آخر الأخبار

نردين أبو نبعة: الكتابة المقاومة جبهة للوعي في مواجهة السرديات المفبركة

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

حملنا إليها أسئلة الكتابة المقاومة، وهموم المبدعين، وأحوال الأوطان، فأجابت وسألت، وكانت بعض الإجابات كأنها سطور من رواية، أو تكاد.

نردين عباس أبو نبعة، روائية أردنية من أصول فلسطينية، صدر لها 5 روايات وما يزيد عن 30 قصة للأطفال، وكانت رواياتها مجال بحث للدارسين في رسائل الماجستير في أكثر من بلد.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 "البيت الفارغ" والملاحم العائلية يمنحان الفرنسي لوران موفينييه جائزة غونكور الأدبية
* list 2 of 2 إطلاق ملتقى تورنتو الدولي لفن اليوميات وفلسطين ضيفة الشرف end of list

شاركت في ندوات ثقافية أكاديمية وجماهيرية في أكثر من بلد، كما فازت بعدد من الجوائز الأدبية، ووصلت روايتها "ليالي إشبيلية" مؤخرا إلى القائمة القصيرة في جائزة القدس للمرأة العربية لعام 2025م.

تكتب نردين أبو نبعة:

"وأنا أقول له: أنت لا تعرف بأن سلاح المقاوم في قلبه قبل أن يكون في كفه!"

والسؤال هنا: متى يتعب القلم المقاوم؟

يتعب القلم حين يبهت حبره أو يجف، لكن الحبر ليس إلا صدى القلب ونبضه، ومداد القلم من يقين صاحبه.

فالقلم لا ينهار من تلقاء نفسه، بل يضعف حين تتراخى يد حامله، أما إذا كان الحامل صاحب رسالة ومشروع وإيمان عميق بما يكتب، فإن القلم يظل واقفا… قد يرتجف لكن لا ينكسر!

وحين يكون حامل القلم حامل قضية، لا يخذله قلمه، ولا تجف كلماته، لأن الرسالة ليست عبئا عليه، بل هي جزء من روحه. حتى في اللحظات الصعبة حين تُخنق الكلمة وتحاصر وتلاحق، يبقى القلم صامدا بصمود حامله.

فإلى الحوار:


*

صدرت أعمالك الروائية مؤخرا تحت عنوان "السردية الفلسطينية"، لماذا هذا العنوان وما الرسالة التي تريدين أن تصل من خلاله؟

اخترت عنوان "السردية الفلسطينية" لأنني أؤمن أن لكل أمة سرديتها، روايتها الأصيلة التي تنبثق من وجعها، من نضالها وذاكرتها. ولأن للصهاينة سرديتهم المصطنعة من الزيف والأكاذيب، ولأنهم يدركون أهمية السرد والرواية، فهم لا يعتمدون على ما يتناقله الأشخاص العاديون، بل هناك وحدة خاصة في الجيش مهمتها صياغة السردية!

لكننا نحن الفلسطينيين، وجدنا أنفسنا في مواجهة سردية مزيفة نسجها الغزاة بحرفية دعائية، سردية تقوم على الأكاذيب، وتحاول عبر الزمن أن تصبح "حقيقة بديلة".

فمنذ النكبة وحتى اليوم، هناك من يسوق للعالم أن الفلسطيني "باع أرضه"، وأن الغازي هو "صاحب الحق الديني والتاريخي"، في حين أننا مغيبون ولم نكتب سرديتنا الخاصة القائمة على الحقيقة.

وهنا تبدأ حرب السرديات، وهي أخطر من الحرب الميدانية، لأن من يملك كتابة السردية يملك حق كتابة التاريخ، ومن يكتب التاريخ هو المنتصر في الوعي، حتى لو خسر المعركة في الميدان.

من هنا جاءت رواياتي تحت هذا العنوان العريض، كفعل مقاومة ثقافي، كجزء من معركة الوعي، كرد مباشر على تلك السردية المفبركة. ففي رواية "رب إني وضعتها أنثى"، واجهت كذبة "بيع الفلسطيني لأرضه"، وقدمت صورة إنسانية ووطنية عن التمسك بالأرض، وعن المرأة التي تقاوم بصبرها وإيمانها وكرامتها.

إعلان

وفي "باب العمود"، قدمت سرديتنا الحقيقية عن الحق الديني والتاريخي في القدس، وتحدثت عن أسرانا وعذاباتهم، كأنني أفتح نافذة على واقع خلف القضبان لا يراه العالم.

أما في "قد شغفها حبا"، فقد كتبت سردية المقاومة، بطولاتها، سموها، أخلاقياتها، علاقتها بالأرض، بالناس، وكيف استطاع المقاوم بأبسط الأسلحة المواجهة. فكتبت عن المقاوم الإنسان قبل أن يكون مقاتلا.

أطمح أن تكون هذه الروايات نواة لسردية فلسطينية مقاومة، تصنع الذاكرة، وتواجه النسيان، وتحرر الحقيقة من قيد التشويه.

فالقلم، حين يحمل رسالة، يصبح جبهة، وكل رواية فلسطينية صادقة هي انتصار صغير في معركة الوعي الكبرى.

فمثلا، في هذه الحرب (طوفان الأقصى)، كانت هناك عدة سرديات، منها سردية مستشفى الشفاء وأن المقاومة متحصنة فيه، وسردية القتل للأطفال والنساء في العبور، وكلها سرديات زائفة. فيجب أن يكون لنا سرديتنا التي تتحدث عن المعاملة الأخلاقية التي قل نظيرها في الحروب للأسرى الصهاينة، وفي المقابل المعاملة اللاإنسانية للأسرى الفلسطينيين.

السردية الصهيونية تبنى بحرفية عالية لأنها تدمج بالأهداف الإستراتيجية.


*

بين الكاتبة والجمهور جسور تواصل، فكيف يؤثر هذا على وجدان الكاتب؟ وما أهم ما تجدينه خلال هذه اللقاءات معهم؟

لقائي بالقراء ليس مجرد لحظة عابرة تمضي في زحام الأيام، بل هو عمر من الوصل، والانتماء، والامتنان.

أعشق هذه اللقاءات وأشتاق إليها؛ فهي الترمومتر الذي أقيس به صدق عملي وعمق أثر كلماتي. ففي كل التماعة عين ألتقيها، هناك حكاية لم ترو بعد، وفي كل نبرة امتنان، وكل حشرجة صوت، أدرك أن كلماتي تبني في الذاكرة ما لا يمحى، وتزرع في الأرواح جذورا لا تذبل.

حين جاءتني قارئة من أقصى الجنوب الجزائري، من تمنراست، قاطعة أكثر من 1700 كيلومتر إلى العاصمة، شعرت أن ثوب الكلمة لا يبلى، وأن ما يكتب من القلب يصل وإن طال الطريق.

وحين وصلتني صورة من غزة لروايتي، وأرسلتها قارئة تقيم في خيمة، وعلقت "نجونا بأرواحنا وكتبنا"، عرفت حينها أن دربي مستقيم، وأن للكلمة ضوءا لا ينطفئ حتى في العتمة.

كتب لي أحد الأسرى:

"كنا ثمانية عشر أسيرا في زنزانة واحدة، دخلت روايتك، فوزعنا الوقت، لكل أسير ثلاث ساعات ليقرأ، ثم تنتقل الرواية إلى زنزانة أخرى".

عندها أدركت أن الكتابة ليست ترفا، وليست فعلا إبداعيا فحسب، بل هي معركة وعي وذاكرة وصمود في وجه الزيف والنسيان.

بعد كل لقاء، وبعد كل رسالة، يتجدد في داخلي اليقين: أن علاقتي بقرائي ليست علاقة عادية، بل هي علاقة السحاب بالمطر، ولا يمكن أن تخون.

إنهم بحق أحد أعمدة ثباتي في محراب الكلمة، وأحد أهم أسباب استمراري في هذا الطريق الطويل المرهق والجميل في آن واحد.

مصدر الصورة رواية "رب إني وضعتها أنثى" لنردين أبو نبعة (الجزيرة)
*

بين أدب المقاومة وطوفان الأقصى، كيف تجدين هذه العلاقة في ظل تضييق عربي على منابر الثقافة والتعليم والمعرفة؟

طوفان الأقصى ليس مجرد حدث عابر، بل هو انعكاس لتجدد الوعي واشتعال الأدب المقاوم الذي يقاوم النسيان والتشويه. هو ثمرة نضوج الذاكرة الجمعية، وتحوّل الكلمة إلى طلقة، والحرف إلى خندق!

فالعلاقة بين الطوفان وأدب المقاومة علاقة تبادلية حية، تتغذى من نبض الواقع وتغذيه؛ كل منهما يرفد الآخر، يشعل جذوته، ويمنحه المعنى والامتداد. الطوفان يهب الأدب صدقه، وعمقه، وشرارته الأولى. والأدب بدوره يحفظ الطوفان من النسيان، يؤرخه، يرويه، ويحوله من فعل مقاوم إلى ذاكرة نابضة لا تموت.

إعلان

ورغم محاولات التضييق على أدوات الوعي من مناهج تعليمية ومؤسسات ثقافية، يظل الأدب قادرا على التسلل عبر الحواجز.. يشق طريقه إلى الوعي، يبقي جذوة التحرر مشتعلة. فالكلمة الحرة لا تؤسَر، والأدب المقاوم لا يعرف حدودا، بل يزدهر في الظل ويولد من بين الركام أكثر إشراقا وتمردا.

أذكر إحدى القارئات وقد أرسلت لي من سوريا الحبيبة بعد التحرير كلمات أثرت في: "قبل أيام من الفتح كنا نتناول رواياتك بالخفاء.. أنصح طالباتي بقراءتها سرا واليوم لا خوف بإذن الله".

الغريب في الأمر أن القمع الثقافي يجعل الكلمة المقاومة تزدهر أكثر، وينتج أدبا أكثر تماهيا مع الناس وقضاياهم، وأكثر قدرة على التعبئة وشحذ الهمم.

الطوفان حرر الأرض، والأدب حرر المعنى وارتقى به من السرد إلى الفعل، كما أن القمع لا يقتل الكلمة، بل يمنحها مشروعية أعمق، ويجعلها أكثر التصاقا بالناس. وكما أن الطوفان حرر الأرض، فإن الأدب حرر المعنى، ورفعه من مجرد سرد إلى فعل.

إنه التكامل الخلاق بين الفعل المقاوم والفعل الثقافي؛ الطوفان يحرر الواقع، والأدب يحرر الوعي.


*

يمثل "المقاوم الحقيقي" بأسمائه وصفاته حضورا في رواياتك، وخاصة في "رب إني وضعتها أنثى"، أين تجدين الرواية بين التصريح والرمز؟ وكيف يمكن أن يخدم هذا العمل الروائي؟

أعتقد أن رواياتي تميل إلى الاغتراف من الواقع، فأنا لا أكتب عن أبطال وهميين خارقين بل عن بشر حقيقيين.

في هذا النوع من الكتابة لا أحتاج لصناعة بطل أسطوري، فالبطل نفسه أسطورة حقيقية بما يكفي، ومع ذلك فليس معنى تصوير الواقع أن الكتابة هي نقل فوتوغرافي لما أراه، بل هي الدخول خلف الكواليس، واختراق لما لا يرى، من نبض القلوب وحيّز الصمت؛ من المشاعر والأحاسيس والمخاوف.

إذن، هنا يتجلى دور الكاتب، فدوره ليس الوصف والتتبع وإنما الكشف، ودوره ليس خلق العالم، بل إعادة تأثيثه من الداخل.

أن يعرف أي الخيوط يمسك وأيها يترك!

أن يمنح التفاصيل الصغيرة مساحتها الإنسانية، وأن يتجاوز السياسة إلى الإنسان.

هذا النوع من الكتابة لا يقبل الاختباء خلف الرمز، ولا يختلق شخصيات غير عادية، فشخصياته هي التي يعايشها الناس وهنا يكمن التحدي، وهنا تتجلى الرسالة.

عندما يقول لي بعض القراء "ظننا الأمر من نسج الخيال!"، هنا تتجلى عظمة الأدب المقاوم، لأنه يعيد للواقع مكانته الأسطورية. ولا يهرب من مراراته ووحشته وقلة السالكين، بل يحوله إلى معنى لا يندثر وأفق لا يغلق.

وفي نفس الوقت قد يسأل قارئ عن نص ما في الرواية، وهو يظن أنه واقع، فيكتشف أنه صنعة الكاتب، لذلك دوما أقول لقرائي:

"الاغتراف من الواقع شيء، وصنعة الكاتب وهندسة المعمار الروائي شيء آخر"، والمفارقة أنه أحيانا أحتاج ككاتبة للرمز ليس لذاته، وإنما للحفاظ على وجه الحقيقة، وما بين التصريح والرمز يبقى السؤال المعيار: أيهما يخدم الوطن والفكرة أكثر؟ أيهما يبقي جذوة الوعي مشتعلة أكثر؟


*

تشاركين في معارض الكتاب العربي في أكثر من دولة، أين وصل حال الكتاب مع القارئ العربي؟ وما أبرز هموم الكاتب في هذا المضمار؟

هناك حضور قوي للمعارض وللكتب، ومعارض الكتاب الآن ليست أماكن لعرض وبيع الكتب فقط، هذه المعارض تشبه سوق عكاظ، يعرض فيه الأدباء والكتاب إصداراتهم، ومنها ما يتصدر الأكثر مبيعا في المعرض، تماما كما كانت تعلق أجمل القصائد.

أصبحت هذه المعارض فرصة للتواصل مع الكاتب، والحوار معه، ونقد عمله، وتوقيع الكتاب والنقاش حوله، فالمعارض أصبحت جلسات نقاشية ونقدية.

وأكثر ما يؤرق الكاتب هو وصول كتابه لأكبر شريحة ممكنة من القراء، فحضور الكاتب للمعرض لا يكفي إذا لم يكن هناك استمرارية ووجود في المكتبات والمنصات الرقمية.

كذلك مشكلة القراءة المحرمة عبر ملفات pdf والتزوير الورقي.

إعلان

وهذا يشكل انتهاكا لحقوق الملكية الفكرية، وتجريدا للكاتب من حقوقه، وضربا لصناعة النشر، وهذا كله يؤثر على ثقة القارئ بالكتاب، لأن النسخة المزورة رديئة، وحينها يشعر الكاتب أن تعبه يسرق، وتتراجع حماسته على الاستمرار في الكتابة.


*

في ليالي إشبيلية، استخدمتِ الرمز والسفر بين زمنين ومكانين، ثم تتابعت الأمكنة، ألم تتعبي القارئ وأنت تحمّلينه تاريخ ضياع القدس والأندلس معا؟ وكيف استطعت الجمع بين الشخصيات الحقيقية والمتخيلة؟

لم تكن " ليالي إشبيلية" مجرد سرد لرحلة في الزمان والمكان، بل كانت سَفَرا في الوعي والذاكرة. نعم، تنقلنا بين القدس وإشبيلية، بين الحاضر والماضي، لكنني لم أرد للقارئ أن يحمل عبء التاريخ، بل أن يستعيد وعيه به، أن يراه حيا، متشابكا، لا كصفحة مغلقة بل كمرآة تنذر وتبشر

قد يبدو الترحال بين الأزمنة والأمكنة مرهقا ظاهريا، لكني كنت أعول على القارئ الذي يحب أن يفكك، ويتأمل، ويعيد ترتيب المعنى. لم أحمله التاريخ، بل منحته مفاتيح لفهم هذا التاريخ: لماذا ضاعت الأندلس؟ كيف تتكرر الحكاية؟ وما الذي يمكن إنقاذه؟

مصدر الصورة رواية "قد شغفها حبا" لنردين أبو نبعة (الجزيرة)
*

سنبقى مع ليالي إشبيلية التي وصلت إلى القائمة القصيرة لـ"جائزة القدس للمرأة العربية" عن وزارة الثقافة الفلسطينية، ماذا يمثل لك هذا الترشيح؟

هذه المبادرة الثقافية هي احتفاء بالمرأة الكاتبة، مورّثة الكلمة الحرة والحكاية المقاومة، ووصول روايتي إلى القائمة القصيرة يعني أن القدس حاضرة في الحقل الروائي، وأن المرأة ليست متلقية للتاريخ بل كاتبة له، تحفظ الذاكرة وتحمل الهم وتحرس الوطن.

الجائزة احتفاء بالمرأة الفلسطينية الكاتبة، التي تغزل بأنامل من نور ويقين ثوب العودة، وتحيي نبض الثورة، فقد تذبل الأوطان ولا يبعثها من مرقدها سوى كف امرأة تحترف الحرف المقاوم كما تحترف الأمومة.


*

تنظر الكاتبة إلى عالم الطفولة باهتمام، من خلال قصص عديدة كتبتها، ما مشاريعك القادمة في هذا المضمار أمام ما أصاب الطفولة في غزة؟

أمام المجازر التي ترتكب بحق أطفال غزة، أشعر أن الكتابة للطفل لم تعد خيارا إبداعيا فحسب، بل واجب مقاوم، لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح "هل نكتب لهم؟ أم نكتب عنهم؟ أم نكتب معهم؟ ماذا نكتب لهؤلاء الأطفال؟".

هذا سؤال أخلاقي وتربوي وإنساني، خصوصا عندما يكون الطفل نفسه هو الضحية والشاهد، في آن معا.

في وجه المجازر والدمار الذي يعيشه أطفال غزة، لا يمكن أن نكتب لهم بنفس الأدوات القديمة، ولا بالمسافة ذاتها. لأن السؤال لم يعد: كيف نروي لهم قصة؟ بل: كيف نعيد بناء المعنى داخل أرواح انهارت، وأحلام احترقت، وأمان لم يعرفوه؟

أحيانا أقول إنه يمكننا أن نكتب بلسانه لا نيابة عنه. أن ننقل لغته، مشاعره، صمته، لا أن نسقط عليه رؤانا نحن الكبار، أو ربما نساعده أن يرسم، أن يدون، أن يسجل شهادته، أن يعبر بكلماته البسيطة، حتى وإن كانت مليئة بالخطأ والنقص، لأن فيها الصدق والحق، فمن المهم أن نسمع منه قبل أن نكتب.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا