تصاعدت حدّة الاشتباكات على الحدود اللبنانية-السورية خلال الأسابيع الماضية، حيث اندلعت مواجهات عنيفة بين مجموعات مسلحة تنتمي لعشائر لبنانية وقوات الأمن السورية، ما أدى إلى توسّع نطاق العنف ليشمل الأراضي اللبنانية. ومع احتدام المواجهات، تدخل الجيش لمحاولة احتواء الوضع، وسط مخاوف من تفاقم الأزمة الأمنية في المنطقة. وكما بات واضحا من الجهة السورية، فإنّ جذور هذا التصعيد تعود إلى "حملة أمنية شاملة نفذها الأمن العام السوري، مستهدفة تجارة المخدرات والبنية التحتية لشبكات تصنيع الكبتاغون". هذا التحرك أشعل فتيل المواجهات في مناطق حدودية ذات تركيبة سكانية متداخلة، حيث تمتد سيطرة العشائر اللبنانية إلى داخل القرى السورية المحاذية.
عمليًا، وعلى الأرض، تضم المنطقة الحدودية السورية أكثر من خمس بلدات يقطنها لبنانيون ينتمون إلى عشائر بعلبك-الهرمل، مثل آل زعيتر، علاو، ناصر الدين، وجعفر. هذه العشائر، التي تمتلك تسليحًا قويًا، وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع "هيئة تحرير الشام" التي حاولت فرض سيطرتها على القرى الحدودية التي تقع في واحدة من أكثر المناطق حساسية على المستوى الأمني، إذ تتداخل القرى والبلدات بين البلدين، ما يجعل السيطرة عليها أمرًا شديد التعقيد خاصة بعد أن تحولت هذه المنطقة إلى معبر رئيسي لعمليات التهريب، سواء للمحروقات أو السلاح أو المخدرات، على مدار السنوات الماضية، وتحولها مؤخرا إلى ساحة صراع "طائفية" بين القوات السورية التي تسعى إلى إنهاء الوجود المسلح لـ"حزب الله" على الحدود حسب ما يرى المتابعون.
وعليه، ومع إعلان الأمن العام السوري عن إطلاق حملة واسعة لمكافحة تجارة المخدرات وتفكيك معامل الكبتاغون، انفجر الوضع بشكل دراماتيكي. فبينما رأت دمشق في هذه العملية ضرورة استراتيجية لاستعادة السيطرة على أراضيها، اعتبرتها بعض العشائر اللبنانية استهدافًا مباشرًا لها، خاصة أن العديد من العائلات في منطقة بعلبك-الهرمل تمتلك أراضي ومصالح ممتدة داخل الأراضي السورية.
ومع استلام الجيش للأمور، وقدرته على رصد ومتابعة أي تطوّر أمني، فأكّد مصدر أمني لـ"لبنان24" أنّه منذ أن استلمت الوحدات الأمنية اللبنانية زمام تهدئة وتيرة المعارك بعد الطلب من مسلحي العشائر التراجع، لم يكن هناك أي تساهل مع أي خرق أمني قد يحدث، ولعل الإصابات التي سقطت للجيش بعد أن استلم مواقعه هناك خير دليل على ذلك، إذ إنّه بين الحين والآخر ترصد العناصر تحركات مشبوهة، تدفعها إلى الردّ عليها مباشرة، وحسب مصدر أمني فإنّه منذ عدة أيام، تمكن الجيش من دحر مجموعة سورية مسلحة حاولت شقّ طريق إلى الداخل اللبناني، مستعينًا بالسلاح الجوي الذي أغار على مصدر التهديد، ورصدت آليات الهلال الأحمر هناك، من الجهة السورية، ما أكّد وقوع إصابات.
على صعيد متصل، يؤكّد مصدر محلي لـ"لبنان24" أنّ العشائر، وبعد المعارك القوية التي خاضتها، والتي قدّرت خسائرها بملايين الدولارات، باتت مقتنعة أنّ لا حلّ إلا باستلام الجيش اللبناني لزمام الأمور، وهذا ما قد يسمح مستقبلا بإعادة تمكن هؤلاء من الوصول إلى مصالحهم الاقتصادية داخل الأراضي السورية، والتي في طبيعية الحال يجب أن تكون بعيدة عن أي تجارة مشبوهة. ويرى العديد من أبناء هذه المناطق أن الحل الأمثل لضمان استقرارها هو بسط سلطة الجيش عليها بشكل كامل، باعتبارها أراضٍ يمتلكها لبنانيون منذ عقود. غير أن التوتر لا يقتصر على هذه المسألة فقط، بل يتداخل مع صراعات النفوذ، حيث تشير مصادر ميدانية إلى أن ما يجري ليس مجرد اشتباكات عرضية، بل صراع أوسع نطاقًا على التحكم بالمعابر غير الشرعية والموارد الحيوية.
هل التنسيق الأمني ممكن؟
من الناحية النظرية، يعد التعاون الأمني بين بيروت ودمشق ضرورة استراتيجية لكلا البلدين، خاصة في ظل المخاطر المشتركة التي تهدد الاستقرار الداخلي لكل منهما. وقد جرت محاولات عدة لتعزيز التنسيق بين الجيشين، لا سيما في قضايا ضبط الحدود وملاحقة المطلوبين، وحسب مصدر أمني متابع، فإنّ الاتصال مستمر وبشكل جديّ بين الجهة اللبنانية والسورية لضمان تأمين الحدود، خاصة وأنّ الجهة السورية أكّدت في أكثر من مناسبة أنّ عملياتها لا تستهدف الداخل اللبناني، إنّما محصورة على الحدود فقط. إلا أنّ المصدر الأمني يؤكّد لـ"لبنان24" أنّ مجرد تبادل الكلام اللطيف لا يكفي لحل القضية، إذ ما حصل اليوم ليس مجرد مواجهة عابرة، بل هو امتداد لصراع نفوذ طويل الأمد، يتداخل فيه البعد الأمني مع السياسي والطائفي والاقتصادي. وبينما يبدو التنسيق الأمني أحد الحلول الممكنة، فإن نجاحه يتطلب توافقًا سياسيًا لبنانيًا حول العلاقة مع دمشق، بالإضافة إلى قدرة الجيشين على فرض سيطرتهما في منطقة لطالما اعتُبرت خارج سلطة الدولتين.
وعليه، يرى المصدر الأمني 3 سيناريوهات قد نشهد واحدا منها في فترة زمنية قريبة قد تكون حلا للأزمة أو مفتاحا لباب سيشرّع مواجهات مستقبلية صعبة، وهي:
1- تعزيز التنسيق الأمني المشترك، وهو السيناريو الأفضل، حيث يؤدي التعاون بين الجيشين إلى ضبط الأوضاع تدريجيًا، مما يحد من عمليات التهريب ويمنع تجدد المواجهات. إلا أن هذا السيناريو يتطلب إرادة سياسية من الجانبين، وهو أمر لا يمكن القول بأنّه مستحيل حاليا.
2- التصعيد المتقطع: أي استمرار المواجهات على فترات متقطعة، من دون أن تصل إلى حد الحرب المفتوحة، حيث تبقى المنطقة مسرحًا لصراعات محلية وإقليمية، مع تدخل الجيش بشكل محدود لاحتواء الأوضاع كلما تفجرت.
3- انفجار أمني واسع: وهو السيناريو الأسوأ، حيث تخرج الأمور عن السيطرة، خاصة إذا قررت جهات إقليمية أو داخلية استغلال الفوضى لتوسيع رقعة الاشتباكات، ما قد يؤدي إلى تدخل دولي أو فرض ترتيبات جديدة على الأرض.