بغداد – كشفت الحفريات في شارع الرشيد التراثي وسط بغداد عن أقبية وسراديب قديمة تحت الأرض، تعود مجموعة منها إلى أواخر العصر العباسي وأخرى إلى العهد العثماني، وذلك أثناء عملية إعادة تأهيل الشارع لاستعادة رونقه التراثي.
وقد اكتشفت هذه الأقبية عند مدخل الشارع، خاصة قرب ساحة الميدان ومباني السراي القديم والمباني والمقاهي القديمة. وبيّن الباحثون أن تلك الأقبية هي امتداد بين العصر العباسي والعهد العثماني، اندثرت مع مرور الزمن لكنها ظهرت خلال الحفريات وعمليات ترميم وتأهيل الشارع المستمرة حتى الآن.
ويمتد شارع الرشيد، وهو أقدم شوارع بغداد، من منطقة الميدان قرب باب المعظم وحتى منطقة الباب الشرقي، مرورا بشارع المتنبي العريق وبساحة الرصافي والسوق العربي وساحة حافظ القاضي وحتى مبنى نقابة الفنانين التراثي. ويعتبر من أهم معالم المدينة بسبب تاريخه السياسي والروحي والثقافي.
وكان يعرف خلال العهد العثماني باسم شارع (خليل باشا جاده سي)، نسبة إلى خليل باشا، حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني، الذي قام بتوسيع وشق الطريق وجعله شارعا باسمه عام 1916، وذلك لأسباب حربية ولتسهيل حركة وحدات الجيش العثماني وعرباته وآلياته وأرزاق الجنود.
وخلال عمليات الحفر ظهرت تلك الأقبية للعيان، حتى ظن الأهالي أنها مدن كاملة تحت الأرض، لكن تبين فيما بعد أنها أقبية وسراديب عميقة بنيت منذ مئات السنين، لكنها اندثرت بفعل عوامل البيئة، وكانت تستخدم لأغراض شتى آنذاك.
وفي هذا الصدد، يؤكد مدير صيانة الآثار في وزارة الثقافة العراقية، محمد البياتي، للجزيرة نت أن غالب أحياء بغداد القديمة تقع فوق أحياء أقدم منها، خاصة أن تلك المنطقة، وهي شارع الرشيد، تعرضت إلى عمليات هدم للبيوت قبل شق الشارع مطلع القرن الـ20.
لذلك، هناك بقايا لدهاليز تحت الأرض تعود إلى البيوت القديمة، مبينا أن هناك تراثا مشابها تحت المطعم التركي في منطقة الباب الشرقي (باب كلواذا سابقا)، نهاية شارع الرشيد وسط العاصمة.
ويبين الخبير في الشأن التراثي، ياسر العبيدي، أن تلك الأقبية التي ظهرت تحت شارع الرشيد أثناء عمليات الحفر والتأهيل بينت وجود أكثر من سرداب، حيث يقدر العمر التاريخي لهذه الأقبية بما بين العصر العباسي المتأخر والعهد العثماني.
وقد شيدت البيوت هناك بعد عودة الحكم العباسي من سامراء إلى بغداد، مبينا أن بغداد المدورة تقع في جانب الكرخ، ولم تسكن الرصافة إلا في عهد الخليفة المهدي بن الخليفة أبو جعفر المنصور، حيث اتخذ جانب الرصافة مقرا للجند.
ويقول العبيدي للجزيرة نت إن تلك المنطقة المحصورة بين باب المعظم والباب الشرقي كانت مناطق سكنية، ومرت في تلك الحقب من التاريخ بعهد السلاجقة والبويهين، وشيدت فيها عدة أسوار وأبواب، منها باب المراتب وباب الآغا وباب بدر، وكانت تلك الأبواب موجودة قبل شق شارع الرشيد. لكن آخر والي عثماني، وهو خليل باشا، أمر بشق الشارع في 23 يوليو/تموز 1916 لأغراض عسكرية، خاصة أن مقر الدولة العثمانية كان قريبا من الشارع.
ويوضح العبيدي أن الوالي العثماني أزال قسما من البيوت القريبة من مقر الحكومة لشق الشارع، ودفع تعويضات مالية لأصحاب تلك المنازل، خاصة أن هناك بيوتا تعود إلى نهاية الدولة العباسية وحتى الدولة العثمانية المتأخرة.
وعن أسباب إنشاء تلك السراديب في ذلك الحين، يبين العبيدي أن الأجواء العراقية كانت حارة جدا صيفا، لذلك كان الأهالي يتخذون السراديب للنوم فيها كونها تكون باردة، إذ لم تكن في ذلك الحين وسائل تبريد أو تكييف، ولا حتى مراوح أو كهرباء.
وكانت هناك فتحات تسمى (باكير)، وهي عبارة عن فتحات واسعة من الأسفل وضيقة من الأعلى عند سطح الدار، لدخول الهواء البارد إلى السراديب. كما كانت تستخدم هذه السراديب لتخزين المونة للحفاظ عليها من التلف أو التعفن، مشيرا إلى وجود سراديب سرية للاختباء فيها من مطاردات السلطة أو المشاكل الاجتماعية.
وعن وجود مدن قديمة وسط بغداد اندثرت بفعل عوامل البيئة والزمن، يؤكد الباحث في شؤون التراث البغدادي، ستار الجودة، أن جميع المصادر التاريخية تشير إلى أن بغداد العباسية، وخاصة في جانب الرصافة منها والمنطقة المحصورة بين شارع النهر وحتى باب المعظم، هي بغداد القديمة، وتحتها سراديب. أما المنطقة التي ظهرت فيها تلك السراديب حاليا تحت شارع الرشيد، فهي متنفس للسراديب، بشهادة أهل المنطقة الذين عاصر أجدادهم تلك الحقب.
ويقول الجودة للجزيرة نت إن تلك المنطقة كانت فيما سبق تضم بيوتا قبل إنشاء الشارع أو شقه، وتعود إلى بناء أو تشييد منطقة الرصافة من بغداد التي شيدها الخليفة المهدي العباسي.
جدير بالذكر أن مديرية بلدية مدينة الكاظمية شمالي بغداد، وخلال تأهيلها شوارع منطقة الكاظمية في جانب الكرخ عام 2023، كشفت عددا كبيرا من السراديب الممتدة على طول شارع الإمامين الجوادين وحتى ساحة نصب الشاعر عبد المحسن الكاظمي، الأمر الذي يؤكد شيوع السراديب في مناطق بغداد القديمة.
—————————————————————————