وسط أزيز الرصاص ودوي المدافع، كانت نيالا على موعد مع الحرب يوم السبت 15 أبريل 2023، تمامًا كما اندلعت في الخرطوم. بدأت المواجهات في الواحدة ظهرًا، لتتحول المدينة إلى مسرح لصراع دموي استمر حتى 26 أكتوبر 2023، لحظة سقوط الفرقة 16 مشاة في يد قوات الدعم السريع.
يحكي شمس الدين أحمد صالح، رئيس حزب البعث العربي الاشتراكي بجنوب دارفور، في سرديته المؤثرة عن تلك الأيام العصيبة التي عاشها أهل نيالا، حيث لم تترك الحرب سلاحًا إلا واستخدمته، ولم تترك حيًّا إلا وأثخنته بالجراح. كانت الأحياء الواقعة بين قيادة الفرقة 16 وارتكازات الدعم السريع هي الأكثر تضررًا، فيما عاش المواطن خوفًا مزدوجًا بين نيران القصف العشوائي، واتهامات الولاء لهذا الطرف أو ذاك.
مع تضييق الخناق وانسداد سبل العيش، بدأ النزوح الكبير، أولًا نحو المحليات والولايات الأخرى، ثم إلى دول الجوار. وبعد سقوط الفرقة 16، زادت موجات النزوح، خوفًا من بطش الدعم السريع، لكن المفاجأة كانت عدم وقوع جرائم غير مألوفة بعد سقوط الحامية، رغم سيادة حالة اللا دولة.
لم تتأخر تداعيات الفراغ الأمني، إذ توقفت رواتب الموظفين، وتعطّلت الأنشطة التجارية، وسرعان ما انهارت الأسواق الرئيسية، وعلى رأسها السوق المركزي لنيالا، أحد أكبر أسواق غرب إفريقيا. في المقابل، بدأت أسواق فرعية مثل سوق المواشي، سوق موقف الجنينة، سوق قادرا، السوق الشعبي، وسوق الجبل، تحاول تعويض الغياب الكبير للحركة التجارية المعتادة.
في ظل هذا الواقع، انقسم المجتمع إلى ثلاث فئات:
ويرى شمس الدين أحمد صالح أن الموقف السليم هو رفض الحرب، لأن الفطرة السليمة تميل إلى السلام، مؤكدًا أن الحرب ليست سوى قانون طوارئ دموي.
بعد سقوط الفرقة 16، دخلت مرحلة جديدة من الرعب، حيث كثّف الجيش قصفه الجوي على المدينة، ما أسفر عن مقتل أبرياء وتدمير منازل ومنشآت عامة، ليعيش المواطن بين رعب الطائرات الحربية التابعة للجيش، وقلق طائرات الشحن التابعة للدعم السريع، التي لم تتوقف عن الهبوط في مطار نيالا منذ سقوط الحامية.
يرسم شمس الدين صورة قاتمة للواقع المعيشي، حيث انحسر الإنتاج الزراعي رغم وفرة الأمطار، وتوقفت المساعدات الإنسانية التي لا تكفي لسد رمق السكان. أما المرتبات الحكومية، فقد أصبحت مجرد ذكرى، والخدمات الأساسية شبه منعدمة.
أما التعليم، فقد تعرض لضربة قاصمة بعد إجراء امتحانات الشهادة السودانية في شرق البلاد، مما حرم طلاب دارفور منها، ليُصاب الأهالي بإحباط شديد، في ظل أولويات أخرى فرضتها الحرب.
لم يكن القطاع الصحي أفضل حالًا، فالمستشفى الحكومي في نيالا بات تحت إدارة المنظمات الإنسانية، بإمكانات محدودة، فيما أصبح القطاع الخاص هو الملجأ الوحيد رغم تكاليفه الباهظة. أما المستشفى التخصصي، فهو بالكاد يعمل، ليبقى المرضى عالقين بين الألم والانتظار.
تعرضت البنية التحتية للمياه والكهرباء للدمار بفعل القتال، وزاد الأمر سوءًا بسبب سلوك بعض المواطنين الذين لجأوا إلى نهب وتخريب المنشآت الخدمية، مما جعل المدينة تغرق في العتمة والعطش، دون أفق لحل قريب.
“هل يسمع الطرفان صوت المواطن؟”
بهذه الكلمات، يختتم شمس الدين أحمد صالح شهادته، متسائلًا:
“هل يسمع الجيش والدعم السريع صوت أهل نيالا الذين سئموا الحرب؟”
سؤال يلخص أزمة مدينة وألم شعب، يبحث عن فسحة سلام وسط الدمار.
دبنقا