في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في عام 2024، ضج الوسط الأكاديمي على إثر استقالة الفيلسوف آراش أبي زادة، الأستاذ بجامعة ماكغيل الكندية، من رئاسة تحرير مجلة فلسفية رفيعة المستوى وهي مجلة "الفلسفة والشؤون العامة"، إذ لم تكن هذه الاستقالة مبنية على رغبة شخصية منه بالانتقال إلى فرصة عمل أخرى، بل كان سببها الرئيسي هو ما وصفه آراش بالممارسات الاستغلالية التي ينتهجها الناشرون الأكاديميون الكبار.
آراش لم يكن وحده، بل غادر صحبة مجموعة من المحررين للأسباب ذاتها. وعقب استقالته، نشر آراش في صحيفة الغارديان نقدا لاذعا لصناعة النشر الأكاديمي التجاري، متهما إياها باستغلال الباحثين واستنزاف الأموال العامة مع تقييد الوصول الحر إلى المعرفة.
حيث يحقق الناشرون الأكاديميون الرئيسيون إيرادات بالمليارات مع هوامش ربح تقترب من 40%، ويقوم الباحثون بالجزء الأكبر من العمل -إجراء البحث والكتابة ومراجعة الأقران والتحرير- دون مقابل. ثم يبيع الناشرون إمكانية وصول الجامعات إلى تلك الأبحاث بأسعار باهظة في الغالب.
وأشار الرجل إلى أن هيمنة الناشرين التجاريين ضارة ببيئة النظام الفكري العلمي، خاصة في ظل الاهتمام بالكم على حساب الجودة، مما يؤدي إلى طوفان من الأبحاث منخفضة الجودة أو حتى المزيفة.
وعوضا أن تكون صناعة النشر الأكاديمي ميدانا لنشر المعرفة والبحث العلمي وخدمة المجتمعات العلمية والإنسانية، فقد أصبحت ميدانا للاستغلال والربحية المفرطة.
وحتى تتضح الفكرة للقارئ، فإن هذه المجلات وضعت محددات تزن بها معيار الجودة العلمية، مثل قدرة البحث على إحداث تأثير في المحيط العلمي، ووضعت لهذه مؤشرات، منها تكرار الاقتباس من الأبحاث المنشورة في المجلة، حيث تتبارى المجلات لإثبات أنها الأكثر صدى من خلال كثافة نقل أفكارها ونصوصها داخل المجتمع الأكاديمي.
وقد فرضت هذه المؤشرات سيطرتها على السياسات الجامعية وأنظمة التعيين والترقية والتثبيت، مما أدى إلى تشويه أولويات البحث، وانتهاج ممارسات لا أخلاقية في بعض الأحيان. فلم يعد ينظر للبحث بناء على خدمته للمجتمعات الإنسانية، بل بمدى تمكنه من التسلل إلى المجلات المصنفة لدى دور النشر الكبرى، بغض النظر عن حقيقة نزاهتها أو جودتها.
تكشف هذه المقالة البحثية كيف تحول مؤشر بسيط إلى أداة تستخدم لإقصاء الباحثين، وتشكيل النظام الأكاديمي، وفق معايير رأسمالية استغلالية بحتة.
وتزيح هذه المقالة النقاب عن ممارسات تضليلية وفضائح علمية، اُستغل فيها المؤشر (وأمثاله)، لتلميع صور مؤسسات أو أفراد، مقابل تغييب الاعتبارات العلمية الحقيقية الأصلية.
وتسعى المقالة إلى المشاركة في جهود اليقظة العلمية والإصلاح الأكاديمي والمعرفي، من خلال تبيان خلفيات وآليات الاستغلال والتضليل، وإبراز الدعوات الواعية لاستحياء بدائل علمية وأخلاقية تعيد للبحث العلمي روحه وتألقه، ودوره التنويري في المجتمعات الإنسانية، وتعزيز العدالة المعرفية ونشرها، في مواجهة قوى احتكار المعرفة وتسليعها، لمصالح رأسمالية ناعمة التوحش.
معامل التأثير هذا في مسيرته وسيرته يشبه مقاييس الذكاء التي استخدمت ابتداء لمساعدة الجنود المتعثرين والرفع من سويتهم، وليس بوصفه أداةَ تنميط للبشر واستخدامه مقياسا تحيزيا إقصائيا كما حصل لاحقا.
وقد ظهرت فكرة القياس تاريخيا عبر المحاولات العلمية لتفسير وفهم الظواهر المختلفة في المجتمع والإنسان، حيث اعتمد العديد من العلماء والمفكرين على الأساليب العلمية والأعداد لقياس الصفات والخصائص، بهدف الوصول إلى قوانين عامة أو مبادئ تعبر عن الواقع بشكل دقيق.
وفي بداية ما يسمى غربيا بـ "عصر العقلانية" (حصلت فيها عدة حروب كبرى من العالميتين الأولى والثانية) ساد اعتقاد أن القياس الموضوعي باستخدام الأدوات الإحصائية والأرقام يضمن فهما علميا وموثوقا، وأن الحقائق يمكن ترتيبها وتفسيرها من خلال عمليات قياس دقيقة.
وقد أدى هذا الاهتمام إلى تطور الممارسات العلمية التي ترى أن الكم والمعادلات الإحصائية تعبر عن منهجية علمية حقيقية، وأن المجتمع العلمي يتجه نحو تبني معايير كمية لبيان السلوك والظواهر، مما يعكس اعتقادا راسخا بأن كل شيء يمكن قياسه وتفسيره بواسطة أدوات كمية موثوقة.
تاريخيا، تم استحداث معامل تأثير المجلات للتمييز بينها لغاية الاشتراكات في المكتبات الجامعية وخاصة في الأميركية منها. حيث تكاثرت المجلات، فبرزت فكرة أنه لا بد من الاختيار وفقا لمعايير محددة. فكان استحداث هذا المقياس باعتبار أن المجلة الأكثر استشهادا بما ينشر فيها، هي أكثر شهرة أو أهمية، ولذلك يسمي البعض معامل التأثير بمعامل الشهرة أو الشعبوية.
ويقول يوجين غارفيلد، مخترع هذا المقياس، "أول مرة ذكرت فيها فكرة معامل تأثير المجلات كانت سنة 1955، حيث أنشأنا، أنا وإرفنغ، معامل تأثير المجلات، وذلك للمساعدة في اختيار المزيد من المجلات المصدرية".
من ناحية أخلاقية وبخصوص تضارب المصالح، فإن غارفيلد يصرح أنه يمتلك أسهما في شركة ثومسون-رويتر (حاليا كلاريفيت)، صاحبة المعامل، وأنه أحيانا يتقاضى مكافآت على خدمات يقدمها لهم". ومن ناحية أخرى يشير بنزمان، في دراسته سنة 2006، إلى أن غارفيلد أنشأ هذا المقياس وغيره من المقاييس من خلال شركته.
وللعلم فقد كان غارفيلد شخصية رئيسية في تأسيس علوم المعلومات الحديثة، حيث اخترع فهرسة الاقتباس وابتكر عامل التأثير. وأدت مساهماته إلى تطوير فهرس الاقتباس العلمي ومؤشر الاستشهاد بالعلوم الاجتماعية من خلال شركته المساهمة: معهد المعلومات العلمية. وبحلول الوقت الذي ألقى فيه محاضرته في عام 2005، والتي نشرت في عام 2006، كان يشغل منصب الرئيس الفخري للشركة التي استحوذت عليها كلاريفيت قبل بضع سنوات.
وتشير المصادر التي تتحدث عن تاريخ هذا المعامل، إلى أن الغاية الأساسية لاستحداثه هي مساعدة المكتبات الجامعية في عملية اختيار المجلات نظرا لتكاثرها ومحدودية الميزانيات، وهذا ما أشار إليه مؤسس المعامل.
إذ يقول غارفيلد إن "عامل التأثير ليس أداة مثالية لقياس جودة المقالات، ولكن لا يوجد ما هو أفضل منه، وبالتالي فهو أسلوب جيد للتقييم العلمي. لقد أظهرت التجربة أنه وفي كل تخصص، فإن أفضل المجلات هي تلك التي يصعب فيها قبول المقالات، وهذه هي المجلات التي لديها عامل تأثير مرتفع. وكانت معظم هذه المجلات موجودة قبل فترة طويلة من ابتكار عامل التأثير. إن استخدام عامل التأثير كمقياس للجودة واسع الانتشار لأنه يتناسب بشكل جيد مع رأينا في كل مجال من مجالات أفضل المجلات في تخصصنا".
والمعادلة البسيطة لحساب المعامل هي في قسمة جميع الاستشهادات للمقالات المنشورة في مجلة ما (لآخر سنتين) على عدد المقالات المنشورة فيها. حيث يشير هذا إلى الأهمية الحالية للمجلة المحددة.
ومع الزمن تبينت أهمية المعامل (ولكن في غير ما أوجد له)، وتبين أيضا أنه يمكن أن يكون مصدرا للثروة، وذلك بتعظيم المعامل للمجلات التي تتبع للناشرين الكبار.
وتبين أيضا أنه يمكن التلاعب به ("إن الإنسان ليطغى…")، وذلك لبساطة المعادلة، حيث يمكن التلاعب بالبسط أو المقام. في المقام الأمر بسيط، وعلى عكس عبارة الترحيب التقليدية (يكبر مقامك)، هنا "يخفض المقام"، وببساطة يحدد ناشرو المجلات عدد المقالات المنشورة، فينخفض المقام. ومن ناحية أخرى التلاعب في المدخلات (البسط)، بنوع المقالات، والاستشهاد الذاتي، واشتراط المجلات الإشارة إليها وإلى مقالاتها، وما يعزز من موقفها!
وقد أصبح هذا المعامل وحشا كاسرا من جهة، ومعين ثروة (لا تنضب لغايته مع كرم الجامعات) من جهة ثانية، وكثر ناقدوه ومستغلوه في الوقت نفسه، لذلك جرت محاولات (ترويض الوحش)، كما قال البعض، ولكن "هيهات"، فالوحش أصبح له مربوه ورواده والمنتفعون منه وبه.
وغارفيلد نفسه يحذر من سوء الاستخدام، وذلك من أن "استخدام معامل تأثيرات المجلات في تقييم الأفراد له مخاطره الكامنة. في عالم مثالي، سيقرأ المقيمون كل مقال ويصدرون أحكاما شخصية..".
ورغم هذا التحذير وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، أصبح معامل تأثير المجلة مقياسا حاسما في النشر العلمي، مما أثر بشكل كبير على الباحثين وأمناء المكتبات والمؤسسات الأكاديمية. ومنذ عام 1995، أثار التركيز المتزايد على المعامل مخاوف أخلاقية، حيث يقوم الباحثون بتعديل إستراتيجيات النشر الخاصة بهم لتعزيز المعامل الخاص بهم.
وقد يتلاعب المحررون بالتصنيفات، وبالتالي تقويض النزاهة العلمية كما أوضح ذلك، حيث قدما تلخيصا لأهم مجالات النقد والنقض، وهي على النحو التالي مع بعض التصرف:
ربما أكثر فئات البشر عرضة للاستغلال هم المنتجون، سواء المنتجون الزراعيون، والصناعيون (إلى حد ما)، أو منتجو الأفكار (الباحثون والمؤلفون)، وعموم المستهلكين، وعلى نحو عام أصحاب الموارد بما في ذلك البلدان التي فيها موارد طبيعية (بترول، ذهب، معادن، مياه..)، إلى أن درج القول في أدبيات التنمية "لعنة الموارد".
الموارد تكون نقمة على أصحابها، إن لم يكونوا قادرين على الاستفادة منها وحمايتها. هؤلاء هم الذين ينتجون مختلف المنتجات ولكنهم الأقل استفادة منها، وربما كانت استفادتهم طفيفة مقارنة مع الوسطاء والمطورين والموزعين.. وغيرهم، إذ إن الفئات المستغلة في الغالبة منظمة بشكل كبير على شكل اتحادات أو غرف، أو منظمات أو كارتيلات. ولكن الأكثر عرضة للاستغلال (على نحو عام) هم منتجو الأفكار، والباحثون والمؤلفون والكتاب والأدباء.. وغيرهم.
يستحوذ الناشرون الستة الكبار، على ما يقارب 70%-80% من سوق النشر الأكاديمي، ولديهم ثروات تتجاوز عدة مليارات من الدولارات سنويا. وهم يلعبون دورا مستحكما في تحديد (تقييد) إمكانية الوصول إلى البحث لكل من المجتمع الأكاديمي والجمهور.
وفي مجال النشر العلمي فإن الأكاديميين والباحثين (بمختلف مستوياتهم وتخصصاتهم وطبيعة إنتاجهم)، هم فئة شبه مستضعفة ومستغلة إلى حد كبير. والمستغل الأكبر هم دور النشر الكبرى (والصغرى)، وأي مؤلف أو باحث له تجربة مع الاستغلال من دور النشر، حتى تلك التي يفترض أن لها توجهات أخلاقية.
لننظر في سلسة إنتاج الفكر والبحث العلمي (سلسلة الإنتاج والتوريد والتوزيع..)، مثلا صندوق دعم البحث العلمي أو أي هيئة مماثلة، وفي أي بلد أو جامعة، يمولون بحثا ما، ويشترط النشر العلمي، والباحث يعد مقالا أو أكثر ويرسلها لمجلة علمية محكمة (يشترط في مجلات مصنفة في قواعد بيانات محددة "سكوبس" أو معهد المعلومات العلمية).
قاعدة البيانات الشهيرة، المشهورة سكوبس، والتعبير في الأصل إغريقي ثم يوناني فإنجليزي، تعني في جذرها الاستشراف، أو النظر الفوقي، ومن هنا جاء اسم جبل المشارف في القدس (ماونتين سكوبس)، وهو الجبل الذي أسست عليه الجامعة العبرية، وافتتحت في الأول من أبريل/نيسان 1925، بمبادرة من أينشتاين ووايزمان وآخرين، وبتخطيط يعود للقرن الـ19.
وقبل الإرسال هناك عملية إعداد المقال للنشر وهذا يتطلب التحرير والترجمة والتدقيق (دور النشر تقدم هذه الخدمة باعتبارها خدمة مدفوعة ومكلفة)، ثم إذا كان المقال سعيد الحظ يرسل للتحكيم، وبعد التحكيم تعديلات، وغيرها، وهذه مكلفة أيضا.
وإذا قُبل المقال للنشر، توجد رسوم للنشر، لا مشكلة. وبعد النشر، ربما يعطي المؤلف نسخة أو يتاح له الوصول إليها. ولكن على المكتبات الجامعة والباحثين والمهتمين شراء المقال إذا رغبوا في ذلك، فهو قد أصبح ملكية للناشر، وليس للباحث، أي أنك كباحث أو كمؤسسة ممولة للأبحاث، تقوم بشراء إنتاجك العلمي من الناشر، وهو الإنتاج المكلف ماديا ومعنويا ويكلف وقتا.. وغيرها، والأكاديميون في ضنك وضغط من مؤسساتهم التعليمية التي وقعت في فخ أوهام العالمية، بما لا يحتمل ومما أدى بهم إلى سلوك سبل ملتوية للنشر، نشير إليها لاحقا بمشيئة الله تعالى.
هل يوجد استغلال أكبر من هذا الاستغلال؟ لذلك لا عجب أن يكون شعار "إلسفير"، شخص يقطف ثمار شجرة، وهم يدّعون أن هذا هو رمز للعلاقة بين الباحث والناشر. ولكن الحقيقة هي استغلال ثمار عمل الآخرين والمتاجرة بها. ولا غرابة في ذلك فإن دور النشر وكبرى الشركات تعمل على الاستحواذ على أي منافس وخاصة أولئك الذين يمكن أن يعارضوا رأسماليتهم المتوحشة!
وقد اشتهرت إلسفير بتقييد تدفق المعلومات العلمية بحيث يمكنها بيع الأوراق البحثية مقابل ما يصل إلى 50 دولارا لكل منها، مما يولد هوامش ربح تبلغ 36%، ويحقق للشركة مليارات الدولارات من الإيرادات سنويا.
حاربت الشركة التشريعات المصممة لإتاحة النشر العلمي والبحث للعموم، وعرضت على العلماء أموالا لتقديم مراجعات إيجابية لصالحها، ورفعت دعوى قضائية ضد المكتبات لمشاركتها أكثر من اللازم، كما أنها عارضت أن يضع العلماء منشوراتهم على مواقع خاصة بهم أو بجامعاتهم.
ففي عام 2013 ، استحوذت إلسفير على شركة "ميندلي"، وهي شركة بريطانية، تصنع برامج لإدارة الأوراق البحثية ومشاركتها، وقد تأسست في أواخر عام 2008، من قِبل 3 من العلماء البارعين في مجال التكنولوجيا، وأصبحت ميندلي نوعا من أيقونة العلماء المتمردين لإنتاج المعرفة ونشرها، ولكن كانت إلسفير لها بالمرصاد، حيث أغلقت فضاء للمشاركة المفتوحة وضمت هذه الشركة إلى منظومتها، بل يشير "دوبس" في دراسته سنة 2013، إلى عملية الاستحواذ بما معناه أن شركة إلسفير "التهمت"، شركة ميندلي، ويشير إلى أن العديد من مستخدمي ميندلي شعروا كما لو أن "إمبراطورية المجرة احتوت تحالف المتمردين" (ضدها)، وهو نص مقتبس من حرب النجوم إشارة إلى أن الخطب جسيم!
وقد كسبت إلسفير من عملية الاستحواذ هذه على غنيمتين: الحصول على بيانات مستخدمي ميندلي، والأهم كما يُذكر هو تدمير أيقونة العلم المفتوح التي تهدد نموذج أعمالها." ولمزيد من التحكم أيضا يشير أبي زادة، في مقاله في مجلة الغارديان 2024، إلى أن دور النشر الكبرى عملت على الاستحواذ على المجلات رفيعة المستوى التي تصدرها الجامعات، مما أحكم حلقة الاستغلال بمنظومة رأسمالية لا مثيل لها.
هذا المصدر السريع للثروة، دون رأسمال كبير أو إجراءات أو بنى أساسية مكلفة، جعل الكثير من الأفراد ينشئون مؤسسات نشر ومجلات خاصة لهم، حيث يعملون على تحقيق شروط التصنيف في سكوبس أو غيرها، وهذا يمكن أن يتحقق خلال سنتين، وثم بعدها يبدأ الانقضاض، والطلب موجود وزائد عن أوعية النشر الموجودة!
ومن ثم تبدأ الشركة عملها (جمعة مشمشية)، تقوم بالنشر المخالف للإجراءات وتفرض رسوما عالية للنشر السريع. وهذه المجلات تصطاد الزبائن من أعضاء هيئة التدريس والباحثين من الجامعات التي تسعى نحو العالمية وتحسين صورتها، محليا وعالميا، وفي الغالب يكون لها مندوبو تسويق من العاملين في الجامعة وغيرهم، كما خبرنا.
وللأسف فإن الجامعات تقبل المنشورات في هذه المجلات لأنها مصنفة في قاعدة بيانات "سكوبس" المقدسة، أو نظيرتها كلاريفيت وريثة معهد المعلومات العلمية، ولكن بعد فترة يتبين أن هذه المجلات هي مجلات انتحارية (وانتهازية أيضا)، ومن ثم تطرد من سكوبس وغيرها.
ومسلسل الطرد مستمر. ولا مشكلة فالمبادرون، رواد النشر العلمي، جاهزون لتأسيس مجلات جديدة، ولأبناء جلدتنا نصيب من هذا المصدر السريع وغير المكلف للثروة. والذي يجعل هذا السلوك مستمرا هو استمرار ضغوط الجامعات على أعضاء هيئة التدريس للنشر السريع، كما هو مبين أدناه.
تحت ضغوط العالمية وأوهامها، ومعايير الجودة والاعتماد الدولي، والرغبة في التفوق وأخذ مكان تحت شمس المعرفة والنشر العلمي، وقعت الكثير من الجامعات في مختلف دول العالم (وخاصة في عالمنا العربي)، تحت ضغوطات موضات النشر، والاتجاهات السائدة من مقاييس ومؤشرات، وتصنيفات.
ومع الوقت انزلقت تعليمات التعيين والترقية إلى استدماج معايير النشر وخاصة المتعلقة بمعامل التأثير، وما تبعه من مؤشرات وعوامل، (تصحيحية أو منافسة). بما في ذلك استخدام نظام النقاط في التعيين والترقية والرفع من الرقم المطلوب من النقاط للرتب المختلفة، مع تحيز واضح للمجلات المصنفة في قواعد بيانات شركات النشر الكبرى. فكان النشر العالمي هو الهدف الأكبر للجامعات وليس مضامين البحث أو مدى خدمته للمجتمع المحلي.
لذلك، فإن نظم الترقية في الجامعات شاركت من غير قصد في تقزيم البحث العلمي وإبعاده عن احتياجات المجتمع. وكما يشعر به المراقب، تلطخت روح البحث العلمي ومصداقيته، وفقد غايته وروحه.
وقبل عقود من الزمن قال أحد فلاسفة العلم "يا للخسارة، بعد أن وثقت الجماهير بالعلم، فقد العلماء ثقتهم به"، وما الحال الآن لو رأى الوضع الذي فيه المعرفة الإنسانية؟
هنا العتبة، وصرامة التعليمات ومصاحبتها بالترغيب والترهيب، ضغطت على الأساتذة والباحثين، حيث انزلقوا إلى سوق النشر السوداء والزائفة، بحثا عن النشر في تلك المنافذ بأي وسيلة ممكنة، سواء بالبحث العلمي الرصين، أو المشاركة مع الآخرين، أو تبادل المنافع، أو الركوب المجاني أو الخيري.
تبادل المنافع، واستئجار من يكتب وينشر، والأسوأ الدفع للمجلات الزائفة والانتحارية، والوقوع ضحية لمنتهزي الفرص صانعي المجلات ودور النشر الزائفة أو المقرصنة، أو الانتحارية كما ذكر آنفا.
وهنا تجد في ملفات الترقية لأعضاء هيئة التدريس مشاركات بحثية غريبة مع باحثين من دول شتى ولموضوعات غريبة. والأمثلة كثيرة على هذه السلوكيات.
فلا تعجب إن كنت عضوا في لجنة معنية بالتعيين أو الترقية، أن يكون المرشح أمامك لا يعرف عناوين مقالاته باللغة الإنجليزية والمنشورة في مجلات رفيعة المستوى، والأدهى من ذلك ربما لا يعرف أحدهم عنوان أطروحته، وأحدهم يسألك كيف تكتب سكوبس، وهو ناشر فيها عدة مقالات.
لذلك، فإن حمى النشر هذه، والممارسات غير الأخلاقية في النشر، مهدت السبيل لدخول أعضاء هيئة تدريس للجامعات، وترقيتهم إلى رتب عليا، ومن ثم احتلالهم (نعم احتلالهم) لمواقع أكاديمية وإدارية متعددة المستويات، وأصبحوا وصاروا يتحكمون في مصير جامعات وكليات وربما أساتذة كرام وباحثين حقيقيين.
وللأمانة إن تسلل هؤلاء للجامعات، بعد أن فترت جدران الحماية، تعزز بالمصالح الانتخابية أحيانا والمصلحية وتبادل المنافع، واعتماد الولاء على الكفاءة والإخلاص، (في بعض الدول).
الأكاديميا عبارة عن قبائل شتى لها عاداتها وتقاليدها وأعرافها الصارمة، التي تسير المعرفة في فترة زمنية ما، وما يتعلق بها من بحث. ومن يخرج عن هذه الأعراف "فليس منا.."، والتقدم الذي يمكن أن يحصل أو الاختراقات العلمية، هي في عملية التحرر من هذه القيود الأكاديمية وأعرافها القاهرة، (يُنظر في ذلك بنية الثورات العلمية لتوماس كون)
إن هوس العالمية وحمى الظهور، فتحت المجال لمظاهر وسلوكيات غير حميدة عند فئة من الناس تعتبر في نخبة النخبة والصفوة.
كم يحز في النفس مرارة وأسى وكل المشاعر السلبية أن ترى عميدا لكلية عريقة، في إحدى جامعاتنا يعلق في مكتبة شهادة (رجل العام!)، ويحتفي ويحتفل بها وتتوارد عليه التهاني من أقاربه وأصدقائه وزملائه، وتلك الأستاذة التي تحصل على جائزة تميز في البحث العلمي على نطاق إقليمي، أو عالمي، وهذا وهذه وذاك يضعون إعلانات أنه تم اختيارهم أعضاء في هيئات تحرير وأنهم من ضمن أعلى الباحثين في العالم استشهادا (وأحدهم من أهل 2% في إحدى مؤسسات التعليم العربية لم يستطع تجاوز متطلبات الترقية إلى أستاذ مشارك).
والأمثلة المحزنة كثيرة على هذه الشهادات التي يتم الحصول عليها بدولارات معدودة؟؟ أإلى هذا الحد وصل التباهي والتفاخر بأوهام الصدارة والعالمية، ومن قبل بعض الأكاديميين.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
أبو الحسن الجرجاني
ظهرت فضائح كبيرة وكثيرة تورط فيها العديد من الجامعات، التي تتعاقد مع باحثين من غير منتسبيها، وتدفع لهم مبالغ كبيرة (تصل إلى 70 ألف يورو سنويا)، بالإضافة إلى نفقات السفر لإدراجها زورا كانتماءات أساسية لتعزيز تصنيفاتها العالمية بشكل مصطنع، لا سيما في قائمة الباحثين الذين تم الاستشهاد بهم بشكل كبير في كلاريفيت وتصنيف شنغهاي الأكاديمي.
وتضمنت هذه الممارسة، التي ارتفعت في أوائل عام 2010، ما لا يقل عن 61 من كبار الباحثين في مؤسسة واحدة، مما أدى إلى تضخيم المنشورات والاستشهادات بشكل مصطنع. وبعد افتضاح الأمر في عام 2023، أزالت كلاريفيت أكثر من ألف باحث من قائمة الباحثين الذين يتم الاستشهاد بهم بشكل كبير، مما أدى إلى انخفاض بنسبة 30% في "إتش سي آر إس" المنتسبين.
التحقيقات جارية، حيث أوقفت العديد من المؤسسات أعضاء هيئة التدريس المتورطين في الحادث. وتسلط هذه الفضيحة الضوء على نقاط الضعف في المقاييس القائمة على الاقتباس وقابليتها للتلاعب، مما يعكس مخاوف أوسع بشأن النزاهة الأكاديمية.
وأذكر أنني كنت قبل سنوات عضوا في تحكيم إحدى الجوائز العربية للباحثين، حيث تم التعريف بأحدهم أنه نشر 60 بحثا في ذلك العام، أي كل أسبوع بحث وربع، وأمثاله عديدة، بما لا يسع العقل والواقع تصديقه، لكن هناك جامعات تحتفي بمثل هذا، ولا ترى أنه يخالف العقل والمنطق والخبرة الإنسانية.
هنا تقع المصيدة، أو المصيبة! في الأصل المجلات لا غبار عليها، ولكنها بعد أن يكتشف حالها، يتم سحبها أو طردها من سكوبس وغيرها، ولكن بعد فوات الأوان. كل سنة يتم طرد أعداد كبيرة من المجلات من سكوبس وغيرها، وذلك لأسباب شتى أهمها مخالفات مهنية ثم منهجية وإجرائية.
وتتعدد أسباب طرد المجلات، والتي تصل إلى المئات وفي العديد من التخصصات، معظمها بسبب سوء السلوك والاحتيال، ونشر أبحاث غير موثوقة، وعلى أسس يحتمل أن تكون غير صحيحة، وأموال وموارد مهدورة (خاصة في الطب والعلوم والمهن ذات المساس بالإنسان وصحته وحياته).
وكما يشير راباني في دراسته عام 2020، فالأهم من ذلك، فإن هذه الممارسات تزيد من خطر العلاج غير الصحيح للمرضى، ويمثل الاستشهاد بالأوراق التي تم سحبها قضية مهمة للمجتمع العلمي، (والتي تحتاج لمقالات خاصة).
كما أنه أيضا تسحب عبر الزمن مئات بل آلاف المقالات من المجلات وخاصة الرصينة منها، لتلك الأسباب التي تطرد فيها بعض المجلات، أو إذا كانت المجلة رصينة حقا، فقط تسحب المقالات، وكأنها لم تكن. ولكن للأسف تكون قد أحدثت تأثيرات جمة على حياة الناس، خاصة إذا كانت في مجالات تهم صحتهم ورفاههم.
هذه المجلات سماها أحد المعنيين في إحدى جامعاتنا بالمجلات الانتحارية. وأصحابها يعلمون هذا المصير، لكنها في فترة انتمائها لسكوبس وغيرها تكون قد حققت ملايين الدولارات ولا يهم أصحابها بعد ذلك الطرد أو الإخراج من قواعد البيانات.
وهذا الأمر مستمر، ما دام سيف النشر العالمي الصارم مسلطا على الباحثين وأعضاء هيئة التدريس، وما دامت الجامعات (وخاصة جامعاتنا في عالمنا العربي)، ماضية في درب العالمية الهش، لا بد من يقظة وانتفاضات على هذا الواقع.
ينبع التمرد المتزايد ضد النشر الأكاديمي التجاري من الإحباط المتزايد بين أعضاء هيئة التدريس والمؤسسات بشأن ارتفاع أسعار المجلات والسياسات التقييدية والممارسات الاستغلالية.
وهذه الانتفاضات أو الثورات آخذة في النمو في الجامعات ومختبرات الأبحاث، مدفوعة بقدرة الإنترنت على إتاحة المعلومات على نطاق واسع.
فالتقنيات الرقمية مكنت الجامعات والباحثين من إعادة النظر في اعتمادهم على المجلات باهظة الثمن، خاصة أن المكتبات تكافح من أجل تحمل تكاليف الوصول والإتاحة، ويشعر العلماء بالانفصال عن أنظمة النشر التقليدية.
ولكن كارتيل النشر، حتى نماذج الوصول المفتوح غالبا ما تعيد إنتاج التسليع والسيطرة الهرمية تحت ستار التحول الديمقراطي. وتسلط وجهات النظر هذه الضوء معا على الحاجة الملحة للإصلاح الهيكلي من خلال بدائل غير تجارية يقودها الباحثون وممكنة رقميا تعيد النزاهة وإمكانية الوصول والاستقلالية للتواصل العلمي.
نظرا لهذا الوضع الاحتكاري الاستغلالي المفرط لصناعة النشر العلمي، وتجبر كارتيل النشر (الطفيلي على رأي جمعية فيزيائية)، فقد برزت عدة محاولات لمقاومة هذا الاحتكار الغريب. وإضافة إلى المقالات الأكاديمية، والصيحات الفردية والمؤسسية، لكن ظهرت جهود مؤسسية جماعية للتصدي، ونذكر منها:
جاءت فكرة هذا الإعلان في اللقاء السنوي للجمعية الأميركية لعلم الأحياء الخلوي، وذلك في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا 2012. حيث يشير الإعلان إلى الحاجة الملحة لتحسين طرق تقييم مخرجات البحث العلمي من قبل وكالات التمويل والمؤسسات الأكاديمية وأطراف أخرى.
وتضمن الإعلان حزمة من التوصيات، يشار إليها باسم "إعلان سان فرانسيسكو حول تقييم البحوث”. ودعا المشاركون الأطراف المعنية من جميع التخصصات إلى دعم هذا الإعلان بإضافة أسمائهم إليه".
تم التوقيع على الإعلان من قبل أكثر من 2400 منظمة، بما في ذلك الجامعات ووكالات التمويل وبعض الناشرين الكبار، والمجال مفتوح للتوقيع وأنا شخصيا وقعت على هذا الإعلان، ويشير موقع دورا إلى أنه لغايته تم التوقيع على الإعلان من قبل ما يقارب 270 ألفا من الأفراد والمؤسسات.
وفي ما يلي اقتباسات من هذا الإعلان (بتصرف قليل): "لا تستخدم المقاييس المستندة إلى المجلات، مثل عوامل تأثير المجلات، كمقياس بديل لجودة المقالات البحثية الفردي، لتقييم مساهمات العالم الفردي، أو في قرارات التوظيف أو الترقية أو التمويل هناك حاجة ملحة لتحسين طرق تقييم مخرجات البحث العلمي من قبل وكالات التمويل والمؤسسات الأكاديمية وأطراف أخرى".
وكذلك: "إن مخرجات البحث العلمي كثيرة ومتنوعة، وتشمل: مقالات بحث تنبثق عنها معارف جديدة، أو بيانات أو كواشف كيميائية أو برمجيات حاسوبية، وأعمال فكرية إبداعية، وعلماء شباب مؤهلون تأهيلا عاليا، إلخ. وهناك رغبة وحاجة، لدى وكالات التمويل والعلماء أنفسهم والمؤسسات التي توظفهم، إلى تقييم جودة المخرجات العلمية وتأثيرها. لذلك، من الضروري قياس الناتج العلمي بدقة وتقييمه بحكمة".
ويضيف الإعلان: "كثيرا ما يستخدم معامل تأثير المجلات العلمية كمعيار أولي لمقارنة الناتج العلمي للأفراد والمؤسسات. وقد تم بالأصل إنشاء هذا المعامل، الذي تقوم بحسابه الآن شركة "كلاريفيت أناليتكس"، كأداة لمساعدة أمناء المكتبات على تحديد المجلات المرغوب بشرائها أو الاشتراك بها، وليس كمقياس للجودة العلمية.
آخذين ذلك في الاعتبار، من الضروري فهم أن استخدام معامل التأثير كأداة لتقييم البحث تشوبه كثير من العيوب التي أُسهِب فيها كثيرا، نذكر منها ما يلي: خلل كبير في توزّع الاقتباسات بين المجلات المختلفة (يُستشهد ببعض المجلات أكثر من غيرها)، واعتماد خصائص معامل التأثير على مجال التخصص: فهو حصيلة أنواع متعددة من المقالات، كالمقالات البحثية والمراجعات النقدية إلخ، إضافة إلى إمكانية التلاعب بقيمة معامل التأثير من خلال سياسة التحرير، كما أن البيانات المستخدمة لحساب معامل التأثير غير مُتاحة للعموم وتفتقد إلى الشفافية".
وقدم الإعلان العديد من التوصيات بهدف "تحسين الطريقة التي يتم بها تقييم جودة مخرجات البحوث. وستزداد مستقبلا أهمية المقالات غير البحثية في تقييم فعالية البحث، ولكن تبقى المقالات المُحكّمة محورية في تقييم البحث.
وترتكز توصياتنا هنا في المقام الأول على الممارسات المتعلقة بالمقالات البحثية المنشورة في مجلات علمية مُحكّمة، ولكن يمكن، بل ينبغي، توسيعها لتشمل الاعتراف بمنتجات علمية أخرى، مثل قواعد البيانات، باعتبارها مخرجات بحثية مهمة. وتستهدف هذه التوصيات وكالات التمويل والمؤسسات العلمية والمجلات والمنظمات التي تقدم المقاييس العلمية، والباحثين الأفراد".
ويا ليت قومي المعنيين بالبحث العلمي والتعليم العالي على نحو عام أن يطّلعوا على هذه الجهود العظيمة في سبيل ترشيد عملية البحث العلمي والنشر بطريقة مثلى.
وقعت الكثير من الجامعات في منطقتنا العربية في وهم كبير هو العالمية، ظنا أن دعاوى العالمية ومنظماتها وقوانينها وقيمها وأفكارها هي قيم عالمية تشمل جميع البشر (الأوروبية)تدعو مبادرات الإصلاح الشهيرة، مثل الخطة "إس" في أوروبا، التي يقودها تحالف من وكالات البحث الوطنية والممولين، إلى أن تكون جميع الأبحاث الممولة من القطاع العام متاحة مجانا. في الوقت نفسه.
وقد لعب مركز العلوم المفتوحة، وهو لاعب رئيسي في تعزيز الشفافية وقابلية التكرار في البحث، دورا حاسما في دعم حركات الوصول المفتوح هذه. نظرا لأن النشر الأكاديمي يقف على مفترق طرق، يجب أن يعطي الطريق إلى الأمام الأولوية لنشر المعرفة بشكل غير مقيد وعادل.
وتتوقف حيوية وفعالية الخطاب الأكاديمي على ذلك. ويعد تحديد ممارسات النشر الاستغلالية والقضاء عليها أمرا بالغ الأهمية لصحة البحث الأكاديمي والتبادل الفكري العالمي، وتتطلب مبادرة الوصول المفتوح للخطة "إس" من الباحثين، الذين يتلقون بعض المنح، النشر في المجلات ذات الوصول المفتوح بحلول عام 2020.
لكن دور النشر، تذكرني بنقاشات مع البنك الدولي ، حين تحتدم الأمور، يقول مسؤولو البنك، إن البنك هو بنك تجاري وليس جمعية خير، وهذا أيضا ما قاله متحدث باسم إلسفير: "إذا كنت تعتقد أن هذه المعلومات يجب أن تكون مجانية، فانتقل إلى ويكيبيديا"، فالمعلومات لها ثمن وثمن باهظ يدفع للناشرين، وهذا مقابل ثروة معرفية هائلة يحصلون عليها ليس مجانا فقط، بل مدفوعة الثمن، لا يوجد مثال على هذا الاستغلال، إلا الافتراض أن الرقيق يشترون الوثائق الذي يشد على رقابهم ويسلموه لمستعبديهم، شراء العبودية أمر طارئ على البشرية، لكنه يبدو أنه موجود.
هذا التقرير هو نتاج عام كامل من البحث والمناقشات من قبل مجموعة عمل من "مجتمع البحوث الأساسية للفيزياء"، الذي يحمل عنوان "ضد الناشرين الطفيليين: جعل المجلات مجانية".
وينتقد التقرير الطبيعة الاستغلالية للنشر الأكاديمي التجاري ويدعو إلى تغييرات منهجية لتعزيز الوصول المفتوح إلى التواصل العلمي. ويسلط الضوء على كيفية قيام الناشرين باقتناص الأرباح من الأبحاث الممولة من القطاع العام من خلال رسوم اشتراك عالية ورسوم معالجة المقالات. وهم بهذا وكأنهم حراس بوابات احتكاريين للمعرفة".
ويستكمل: "تاريخيا كانت المجلات الأكاديمية تخدم الوظائف الأساسية التي يمكن الآن أداؤها بشكل أكثر كفاءة من خلال منصات الوصول المفتوح. ولكن حتى مع ظهور خيار الوصول والإتاحة المفتوحة، إلا أن دور النشر كما تبين، اغتنمت الفرصة، وقامت بفرض رسوم عليها، مما أدى إلى نموذج "الدفع مقابل النشر" الذي يميز ضد الباحثين الذين يعانون من نقص التمويل".
لمكافحة هذه القضايا، يحدد التقرير العديد من البدائل، وكذلك يدعو إلى مقاطعة الناشرين الاستغلاليين، ودعم نموذج الوصول "الماسي" المفتوح الماسي، حيث لا يتحمل القراء ولا المؤلفون رسوما. كما يشجع التقرير المؤلفين على تحويل مشهد النشر الأكاديمي إلى مشهد يعطي الأولوية للوصول الحر إلى المعرفة.
التقرير الذي يحمل عنوانا صداميا "ضد الناشرين الطفيليين" هو نقد قوي لصناعة النشر الأكاديمي ويكشف عن الطبيعة الطفيلية للناشرين الهادفين للربح، داعيا إلى حركة تغيير واسعة.
جاءت العناوين بهذا الموقف الصارخ: "جامعة كاليفورنيا تنفصل عن إلسفير، وتميل إلى تعزيز "الثورة العالمية".
يعتقد المدافعون عن الوصول المفتوح أن قرار جامعة كاليفورنيا بإنهاء اشتراكها البالغ 11 مليون دولار تقريبا مع إلسفير يمكن أن يلهم المؤسسات الأخرى لتحذو حذوها.
من خلال إنهاء العقد، رفضت جامعة كاليفورنيا، التي تمثل ما يقرب من 10% من النشر الأكاديمي في الولايات المتحدة، عدم التزام الشركة بالوصول المفتوح وإدارة التكاليف.
ينظر إلى هذه الخطوة على أنها انتصار لحركة الوصول المفتوح. يلاحظ ممثل من مكتبات الأبحاث في المملكة المتحدة أنه يتحدى ضرورة الوصول إلى الاشتراك، مما قد يشجع المزيد من المؤسسات على دعم الوصول المفتوح.
بينما ينظر البعض إليها على أنها انتفاضة عالمية ضد الناشرين الرئيسيين، يدعو صوت من جامعة كاليفورنيا في بيركلي إلى تفويض للوصول المفتوح الكامل إلى المحتوى الذي ينتجه أعضاء هيئة التدريس، بحجة أنه سيضغط على الناشرين لتبني نموذج الوصول المفتوح.
ينتشر الشعور بالخطر الذي يهدد جودة البحوث العلمية، والعملية الأكاديمية على نحو عام، والاستخدام المفرط للمقاييس عوضا عن حكم الخبراء، حيث يهدد بتقويض النظام العلمي، وتحذيرا من الهوس بمعامل التأثير، ومعامل هيرشي.
لذلك فقد اقترح 5 خبراء بقيادة ديانا هيكس، الأستاذة في كلية السياسة العامة في معهد جورجيا للتكنولوجيا، وبول ووترز، مدير "سي دبليو تي إس" في جامعة ليدن، 10 مبادئ لقياس الأداء البحثي، وحمايته من سطوة المقاييس الكمية.
ويحدد إعلان ليدن 10 مبادئ لتقييم رصين للبحوث. ويؤكد على أن المؤشرات الكمية يجب أن تكمل فقط التقييم النوعي للخبراء، لا أن تحل محله، وأن الأداء ينبغي أن يحكم عليه دائما فيما يتعلق بالمهام المحددة للمؤسسات أو المجموعات أو فرادى الباحثين.
ويؤكد الإعلان على أهمية حماية التميز في البحوث ذات الصلة محليا، وضمان تقدير المعرفة الإقليمية أو السياقية جنبا إلى جنب مع المخرجات الدولية. وهي تدعو إلى الشفافية والبساطة في جمع البيانات وتحليلها، مع إتاحة الفرص لأولئك الذين يتم تقييمهم للتحقق من المعلومات المستخدمة.
يعد التعرف على الاختلافات التقييمية في ممارسات النشر والاستشهاد أمرا بالغ الأهمية، وكذلك تقييم الباحثين من خلال مراجعة نوعية شاملة لنتاجهم عوضا عن الاعتماد على مقاييس فردية. كما يحذر البيان من إساءة استخدام المؤشرات، مشددا على الحاجة إلى النظر في الآثار المنهجية الأوسع نطاقا لممارسات التقييم.
وأخيرا، يحث الإعلان على التدقيق المنتظم في المؤشرات والتحقق من مصداقيتها وموثوقيتها، والأهم محدوديتها.
تم رفع قضايا مكافحة الاحتكار من قبل شركتي محاماة في نيويورك نيابة عن عدد من الأكاديميين، (في 12-9-2024، صحف تعنى بالتعليم العالي)، حيث انتقدت القضايا استغلال الأكاديميين في المراجعات غير المدفوعة، وقيود تقديم مخطوطات المقالات، وتكاليف النشر والإتاحة المرتفعة.
ويتهمون الناشرين بالاحتفاظ بشكل غير قانوني بمليارات الدولارات التي هي في الأصل تهدف إلى البحث وخدمة المجتمع ونشر المعرفة. كما يدعي المشتكون، فإن هذه الممارسات تنتهك قانون مكافحة الاحتكار الأميركي، وتسعى للحصول على تعويضات ووضع حد للاتفاقيات المناهضة للمنافسة، مما يسلط الضوء على انتقادات نماذج الناشرين التي تعرقل الأبحاث الممولة من القطاع العام، وتسوقها لصالحها.
لقد وقعت الكثير من الجامعات في منطقتنا وبعض بلدان العالم غير الأنجلوسكسوني في وهم كبير هو العالمية، وهوس مستحكم بمقاييسها، ظنا أن دعاوى العالمية ومنظماتها وقوانينها وقيمها وأفكارها هي قيم عالمية تشمل جميع البشر. وذلك على حساب المحلية والخصوصية المجتمعية، واحتياجاتها.
وكما أوضحت هذه الدراسة، فقد وقعت الجامعات في فخ استغلال كارتيل النشر، وخصصت ميزانيات هائلة للتصنيفات والنشر العالمي، بضغط هائل على أعضاء هيئة التدريس والباحثين، مما فتح المجال لأسواق نشر علمي سوداء قاتمة، نجحت في تشويه البحث العلمي، وانحرافه عن طريقه القويم، وهدر الموارد الوطنية الشحيحة، وإغراق الجامعات بمهام ورقية توثيقية، بعض منها في أثر رجعي، لترضي جهات الاعتماد، والجوهر في غير ذات الواد!
في الواقع، العالمية تعني الدخول في المنظومة الغربية وقيمها وأدواتها ومؤسساتها. والسؤال: هل الغرب فعلا يؤمن بالعالمية أو يأبه بها؟ هل يعنيه كثيرا العالم الآخر خارج نطاقه ومنظومته المؤسسية والسكانية؟
الغرب لا يعنيه حال الناس خارج نطاقه، ومنظومته صنعت له. انظروا كيف انقلبت الدول الغربية الكبرى على منظومتها المؤسسية والحقوقية والأممية، عندما مستها أشواك الحقائق، و"داست على أعقابها"! ها هي تنقلب على محكمة الجنايات الدولية، ومحكمة العدل، ومجلس حقوق الإنسان ..وغيرها.
وترى أن هذه المؤسسات لم توجد لتحاكمها هي بل للتحكم بالعالم الآخر، المتخلف التابع. لذلك فالتاريخ الاستعماري مفعم بالمجازر والإبادة سواء داخل أوروبا أو الدول والقارات التي احتلوها. وحديثا إما شاركوا بشكل مباشر في المجازر والإبادة البشرية بمختلف أنواعها، أو صمتوا عليها صمت الخذلان والرضا، والتآمر، والأمثلة قريبة في غزة وفلسطين حاليا، وفي البوسنة والهرسك ورواندا قبل سنوات، لذلك فلا داعي للهاث وراء أوهام العالمية، بعيدة المنال ومصدر إضاعة الجهد والمال.
هذا لا يبرئ دول العرب والمسلمين من التقصير والخذلان لإخوانهم في غزة وغيرها. ومع جليل التقدير وموفور الاحترام للقوى الغربية الحرة، التي تحاول جاهدة مساندة المظلومين في غزة بما يستطيعون، بما في ذلك عدد من الدول وكثير من المؤسسات والأفراد في الغرب.