يبقى الطفل الفلسطيني هو البطل في حرب الإبادة الدائرة على قطاع غزة . الأطفال هم المستقبل، وآلة القتل الإسرائيلية لا تريد فلسطينيا، ولا تريد لهذا المستقبل أن يكون. ووسط هذه الإبادة التي تدور رحاها على مرأى من العالم كله، بدت بطولة أطفال غزة، الذين قتل منهم ما لا يقل عن 30 ألف طفل، أكثر تعبيرا عن عشق الحياة، وأكثر حرصا على السلام في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية الغاشمة.
ومن بطولات أطفال غزة استوحت كاتبة الأطفال الأردنية د. أماني سليمان داود قصة "أطفال طابور الماء"، التي قام المركز القومي للترجمة بالقاهرة بترجمتها إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، لتصدر بـ3 لغات، ليقرأ العالم قصة أطفال غزة الذين يعيشون بلا ماء ولا طعام، أطفال صغار تأمر عليهم المحتل بالأسلحة المحرمة والمجرّمة دوليا، وأخيرا بسلاح التجويع .
والقصة تلقي ضوءا، ولو ضئيلا، على معاناة أطفال غزة، وتضيء وجها من وجوه مقاومتهم، وتؤكد تشبثهم بالأمل؛ بوصفه شكلا من أشكال البقاء، ومفتاحا من مفاتيح النصر.
ومن ناحيته، أعلن مركز الأزهر للترجمة عن توجهه لترجمة قصة "أبطال طابور الماء" إلى 15 لغة، تضاف إلى الإنجليزية والفرنسية، في محاولة لتقديم قدر بسيط من التعاطف والتفهم والمشاركة من أجل غزة وأطفالها، الذين منحوا الطفولة معاني جديدة، فصار لزاما علينا تعديل رؤيتنا لموقعهم ووعيهم ودورهم.
"إلى الطفل الفلسطيني الذي يعلّم البشرية أبجدية البطولة"
بهذا الإهداء الموحي تفتتح كاتبة الأطفال د. أماني سليمان داود قصتها "أبطال في طابور الماء".
تبدأ القصة بمنظر طابور طويل، ويقف في الطابور 3 أصدقاء: يوسف، ومصطفى، وإبراهيم، طلاب في الصف السابع، وكل منهم ينتظر دوره بصبر لملء الماء.
يقول يوسف -وهو طفل يعشق الميديا ويصور كل ما يحدث بهاتفه الجوال- "كنا طلابا في فصول دراسية سعيدة، لكننا لم نكمل سنتنا الدراسية. لم نهرب من المدرسة، ولم نتركها بإرادتنا، بل هربت المدرسة نفسها، وتحولت غرفها إلى ملاجئ، وصارت مركزا لإيواء النازحين من القصف".
ويتساءل يوسف: "أتعرفون ما معنى إيواء؟ هو أن تضع قلبك في خيمة، وتشد عليه بحبل كي لا يطير خوفا".
ويضيف يوسف: "في الماضي كنا نجري في ساحات المدرسة، نلعب، نقرأ القصص، نضحك كثيرا ونحلم أكثر. أما اليوم، فقد أغلقت مدرستنا، ليس لأننا في عطلة، بل لأن القنابل سبقتها وأوقفت الدروس، فتحولت المدرسة إلى مأوى كبير تنام فيه العائلات المشردة من بيوتها، وتعلق على جدرانها ملابس مبللة بدلا من اللوحات".
لقد وقعت الحرب… تمنينا لو كان ما نحن فيه الآن مجرد كابوس نصحو منه بعد قليل، لكن الكابوس طال كثيرا. استيقظنا على صوت قنابل تهز الأرض تحت أقدامنا، وتحولت حاراتنا إلى رماد، وغدا الحي كله كومة من دخان وغبار، وفي كل لحظة قد يعبر صاروخ من فوقنا أو تسقط قنبلة علينا.
غزة الجميلة كانت لوحة ملونة بالفرح والبهجة، تعج بيوتها بصخب الحياة، أمست بيوت غزة كالعصافير المذعورة، وصارت ترابا هامدا. صفرت ريح الخراب في الأحياء، كما غابت رائحة الزعتر، حتى السماء لم تعد زرقاء، صارت سوداء كأنها تلبس وشاحا من الحزن.
نعيش في خيام كالحة اللون، نصبت على عجل. في فصل الشتاء، تتمايل خيامنا كلما هبت الريح، وتصرخ إذا ما اشتدت، كأنها خائفة.
قررت مع أصدقائي أن نساعد الكبار والجرحى والنساء بسقيا الماء، فالماء أمسى شحيحا منذ أن نشبت الحرب. في كل صباح، نحمل دلاء بلاستيكية أو أي آنية نجدها فيما تبقى من خراب حولنا، ونقف في طابور الماء.
طويل طابور الماء كليالينا الباردة، ننتظر دورنا كي نملأ الأواني، ونسير في طريق وعر مملوء بالحجارة، ندعو الله ألا نتعثر وينسكب الماء الذي انتظرنا بالساعات ليأتي دورنا. فمنذ أن بدأت الحرب، لم يعد هناك ماء، ولم يعد هناك خبز أو طحين، وفرى الجوع والعطش أجسادنا.
لحظات ويقطع صوت الزنانة حالة الخوف المشوبة بالحذر. الملعونة لا تهدأ ولا تنام، ودائما ما تبحث عن شيء تفجره. نغطي آذاننا، لكن الصوت يخترق جلودنا، ولم يعد هناك أطفال في الشوارع يلعبون ويلهون ويضحكون. والآن، لا تسمع إلا أصوات صافرات سيارات الإسعاف، وصراخ الأمهات، وأنين الجرحى، وبكاء المنكوبين.
ويحدثنا يوسف عن أصحابه ويقول: "إبراهيم يحب الغناء، وله صوت جميل، وكانوا يختارونه ليغني الأناشيد الوطنية في الإذاعة المدرسية. ولجمال صوته، كانت الطيور تنتظر سماعه، وظل يشدو بصوته الشجي حتى أثناء الحرب، إلى أن سقطت قذيفة على بيتهم واستشهد والده وأخوه وبعض أقاربه.
جاء مع أمه وأخته الصغيرة ليسكن في الخيمة بجوارنا، ومنذ أن استشهد أفراد أسرته، انقلب إبراهيم إلى شخص صامت، ووجهه جامد كالصخر، لم يعد يغني، بل صار حزينا، دائما ما تغرق وجهه دموعُه. ومع ذلك، كانت هوايته أن يجمع أطفال الخيام ويعلمهم كيف يكتبون ويقرؤون الحروف، وكأنه يبني المدرسة من جديد".
"أما صديقي مصطفى، بطل التايكوندو، فقد كان يقودنا كل عام في البطولات المدرسية. ومع بداية الحرب، سقط صاروخ على منزلهم في أطراف الحي، وانتشل من تحت الأنقاض بإصابات بالغة، ووالده برجل مبتورة.
ومنذ ذلك الوقت، فقد القدرة على الكلام، لكنه لم يستسلم، فهو يدور ليربت على أكتاف الأطفال اليتامى، ويحملهم على كتفيه وبين ذراعيه القويتين، ويبتسم لهم، ويحرك عينيه وأنفه بحركات تضحكهم، ويساعدهم في ربط وتصليح حبال الخيام، وإزالة الحجارة والزجاج المتطاير من أثر القصف المستمر على خيامهم".
ويتحدث يوسف عن نفسه ويقول: "أما أنا، فأحب الكاميرا، وحلمي أن أصبح مذيعا مشهورا كي أستطيع تصوير جمال مدن فلسطين . كنت أقرأ النشرة المدرسية كل صباح، ورغم كل الدمار الذي لم يترك بيتا ولا حجرا في جدار إلا ونال منه، رغم كل هذا الدمار، أستعمل هاتفي المحمول الصغير وأصور ما يحدث في المخيم.
وكلما جاءت إشارة إنترنت صغيرة، أبث لكم الحقيقة، وأوثق يومياتي، وألاحق الطوابير والوجوه المتعبة، وأرسل للعالم صور أطفال لا يحملون البنادق، بل دلاء الماء والأحلام، لا يبحثون عن القتال، بل عن قطرة ماء.
سأجعل العالم يرى من هم أهل غزة، وماذا فعل العدو المحتل بنا، وحتى تضيع إشارة الاتصال، لا أضيع وقتا، وأشارك إبراهيم ومصطفى في نقل الماء وبعض المعونات التي تصلنا، ونقوم بتوزيعها على الأهالي في المخيم".
يا أصحابي، بقي قليل من شحن هاتفي، وليس هناك كهرباء في غزة، وقبل أن ينطفئ، سأحدثكم عما جرى قبل أيام. بينما كنا ننقل الماء، إذ سمعنا صراخا قويا، التفتنا، ورأينا لهبا يخرج من خيمة أم زيد.
وفي لحظة، تجمدتُ في مكاني وأنا أرى مصطفى وإبراهيم يقتحمان الخيمة، ويدخلان وسط النار والدخان، وسحبا طفلين صغيرين. وجريت وراءهما، وحملت طفلا رضيعا. خرجنا والدخان يملأ صدورنا، وجلسنا بوجوه لفحتها النيران وسودها الدخان، ولا نشعر بما أصابنا من جروح.
في تلك الليلة، عاد إبراهيم يغني، ويصدح صوته لأطفال المخيم بأغنيات غزة التي تحترق وتنهض. وأمسك مصطفى عودا، وكتب على التراب: "لقد عاد صوتي".
نظرنا نحوه غير مصدقين، ووقف يصرخ بصوت أدهشنا جميعا: "لن نخرج من أرضنا، سنطرد عدونا، ونحرر وطننا. سيغني إبراهيم لبحر غزة بصوته الجميل، وحتما سأفوز يوما بميدالية ذهبية في بطولة عالمية".
ضحكنا حينها وبكينا من الفرح، أحسسنا بشيء يلمع في صدورنا مثل شعاع شمس وسط الغبار، وفي تلك اللحظة ضممته بكلتا ذراعي، وأقسمت له: "سأنقل خبر فوزك للعالم كله".
وفي صباح اليوم التالي، استأنفنا العمل في نقل بعض المساعدات، وعدنا إلى طابور الماء. لكن القصف العشوائي عاد فجأة، فجرينا شمالا ويمينا، نحمل إلى الخيام العطشى والحزينة شيئا أنفس من الماء، نحمل الأمل الذي لا يقصف، ولا يحرق.
إنه الأمل وحده، الذي يجتمع عليه أطفال غزة، أملا في حياة ومستقبل أكثر عدلا وحرية.
وعن أسباب كتابتها لقصة (أبطال في طابور الماء) تقول المؤلفة د. أماني سليمان داود (أكاديمية وقاصة أردنية) للجزيرة نت: "كتبت هذه القصة لا ليقرأها الطفل وحسب، بل ليقرأها المواطن العربي والمواطن الغربي، وألقي ولو ضوءا ضئيلا على معاناة أطفال غزة، وتضيء وجها من وجوه مقاومتهم، وتؤكد تشبثهم بالأمل، بوصفه شكلا من أشكال البقاء، ومفتاحا من مفاتيح النصر، ولعلني أراها طرقة ولو خافتة على جدار الخزان، طرقة مني، وطرقة من كل من ساهم في إنتاج هذا العمل رسما وترجمة وإخراجا ونشرا، لعل الطرقات تعلو، والعالم يسمع".
وتتمنى "لعلنا إذا ما دققنا على جدار الخزان لا نموت، ولا ننتهي كما انتهى "رجال في الشمس" التي غزل كلماتها الجميلة الشهيد البطل غسان كنفاني… لعل كتابة القصة شكل من أشكال المقاومة بالكلمة، ولو جاءت خجلى. لا بد من صدى لها، وسنُسمع كل العالم صوتنا. ربما من هنا تأتي فكرة قصة (أبطال في طابور الماء)، ومن هنا تنطلق أصوات أبطالها يوسف ومصطفى وإبراهيم".
وتضيف سليمان "كتابة قصة (أبطال في طابور الماء) تجربة فريدة بالنسبة لي؛ إذ حضرت شخوص القصة إلى ذهني منذ شهور، وظلت تمور في داخلي؛ تغيب ثم سرعان ما تتجلى في كل طفل أراه في غزة أثناء متابعتي لما يجري هناك. كانت الشخوص تتضح ملامحها مع مرور الوقت في ذهني، ورغم الوجع والخراب الذي كنت أشاهده في مأساة غزة، فإن روح هذه الشخوص الثلاثة الذين غدوا أبطال القصة ظلت أرواحا قوية مشرئبة بالأمل، متمسكة بفكرة البقاء والانتصار، لا تنهار رغم ما واجهته من فقد لأقاربها الذين استشهدوا في الحرب، ومن إصابات بالغة بدلت بالضرورة شكل حياتهم إلى الأبد.
وتكمل الكاتبة أنه "مع قرب اكتمال تصوري لأبطال قصتي حضر مشروع المركز القومي للترجمة، بفكرته النبيلة ورؤيته الإنسانية الشفافة، حينها آن لشخوصي المتخيلين أن يعبروا من عتبة المخيلة إلى الواقع الفني الجمالي، ويتشكلوا حبرا على الورق.
فظهر (يوسف) الطفل الذي يحلم بأن يغدو إعلاميا في المستقبل؛ ينقل صورة وطنه وبهاء طبيعته، وسحر تفاصيله، وظهر (إبراهيم) صاحب الصوت الجميل الشجي الذي رغم استشهاد والده وأخيه وبعض أقاربه، ظل صوته -وإن فقده لبعض الوقت كرد فعل على الصدمة- يصدح بالغناء كأن الغناء شكل من أشكال المقاومة، ومحاولة للتصبر على المأساة.
كما ظهر (مصطفى) الفتى الرياضي الذي شاهد بعينه والده وهو ينتشل من تحت أنقاض بيته الذي سقط عليه، ورغم ذلك استطاع بروحه الأبية المقاومة أن يستثمر قوته البدنية في مساعدة الآخرين من حوله في حيه الذي غدا مخيما يكاد يتهاوى كلما اشتدت الرياح".
أبطال 3 شكلوا استعارات ورموزا للطفل الغزي الذي كان له بيت ومدرسة وأزقة أليفة يلعب فيها وسماء تظله بزرقتها الصافية، وهوايات محببة يمارسها يوميا، ثم مع مجيء الحرب تبدلت كل التفاصيل الجميلة، واندثرت الأحلام، فانقطعت أوصال الحياة الطبيعية، فصار لزاما على هؤلاء الأطفال أن يحملوا الكثير من عبء الحياة، وأن يتنازلوا عن طفولتهم في سبيل أدوار شاقة وجدوا أنفسهم مضطرين للقيام بها.
وتختتم المؤلفة حديثها بفلسفة طابور الماء في الحياة بكل دلالاته وفلسفته وتأويلاته، وتقول: "ندرك جميعنا ماهية الطوابير في اليومي والهامشي من حيواتنا الطبيعية، ولكن، كيف يغدو الطابور في الحرب؟! والأبطال في طابور الماء هم أبطال في طابور الحياة التي نصطف فيها، متشبثين باستحقاقنا لها لأننا لا نحب الموت بل نحب الحياة إذا استطعنا إليها سبيلا".
وما بين حياة أطفال غزة قبل الحرب وحياتهم أثناء الحرب التي ما تزال مشتعلة، تقف قصة (أبطال في طابور الماء) شاهدا على حقيقة مأساة صار لزاما أن تسجل كسردية ضد المحو، وضد الظلم، وضد زوال الرواية الحقيقية لصاحب الحق قبالة رواية العدو المحتل الزائفة، نعلي بها صوت الطفل الغزي، قد يكون مبحوحا لكنه الصوت الذي يتأبى الانطفاء، سردية تمثل شكلا من أشكال حفظ الذاكرة نوجهها لكل أطفال العالم، علهم ينتبهون لأطفال مثلهم يستحقون الحياة ويملكون حقوقا مساوية لهم تماما، علهم يسمعون بطفلنا المقاوم الذي وجد نفسه وحيدا يواجه العالم بصدر عار ومعدة خاوية، حيث غدا في الحرب بلا رغيف يقيم أوده وبلا جدار.