأنها انتقلت من ضرب البنية العسكرية لـ"
حزب الله " إلى استهداف المؤسسات المرتبطة به، ومؤسسات مدنية ، في تحوّل نوعي يعكس استراتيجية جديدة في إدارة الصراع.
وكتبت" الاخبار": على مدى الأشهر الماضية، نفّذ العدوّ
الإسرائيلي سلسلة اعتداءات استهدفت عدداً كبيراً من الجرّافات والحفّارات في بلدات حدودية جنوبية ومناطق أخرى في الجنوب والبقاع. وكان آخرها
الغارات التي طاولت فجر السبت الماضي معارض لبيع الجرافات والآليات في منطقة مصيلح، في ما عُدّ أكبر عدوان جوي على منطقة اقتصادية منذ انتهاء حرب الأيام الستة والستين. تأتي هذه الاستهدافات في سياق الاعتداءات المتواصلة والانتهاكات اليومية لاتفاق وقف إطلاق النار، إلا أنّ استهداف الآليات الهندسية يحمل دلالة خاصة، لجهة دورها في رفع آثار العدوان وعملية إعادة الإعمار. الرسالة الإسرائيلية واضحة: ممنوع إعادة الإعمار وعودة مظاهر الحياة في القرى الجنوبية الأمامية!
في مصيلح، ينظر أحمد طباجة (65 عاماً) إلى «جنى العمر الذي صار رماداً».
يُحصي الرجل الذي أمضى قرابة 50 سنة في مجال تجارة الآليات الثقيلة، تدمير 116 آلية متنوعة من حفارات وجرافات وجرارات زراعية ومحادل وفلّاشات زفت وغيرها، مقدّراً خسارته بما يُراوح بين 5 و6 ملايين دولار، إضافة إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبناء السكني العائد له. يقول طباجة الذي افتتح مؤسَّسته قبل 35 عاماً: «لا أفهم لماذا تُستهدف مؤسسات ومصالح اقتصادية معروفة في مجالها لكل اللبنانيين».
تساؤل يقود أصحاب المصالح والمؤسسات المشابهة إلى سؤالين أساسيين: الأول، حول كيفية ترجمة «الدولة» وعودها على مستوى دفع التعويضات على خسائر قُدّرت بعشرات ملايين الدولارات، والثاني حول الشعور بالأمان والحماية. إذ «مَن يضمن أن لا يُعاد استهدافنا مجدداً في حال تمكنّا من أن نُعيد فتح مصالحنا؟»، يسأل أحد أصحاب المعارض على طريق مصيلح التي تشكّل واحداً من أكبر الأسواق التجارية لهذا النوع من الآليات.
يريد العدو منع أي مظهر من مظاهر الحياة في القرى والبلدات الأمامية. في بعض الأماكن يمنع الجرافات العاملة مع مجلس الجنوب من مزاولة أعمال رفع الركام، إلا بعد التحقق من تفاصيل دقيقة كما حصل أخيراً بموضوع قطاف الزيتون.
وفي أماكن أخرى «أكثر حساسية»، لا يُسمح بعمل الجرافات والحفارات إلا بمواكبة من الجيش واليونيفل كما في مارون الراس وميس الجبل وغيرهما. استهداف الجرافات «هو بالنتيجة استهداف لعودة الناس وبقائهم في أرضهم، وفقاً ليوسف إسماعيل، عضو المجلس البلدي في بيت ليف (بنت جبيل) مذكّراً باعتداءين من هذا النوع تعرضت لهما البلدة.
بعيداً من كونها، بنظر العدو، «شبهة أمنية»، تشكل الحفارات والجرافات على اختلاف أنواعها وأحجامها العمود الفقري للبنى التحتية، وهي مفتاح العمل، إذ إن مراحل إعادة البناء كلها تستند على هذه الآليات، وفقاً لخبراء في مجال الإعمار والبناء.
لكن الباحث العلمي وسيم جابر يذهب أبعد من ذلك في محاولته لتفسير معنى هذا النوع من الاستهدافات. إذ يرى أنها «حرب على الأمل»، موضحاً أنه «في المعادلة الإسرائيلية، الجرافة أخطر من الصاروخ. الصاروخ يقتل الحاضر، بينما الجرافة تبني
المستقبل . ولأن إسرائيل لا تريد لجنوب
لبنان مستقبلاً، فهي تستهدف الجرافات». يضيف جابر: «الشعب الذي يعود يُسقط مشروع الضم، والقرية التي تُعمّر تُسقط
الاحتلال ، والجرافة التي تبني تهدم الحلم الإسرائيلي».
وكتبت" نداء الوطن":يوم الأحد الفائت، حلّقت مسيّرة إسرائيلية، فوق مدينة النبطية وقرى الجوار، مطلقة رسائل صوتية وتهديدات مباشرة للمهندس طارق مزرعاني، رئيس "تجمّع أبناء القرى الحدودية" وهو إطار مدني أُطلق قبل نحو ثلاثة أشهر للمطالبة بإعادة الإعمار. وقبل ذلك استهدفت إسرائيل سيارة على طريق الجرمق - الخردلي في جنوب لبنان، ما أدى إلى مقتل المهندسيْن أحمد سعد ومصطفى رزق. والمهندسان كانا في مهمة كشف للأضرار الناجمة عن الغارات السابقة لصالح شركة "معمار"، حين حصل الاستهداف.
هذه الحوادث لم تكن مجرد استهداف عابر، بل تحمل دلالات عميقة حول تبدّل أولويات إسرائيل الميدانية. فالغارات التي كانت تتركز سابقًا على قيادات عسكرية ومواقع تابعة لـ"حزب الله"، امتدّت اليوم لتطال كوادر مدنية وشركات هندسية يُشتبه بارتباطها بالبنية اللوجيستية لـ"الحزب".
يعكس هذا التطور رغبة إسرائيل في ضرب كل مفصل يمكن أن يشكّل سندًا للبنية التحتية والاقتصادية لـ "الحزب"، وهو ما يُعدّ نقلة نوعية من المواجهة العسكرية المباشرة إلى حرب اقتصادية - مدنية تهدف إلى إنهاك بيئة الدعم الخلفية لـ"الحزب".
استهداف المهندسين بالإضافة إلى الجرافات ليس حادثًا عرضيًا، بل إشارة إلى توسّع رقعة الاستهدافات التي تخوضها إسرائيل ضد "حزب الله"، هي حرب لم تعد تقتصر على الجبهات العسكرية، بل تمتدّ إلى الشركات والمشاريع وهي مرحلة جديدة من المواجهة، قد يكون عنوانها القادم: "الحرب على الإعمار".