آخر الأخبار

أحمد بن ماجد: أسد البحار الذي صنع تاريخ الملاحة البحرية في القرن الـ15

شارك





قبل أن أخاطبك بكلمة يا أسد البحار أحمد بن ماجد، أؤكّد لك أني أعجبت كثيرًا بصداقتك مع بحر العرب، وبرحلاتك البحرية في المحيط الهندي بهدف التجارة مع بلاد الهند.

يا سيد البحار، ويا رفيق خلجانها وموانئها التي اعتدت أن تأتي إليها المرة تلو الأخرى، معلقًا على سفينة إبحارك قناديل حضورك المعتاد.

يا أمير البحار العربي..

أحييك من برٍّ يضيق بي، وقد أصبحت أضيق من بقائي عليه المهدَّد برياحٍ عدوانية تهب من كل الجهات.

دعني، أيها الرحّالة البحري، أعود إلى ذاكرة التاريخ، لتعود بي إلى القرن الـ15 الميلادي، لألتقيك بعد أن أزمعت الرحيل إليك على بساطٍ زمني من صنع خيال شاعر، فأخاطبك بلغةٍ عربية فصيحة تفيض مفرداتها بالإعجاب والاعتداد بك، لا سيما وأن برّنا كما هو بحرنا في حالةٍ من الافتقار إلى الأمن والأمان.

فالطيور السوداء الجارحة تملأ الفضاء فوق بلادنا الممتدة من الماء إلى الماء، وأما بحارنا المثقلة بالأساطيل والسفن الحربية المريبة، وبقراصنةٍ يتحالفون مع الحيتان وأسماك القرش، فتثير فينا تحديات تذكرنا برواية أرنست همنغواي "الشيخ والبحر".

كنتَ، يا أسد البحار -كما عُرفت عنك- تقرأ الفاتحة والمعوذات الثلاث قبل نزولك إلى الشاطئ لتمتطي سفينتك بكل إيمان وشجاعة وإقدام.

فيراك البحارة المترددون تضرب بمجاديفك الماء المتلاطم الأمواج في بحر العرب وفي المحيط الهندي، فيقسمون بأنك شيخهم، وأنهم في حاجة إلى مغامراتك وخبراتك البحرية.

مصدر الصورة أسد البحار "أحمد بن ماجد" عمل على توثيق خبراته، وتخزينها في كتب عديدة (الجزيرة)

ولقد عملتَ على توثيق هذه الخبرات وتخزينها في كتب عديدة، أهمها كتاب "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد"، وتشهد عيون الأمواج العالية أنك في كل رحلة قمت بها كنت تتسلح كجندي شجاع بمعرفتك التامة للخرائط والمراجع الجغرافية البحرية.

إعلان

فكنتَ في كل رحلة ضامنًا للوصول والنجاح، بعد أن تحدّد أفضل المسارات البحرية للسفن التجارية، وقد خدمت نفسك، وأنرت الطرق البحرية للبحّارين من حولك، بغض النظر عن جنسياتهم وأسماء بلدانهم ولغاتهم المختلفة، وفي مقدمتهم من يتكلمون العربية، فتشعر أنهم بتقربهم منك ينتمون إليك.

ها أنا، يا أمير البحار، أقف أمامك وأنظر إليك في إعجاب الحفيد بقامة جدّه السامقة، التي لا تعرف الانحناء إلا في حالة الركوع لله أثناء الصلاة.

ها أنت أمامي الآن، تنتصب بقامتك العالية كنخلة خليجية لا تنحني للريح مهما عصفت واشتدّت، وعلا صفيرها في مسمع البحر.

من يطّلع باهتمام على جهودك وإنجازاتك البحرية، فوق الماء وعلى ورق الكتابة، يشعر بأنك كنت مؤسّسًا لمدرسة بحرية، مديرها ومعلمها الأول. كنت رائدًا في التجارة البحرية، وخبيرًا في علم البحار، ألّفت عشرات الكتب في هذا المجال البالغ الأهمية عند البحارة المستكشفين، حتى في القرن الـ21.

يبدو أن بحّارة آخرين في زمانك أو في زمان أتى بعدك شعروا بالغيرة الفائضة بالحسد والغيظ من ريادتك البحرية، فتقولوا عليك، ونسبوا لك مرافقة المستكشف البرتغالي "فاسكو دي غاما"، ليعتبروك تابعًا له ومساعدًا له في عبوره المحيط الهندي، وذلك ليقللوا من شأنك ويحطّوا من إنجازاتك ومؤلفاتك.

بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك، فألصقوا بك تهمة استجلاب البرتغاليين إلى بحر العرب، ولم يتوانوا في أن يدمغوك بتبعية للغرب، وبعمالة تطوعية للبرتغال، ضاربين بالأمجاد الأندلسية عرض الحائط.

لكنّك من هذا وذاك بريء، فرحت تفنّد زعمهم بأنك لم ترافق ذلك المستكشف البرتغالي الذي جاء من رأس الرجاء الصالح، يبحث عن بحر العرب ويحلم بعبور المحيط الهندي ليصل إلى آسيا الشرقية.

وأكبر دليل على زعمهم المغرض، أنك لم تذكر "فاسكو دي غاما" في يومياتك وكتبك، ولو كنت قد رافقته لذكرت ذلك وسجّلته في أحد كتبك البحرية على الأقل.

لكنّك لم تقلق بهذا الزعم، الذي لا يخلو من مكيدة في حضورك وفي غيابك. كما أنك لم تعدم رجال علم ومؤرخين موضوعيين ومحايدين ينحازون للحقيقة، فأكدوا أنك لم تكن مرافقًا وتابعًا لهذا المستكشف البرتغالي.

وإنما كنت رائدًا بحريًا، يرافقك أكثر من بحار كان يحرص على أن يتتلمذ على يديك، وحتى لو ذهبنا إلى تصديق مرافقتك لـ"فاسكو دي غاما"، فإننا عند الوقوف أمام قامتك البحرية العالية وإنجازاتك العظيمة، سوف نميل إلى القول إن دي غاما كان مرافقًا لك، ولم يكن لائقًا أن تكون مرافقًا له.

وأنت أسد البحار بلا منازع، وأمير البحر، كما أطلق عليك هذا اللقب أحد البحارة البرتغاليين عندما عرف عن رحلاتك واطّلع على إنجازاتك.

كيف لا تستحق أكثر من لقب يليق بك: أسد البحار، أمير البحار، ابن أبي الركاب، شهاب الحق، ومعلم البحر؟

إعلان

لقد كنت بالفعل معلّمًا وأستاذًا في علم البحار، برعت في علم الملاحة البحرية، ألم تخترع البوصلة البحرية ودائرة الأفق لتحديد الاتجاهات أمام البحارة؟ ألم تتنقّل بين مختلف الثقافات والمعارف في عصرك قبل أن تفكر في تأليف أول كتاب لك يا ابن ماجد؟ ألم تكن مصممًا لخرائط بحرية ساعدت البحارة في عبور المحيطات بيسر وأمان؟

ألم تكتب القصائد الجميلة التي تعبر عن إعجابك بالبحر وحبك له؟

ألم تتحوّل رحلاتك البحرية إلى قصص وحكايات يرويها الأجداد للأحفاد؟

لقد كنت معلّمًا ومثقفًا لنفسك يا أمير البحار العربي، فدرست الرياضيات وعلم الفلك وتضاريس المناطق البحرية، كما درست التاريخ والأدب لتضيف شيئًا إلى الماضي، ولتكتسب ثروة لغوية وقدرة تعبيرية جاذبة في الكتابة وتأليف الكتب في الملاحة البحرية.

يكفيك يا أسد البحار النجدي القادم إلى بحر العرب والمحيط الهندي من رأس الخيمة، أنك برحلاتك ومغامراتك البحرية المحسوبة والمخطط لها بعناية ودراية، تركت لعشاق البحر ورواده إرثًا غنيًّا وواسعًا من المعارف والإنجازات البحرية، فوضعت لهم الأسس والقواعد السليمة للإبحار والتجارة البحرية، فبقيت بما أسست وأنجزت منارًا يهدي البحارة والسفن إلى أفضل وأسلم السبل لتحقيق الغايات والطموحات.

بقي عليّ، يا ابن ماجد يا سيد البحار، أن أصافحك مصافحة الوداع قبل أن تسألني عن بحارنا المحيطة بنا.. عن أحوالها والطرق البحرية الآمنة فيها.. وخاصة بحر فلسطين الممتد من الناقورة إلى رفح.

ولو سألتني قبل مغادرتي لأمجادك البحرية، ماذا سأحكي لك عن عكا التي هزمت نابليون وأحبطت حملته على الشرق العربي؟ وماذا يمكن أن أخبرك عن حيفا ومينائها الذي أصبح ترسانة لأسلحة ومصانع موت معدّة لتصديرها إلى أرض فلسطين وشعبها في قطاع غزة والضفة الغربية المهددة على الدوام بالاستيطان والمصادرة؟

سلام عليك يا ابن ماجد، وقدّرنا الله على حماية وصيانة بحارنا المحيطة بنا، لنكون الأوفياء لك، والمكملين لمسيرتك المشرفة وسيرتك البحرية التي سنبقى نعتز بها ونفتخر.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار