فيما كانت كلّ الأنظار متّجهة نحو جلسة الحكومة التي وُصِفت بـ"المفصليّة"، وقد وُضِعت على جدول أعمالها خطة الجيش حول "حصرية السلاح" في ظلّ انقسامٍ عموديّ حول كيفية مقاربتها بين مختلف القوى السياسية، اختارت
إسرائيل أن تدخل على خطّ النقاشات
اللبنانية ، لكن على طريقتها المعتادة، بالنار، من خلال خروقات بالجملة لاتفاق وقف إطلاق النار، وغارات مكثّفة تجاوزت الوتيرة "المألوفة" منذ إبرام الاتفاق.
هكذا، صعّدت إسرائيل من وتيرة هجماتها في
جنوب لبنان خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية بشكل يكاد يكون غير مسبوق، وقد امتدّت
الغارات إلى مناطق يفترض أن تكون "آمنة"، نسبيًا على الأقلّ، كمنطقة الزهراني الواقعة شمال نهر الليطاني، على بُعد نحو 35 كيلومترًا من الحدود، حتى إنّ لغة "الإنذارات" عادت، مع الحديث عن إخلاء مقهى في الخيام ليلاً، بعد تهديدٍ إسرائيليّ باستهدافه، لم يُعرَف مدى جدّيته.
إزاء ما تقدّم، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام حول الرسائل التي تحملها هذه الضربات
الإسرائيلية ، وهل يمكن فهمها، من حيث توقيتها بالحدّ الأدنى، كضغطٍ مُحكَم على
مجلس الوزراء لتمرير خطة قيادة الجيش لتنفيذ مبدأ "حصرية السلاح" بيد الدولة، بعيدًا عن ضجيج التسريبات والتقديرات المتضاربة حول ماهية الخطة وتوقيت تنفيذها، وقد وصل بعضها إلى حدّ ترجيح "تجميدها" تفاديًا لسيناريو "انفجار" الحكومة من الداخل؟!
رسائل التصعيد
الإسرائيلي
بعيدًا عن نظرية المؤامرة، التي يحلو لكثيرين العودة إليها عند كلّ استحقاق، لا يمكن النظر إلى الغارات الإسرائيلية المكثّفة بمعزل عن جلسة الحكومة المرتقبة الجمعة، ولو أنّها جزء من خروقات إسرائيلية لم تتوقف عمليًا منذ اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني الماضي، فالانتقال إلى ضرب عمقٍ شمال الليطاني ليس حركةً عشوائية، وهو يحمل بين طيّاته رسالة لا تكرّس تل أبيب من خلالها حرية الحركة فحسب، بل تؤكد قدرتها على توسيع بنك الأهداف.
وكان لافتًا أنّ تل أبيب روّجت بالتوازي مع تكثيفها الغارات المركّزة على مناطق جنوبية عدّة، لعملية "اللواء الجبلي 810" في
لبنان وسوريا، من خلال توثيق استعراضي يُقصَد منه، وفق ما يقول العارفون، تثبيت صورة "اليد الطويلة"، وإقناع الداخل والخارج بأن العمل خلف الخطوط جارٍ بلا قيود، وهو ما يندرج إلى حدّ بعيد في خانة "الحرب النفسية" التي يبدو أنّ إسرائيل باتت تمارسها وحيدة، تمامًا كما تفعل مع العمليات العسكرية في هذه المرحلة.
وفقًا للعارفين، فإنّ التصعيد الإسرائيلي بهذا المعنى، على المستويين العسكري والإعلامي، أو ما يصبّ في خانة "البروباغندا"، يعكس في مكانٍ ما، محاولة من جانب تل أبيب للضغط على لبنان الرسمي عشية جلسة الحكومة، بما يؤكد أنّ الخيارات أمامها ليست مفتوحة عمليًا، علمًا أنّ المسؤولين الإسرائيليين سبق أن توعّدوا مرارًا بأنّهم جاهزون للعب دورهم على خط نزع السلاح، في حال تباطؤ الحكومة اللبنانية أو انكفائها، تحت أيّ ظرف من الظروف.
جلسة الحكومة على وقع التصعيد
على مستوى السياسة الداخلية، لا يبدو أنّ التصعيد الإسرائيلي ترك صداه فعلاً على مستوى النقاشات السياسية، بالحدّ الأدنى فيما يتعلق بالتموضعات المفترضة في الجلسة الحكومية المنتظرة، حيث يبدو الانقسام على أشدّه بين فريقين، فريقٌ يمثّله رئيس الحكومة ومعه عدد من القوى على رأسها "
القوات اللبنانية " يصرّ على إقرار الخطة، وفريق آخر يميل إلى "تجميد التنفيذ" بانتظار الوصول إلى توافق لا يبدو أنّ ظروفه نضجت بعد.
وفي وقتٍ تُطرَح علامات استفهام حول قدرة الحكومة على ترجمة القرار، إذا ما اتُخِذ، من دون انفجارٍ سياسي أو شللٍ مؤسسي، يبقى الغموض سيّد الموقف، ربما حتى اللحظة الأخيرة، علمًا أنّ "
حزب الله " الذي لا يزال على موقفه لجهة رفض النقاش بسلاحه على وقع العدوان، سيحاول إعادة "تصويب" النقاش من بوابة التصعيد الإسرائيلي الأخيرة، ووفق مبدأ: "هل يجوز أن تناقش الحكومة سحب السلاح على وقع العدوان الإسرائيلي؟!".
وبين خيارَيْ الإقرار الفوري للخطة والتجميد المفتوح على المجهول، يبرز مسارٌ ثالث قابل للحياة: إقرارٌ مبدئيٌّ مقيَّد يثبّت مبدأ "حصرية السلاح" كوجهةٍ للدولة، انسجامًا مع البيان الوزاري للحكومة، مع تنفيذٍ مرحلي يبدأ بخطواتٍ غير خلافية (تعزيز انتشار الجيش في النقاط الحسّاسة، ضبط المظاهر المسلّحة العلنية داخل المناطق المدنية، رفع منسوب التنسيق العملاني مع "اليونيفيل"، ومعالجة المخازن الخطرة) على أن تُرحَّل البنود الأكثر حساسية إلى جدولٍ زمني مرن تُراجِعه الحكومة شهريًا وتُقِرّ تفاصيله لاحقًا.
بهذه الصيغة ربما، تُنزَع تهمة "الإقرار تحت النار"، ويُعاد تقديم الخطة كـ"مسارٍ سيادي لبناني" منفصل عن سرعة إيقاع الغارات الإسرائيلية، من دون إسقاط سؤال الشرعية الداخلية أو تجاوز الانقسام العمودي القائم. صحيحٌ أنّ هذه المقاربة قد لا تعجب الكثيرين، من هذا الطرف أو ذاك، لكنها برأي العارفين، تمنح الجميع وقتًا سياسيًا لإخماد حرارة اللحظة، وتُجنِّب السلطة انفجارًا حكوميًا مجانيًا فيما الحدود تشتعل، فهل تكون المَخرَج؟!