لم تكن زيارة الكاردينال مار بشارة الراعي الى المنطقة الحدودية تقليدية، لا في الشكل ولا في المضمون، فالزيارة التي رافقه فيها السفير البابوي المونسنيور باولو جورجيا ومطارنة تعتبر استثنائية، لتعزيز صمود اهالي المناطق الحدودية بعد الحرب
الإسرائيلية .ويقول العارفون في التفاصيل ان زيارة الراعي كانت مقررة قبل فترة، لكنها تأخرت بسبب الطارىء الصحي الذي تعرض له.
وكتبت صونيا رزق في " الديار": تنفي مصادر مسيحية ان يكون لزيارة الراعي ارتباطات بما يجري حاليا من احداث، وبالأخص قرار
مجلس الوزراء حصر السلاح بيد الدولة، فمن المعروف ان عمل الكنيسة المارونية رعوي وديني، والبطريرك الماروني لا يتدخل في الشأن السياسي، فالبطريرك كما تقول المصادر لا يقاطع اي فريق لبناني، او يخاصم أحد مهما كان الاختلاف السياسي قويا، وحريص دائما على عدم الدخول في الانقسامات الحادة، لكن
القضايا الساخنة تطرح نفسها وحدها بين الحين والأخر، فيتدخل الراعي لطرح القضايا الوطنية لكن بموضوعية ومقاربة تخدم المصلحة
اللبنانية ، كما يحصل عندما يطالب بالتزام
لبنان الحياد ورفض ربطه بالمحاور الخارجي. في المضمون، تقول المصادر ان الزيارة التي جاءت بالتزامن مع الاعتداءات "الاسرائيلية"، التي طالت اطراف البلدات حيث تواجد الوفد، أتت لدعم أبناء المناطق الحدودية ودعم صمودهم في مواجهة المصاعب والتحديات، مع تثبيت ضرورة البقاء في نطاق الحياد لإنقاذ لبنان واستعادة الثقة به. ولاحظ المتابعون لمواقف الراعي في الفترة الأخيرة نوعا من التهدئة في مسائل داخلية، وتحديدا ما يتعلق بموضوع السلاح بحيث تحول الخطاب الى" ناعم"، يحاكي دقة الوضع الراهن ووجع طائفة ومكون لبناني أساسي. وتقول المصادر ان موقف بكركي ليس هروبا من المواجهة، بقدر ما هو تحسس وتعاطف مع وجع طائفة أساسية في الوطن ومصابها بعد الحرب "الاسرائيلية". ومع ان الراعي ليس من مؤيدي احتفاظ
حزب الله بسلاحه، لكنه يعتبر حزب الله جزء من المكون اللبناني، ويكشف عن تأييده انتظام عمل المقاومة ضمن الشرعية.
صحيح ان البطريرك يذكر دائم في إطلالاته بضرورة احترام الشرعية اللبنانية والاحتكام إلى مؤسسات الدولة، لكن الدعوة تأتي على خلفية مقاربة تقول ان الدولة هي المرجع الوحيد لأي حل أو تسوية. فدولة القانون ليست خيارا بل ضرورة، وهي وحدها القادرة على ضمان كرامة المواطن وصون السلم الأهلي، واستعادة ثقة الداخل والخارج على حدّ سواء.
وكتب طوني عطية في " نداء الوطن": تفقّد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، رعيته الصامدة في الشريط الحدودي التابعة لأبرشية صور، وهي دبل، رميش، عين إبل، القوزح وعلما الشعب. إنها الجولة الأولى بعد حرب الإسناد التي أشعلها "حزب الله"، وفتح معها أبواب الموت والنزوح والخراب. تحمل الزيارة في توقيتها دلالات مهمّة، إذ أتت بعد أن حسمت الدولة أمرها في مسألة سحب السلاح غير الشرعي، ومحاولات "الحزب" الانقلاب على القرار باستعمال آخر أوراقه المتهاوية ألا وهي "الشعب" ودرّاجات "الشغب" النارية. ليس مفاجئًا أن تكون الكنيسة حاضرة في لحظات المصير، وخصوصًا في الجنوب. قبل 105 أعوام، دفعت القرى المسيحية التي زارها الراعي أمس، مجازر وتهجيرًا بسبب تأييدها لـ "لبنان الكبير" ورفضها الانضمام إلى حكومة فيصل آنذاك. وحافظت هذه البلدات على تاريخها وثقافتها وانتمائها الثابت للبنان أولًا. هي علامة على حضور الدولة وهوية الجنوب اللبنانية في وجه المشاريع المستوردة، أو كما وصفها أحد المعارضين الشيعة بأنها "قرى الدولة". هذا ما جنّبها إلى حدّ كبير ويلات الحرب الأخيرة، على الرغم من نزوح العديد من أبنائها خلال المعارك، وتضرّر بعض القرى بشكل كبير مثل علما الشعب والقوزح، بسبب توغّل عناصر "الحزب" بين منازلها واستعمالها منصات صاروخية. زيارة الراعي والوفد المرافق الذي ضمّ السفير البابوي المونسنيور باولو بورجيا الذي زار الشريط الحدودي أكثر من مرّة خلال الأزمة، راعي أبرشية صور المارونية المطران شربل عبدالله، المعاون البطريركي للشؤون الإدارية والرعوية المطران الياس نصّار، رئيس كاريتاس لبنان الأب ميشال عبود وفريق العمل البطريركي، حملت رسالة دعم معنوي وإيماني من جهة، وإنمائي وخدماتي من جهة أخرى. فالكنيسة ساهمت بشكل كبير عبر علاقاتها الخارجية ومؤسساتها وعلى رأسها "كاريتاس"، في تطمين أهل تلك القرى وحثّهم على البقاء خلال الحرب ومدّهم بمقومات الصمود من مواد غذائية وطبيّة ومحروقات، إضافة إلى مساعدات مدرسية.
الجولة
وكان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قام أمس، بجولة على عدد من القرى الحدودية، رميش وعين إبل والقوزح ودبل، يرافقه السفير البابوي في لبنان باولو بورجيا، حيث كانت محطته الأولى في بلدة دبل، ثم انتقل إلى بلدة القوزح وبعدها إلى بلدة عين إبل حيث التقى عدداً من الأهالي واستمع إلى معاناتهم، انتقل بعدها إلى بلدة رميش حيث كان في استقباله ممثل رئيس الجمهورية جوزف عون النائب ميشال موسى بحضور النائب أشرف بيضون والفاعليات السياسية والبلدية والاجتماعية، وأقيم له استقبال حاشد في ساحة كنيسة التجلي من الأهالي الذين نثروا الأرز والورود. بعدها أقيم قداس احتفالي في كنيسة التجلي ترأسه الراعي وقال في عظته: "من هذا المكان، نرفع النظر إلى وجه لبنان الحقيقي، وجه الرسالة، وجه النور الذي يضيء للعالم من الشرق. نعم، نحن شعب رأى مجد الربّ عبر التاريخ، في قدّيسيه، في شهدائه، في صلابته، وفي إيمانه الذي لا ولن يموت. لبنان هذا الوطن المبارك، لا يحتاج إلى إصلاح إداريّ فقط، بل إلى تجلٍّ روحيّ- وطنيّ، إلى صعود إلى الجبل، إلى لحظة صدق ومواجهة مع الذات". وأضاف: "نحن نؤمن أنّ الوطن ليس ترابًا فقط، بل هو كيان ورسالة. وهذا ما يحمّل المسؤولين في الدولة جميعًا، مسؤوليّة مقدّسة في أن يجعلوا من خدمتهم تكريسًا لخير الشعب، وسبيلًا لتجلّي الحقيقة والعدالة والشفافيّة. وأن يكونوا خدّامًا للصالح العام، وبناةً لوطن يرجع إليه بهاؤه ومجده".