آخر الأخبار

الأدب الملتزم بالنضال.. غسان كنفاني مفكرا وسياسيا

شارك الخبر

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على الرابط أعلاه للمشاهدة على الموقع الرسمي

استشهد الأديب الفلسطيني غسان كنفاني صبيحة يوم 8 يوليو/تموز 1972 ضمن حملة اغتيال وتصفية عدد من قادة الثورة الفلسطينية ولم يتجاوز سنه حينها 36 عاما، فترسخت صورته أديبا ثوريا شابا لم يكبر وشاهدا باقيا على الإجرام الصهيوني الذي لم يكتف بالاحتلال والتشريد، وإنما تفنن في إنتاج صنوف من الجريمة والإبادة والمحو.

وتأتي ذكرى استشهاد غسان هذا العام متزامنة مع استمرار حرب الإبادة التي يواجهها الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية وامتدادها إلى ساحات أخرى تدل أحداثها على عقلية استعمارية تبادر بالقتل والتدمير والاغتيال، لتمد عمر احتلالها وتفرض وجودها بالقوة والنار.

نستعيد غسان كنفاني في جوانب باقية من تجربته السياسية والأدبية في هذه الظروف، فهو حاضر معنا في المعركة بمقتبساته المتداولة وبآثاره الخالدة وبمسيرته التي اشتقت طريقها من طريق شعبه الدامي.

الالتزام من الميلاد إلى الاستشهاد

تزامن ميلاد غسان كنفاني في 9 أبريل/نيسان 1936 مع إرهاصات ثورة عام 1936 المعروفة في التاريخ الفلسطيني، إذ لم تلبث الثورة أن اشتعلت وأعلنت الإضرابات والمواجهات، وكأن هذا التزامن هو ما حكم حياة كنفاني على نحو واقعي وقدري في آن، فكانت سنواته الأولى المبكرة هي ذاتها عمر تلك الثورة المعبرة عن رفض الاستعمار البريطاني ومعاونته الوجود الصهيوني واتساع الهجرة إلى فلسطين.

بدأ غسان من الثورة ومعها، وحين بلغ سنوات صباه كانت حادثة النكبة المزلزلة عام 1948 وكان عمره 12 عاما، فهاجر مع أسرته إلى لبنان وصولا إلى دمشق، وتابع أطرافا من نكبة فلسطين وتشرد أهلها وأكمل دراسته في دمشق، ثم التحق بجامعتها، لكنه لم يتم دراسته ربما بسبب حياته المختزلة السريعة، فقد اتجه إلى العمل السياسي والكتابة الأدبية، وسافر إلى الكويت للعمل في مدارسها.

كما التحق بحركة القوميين العرب ونشط في إطارها، كل ذلك في سنوات متقاربة، كأن غسان المتعدد يحاول اللحاق بالزمن، ورغم إصابته بمرض السّكر منذ شبابه المبكر وتعرفه إلى أجواء المشافي في الكويت فإنه قرر ألا يسمح للمرض بأن يتدخل في حياته، بل إنه كتب من وحي تلك التجربة بعض قصصه، كقصة "موت سرير رقم 12" عن شخصية حقيقية لمواطن باكستاني مجهول اسمه محمد علي أكبر، وأطلق اسم تلك القصة على مجموعته الأولى.

ومن يتأمل الجهد الإبداعي للراحل يدرك أنه سعى لأن يعطي عطاء متميزا في كل عمل اهتم به، وأن انشغالاته النضالية والإعلامية لم تأخذه من الحقل الأدبي الأثير عنده، بل إنه تمكن من الموازنة بين سائر نشاطاته، وطوّر مفهوما خاصا للأدب المقاوم، بحيث يكون للأدب دوره في المعارك المصيرية وفي سياق التجربة الفلسطينية على نحو خاص.

وقد كان غسان يمثل المبدع الملتزم كأفضل ما يكون الالتزام، لكنه التزام مشروط بالجمال ومعاييره ومحدداته، ولذلك كثيرا ما حاول في مقالاته أن يميز بين الأدب كحقل له خصوصيته الجمالية وبين العمل السياسي وطبيعته المغايرة أو المختلفة.

الالتزام عند غسان كنفاني مشتق من طبيعة حياته والتصاقه بالهم الفلسطيني الوطني التصاقا مبنيا على صدق التجربة وعلى الوعي بتوجيهه وإغنائه بالإبداع والممارسة، بمعنى آخر لم يكن الأدب ولم تكن الفنون الإبداعية بوقا للسياسة أو للشعارات أو التوجهات الحزبية، ومن يمارس الأدب يعرف صعوبة شروطه ويعرف اختلاف التعبير الأدبي عن أي تعبير آخر مهما يكن محترما أو نبيلا.

كأن غسان حاول أن يكون أديبا ضمن أصعب معايير الأدب دون احتجاج بضرورات التعبير، فكانت معادلته صعبة، لكنها مطلوبة ومشروعة، فالأديب الملتزم في مواقفه ورؤيته هو أدعى الناس للالتزام بالشرط الجمالي للإبداع.

وربما يفسر هذا الملمح ما قد يلحظه القارئ من تعارض ظاهري بين مقالات غسان السياسية وطريقته التراجيدية في تعبيره الأدبي عندما يكشف عن أطراف المأساة، ويعرض الحياة المتنوعة في أحزانها وخيباتها وشروخها، فالأدب مضمار واسع للتعبير الإنساني بكل همومه ومآسيه، في حين التعبير السياسي تعبير تعبوي قد لا يدقق في تفاصيل الواقع وقد يقفز عنها لضرورات وأسباب متعددة.

صورة غسان في كتاباته السياسية

بالإضافة إلى كتاباته الأدبية المعروفة فقد ترك غسان كتابات سياسية وفكرية مهمة من الناحية التاريخية ومن ناحية إضاءتها لمعارفه ومواقفه، وهو وإن كان مثقفا ماركسيا قوميا فلسطينيا بصورة من الصور فإن هذا الموقف العام يحتاج إلى توقف وانتباه، فصحيح أنه تأثر ضمن تأثر حركات التحرر الفلسطينية بتأثيرات الماركسية والقوى اليسارية بألوانها المختلفة لكن قراءة كتاباته السياسية تفيدنا باحتفاظه بروح نقدية أصيلة انتبهت إلى اختلافات حاسمة بين الماركسية السوفياتية وما يراد من تطبيقها أو استعارتها، ويعود جزء من هذا الوعي إلى اختلاف حركة القوميين العرب مع الشيوعيين في الخمسينيات وبداية الستينيات حتى عام 1967، أي قبل ظهور الجبهة الشعبية وتبنيها الخط الماركسي، بصيغة مختلفة عن تبني الشيوعيين العرب الماركسية.

وملخص موقف غسان أن الماركسية إطار واسع متعدد وليست قرارات ومواقف الحزب الشيوعي السوفياتي، ولذلك فلا ينبغي أن يكون التطبيق ميكانيكيا أو حرفيا، ومن ذلك ما تدل عليه دراسته الذكية المطولة عن الماركسية ضمن أعماله السياسية، فهو يستند مثلا إلى "سلطان علي أوغلو أو سلطان غالييف، وهو مسلم تتري كان على احتكاك عملي مع شعوب الشرق بحكم نشأته وبحكم مربطه الروحي، ولمس بنفسه أن الماركسية التي خلقت في جو الصناعة وفوضاها لا تنطبق على روح الشرق ذي البنية الزراعية" [1].

ويشير غسان إلى مصير سلطان غالييف، فقد كوّن نظرية عن "ثورة المستعمرات" ونشرها، قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام تحت لقب خائن سنة 1940، مع أن أفكاره ونظريته لا تخرج عن الخط العام للماركسية.

والخلاصة فيما اتفق فيه غسان أو ارتضاه من تعديلات سلطان غالييف على الماركسية يتمثل في أن الصراع الطبقي ليس حادا في المجتمعات الزراعية كحدته في المجتمعات الصناعية، ولذلك لا يستحق ذلك التقديم أو الإلحاح المعروف في الماركسية، فيخفف إذن إلى حجمه الملائم، وربما ليس ضروريا إثارته والاحتكام إليه.

و"تبين له أن إثارة الصراع الطبقي في بلده هي افتعال لأمر يمكن تلافيه، إذ إن المجتمع الآسيوي مجتمع جامد خال من الحس الطبقي ككل مجتمع زراعي، لقد دعا غالييف إلى تفضيل النضال من أجل التحرر من السيطرة الأجنبية على النضال من أجل التحرر من السيطرة الطبقية، لقد دعا هو وتلامذته للسلم الاجتماعي لا إلى الصراع الطبقي" [2].

إن مسألة الصراع الطبقي بصيغتها الأوروبية لا تلائم الحالة الفلسطينية، وهذا تقريبا ما حصل، إذ تم نوع من تحالف الطبقات في مواجهة الاحتلال، فكان الأهم هو يقظة الحس الوطني في مواجهة الاحتلال مع الاهتمام بالطبقات الكادحة في المخيمات، خاصة بوصفها خزان الثورة ورأسمالها الثوري والبشري.

ولقد قادت الطبقة الوطنية البرجوازية والمتوسطة الثورة الفلسطينية، ولم تقدها الطبقة العاملة أو الكادحة.

ومن موقع فهمه الثقافي والوطني يخالف كنفاني محو الماركسية للقوميات وعداءها لها، وهو ما اختلف فيه غالييف مع الماركسية أيضا، ويبدو غسان هنا ميالا إلى اشتراكية قومية -إذا صح التعبير- تتناسب مع مجتمعات الشرق وقيمة الثقافة والهوية فيه.

وفي حالة التحرر الفلسطيني يغدو البعد القومي المرتبط بالهوية أمرا أساسيا لا غنى عنه، فالهوية الفلسطينية والعربية مهددة، ولا يمكن استثناؤها أو إسقاطها تحت ضجيج الصراع الطبقي.

يقول غسان دامجا بين صوته وصوت غالييف "القومية هي نتاج معقد لتطور إنساني طويل، وهي معقل للحضارة التي بزغت في غمرة هذا التطور، وأن يكون الإنسان قوميا فهذا يعني أنه يختار القومية واسطة لأداء رسالته الإنسانية، إذ ليست القومية ذلك الوجود المعلّب المنعزل عن التيار الكوني، بل هي الخلية التي تتضمن محتوى إنسانيا يعيش في مداها قدر أمته ويحقق شخصيته البشرية من خلالها، ويقاوم داخل إطارها تكتل القوى المتآمرة عليه، ويجسد فيها انتصاراته وخدماته للبشرية، ويقيمها تعبيرا لذاتيته التاريخية، يرى فيها ماضيه كله ويستمد منه ثقته بالكفاح من أجل غده" [3].

وثمة ملاحظة ذكية من كنفاني في نهاية مناقشة مسألة الهوية والأمة في نظر ماركس والماركسيين، يقول "ألا يمكن أن تكون هذه النظرة إلى القومية والأمة هي نتاج ترسبات النفسية اليهودية في أعماق ماركس؟ نتاج الاضطهاد الطويل الذي قاساه اليهود في التاريخ والشعور بالضياع في هذا العالم؟" [4]، وهي إشارة نادرة إلى إمكانية وجود آثار يهودية مترسبة وباقية في الماركسية بسبب أصول ماركس نفسه.

وفي دراسة أخرى عن الوحدة العربية يظهر فيها استقباله الفرح لمسألة الوحدة بين مصر وسوريا تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، وهي الوحدة التي لم تطل وانتهت بالانفصال بعد زمن قصير لأسباب كثيرة.

يعود إلى نقد الشيوعيين فيشير إلى موقفهم من نكبة فلسطين المدوية عام 1948 فهم في رأيه "لا يفكرون بعقليتهم الخاصة، لكن بعقلية الإستراتيجية السوفياتية، وهي أولا هذه العقلية التي ترفض أصلا فكرة النضال على أساس قومي، ثانيا: والتي يؤلمها أن يصل الإنسان إلى ممارسة وجوده الكريم عن طريق غير طريق صراع الطبقات، أي عن طريق تجنب تمزيق المجتمع إلى طبقات، والواقع أن عملية الوحدة العربية عملية قومية في صلبها، والشيوعية كعقيدة ترفض أصلا فكرة القومية وتعتبرها نتاجا برجوازيا" [5].

وثمة اعتراض وجيه لغسان على الماركسية يتمثل في تدخّل الحزب الشيوعي السافر في الفكر والكتابة وسياسة الإملاء التي اتبعها، وغياب الحرية للكاتب أي كاتب "وليس الأدباء وحدهم هم الخاضعون لمثل هذه المعاملة القاسية من طرف الحزب، إذ إن الموسيقيين والعلماء أيضا يعيشون في مثل هذا الخضوع" [6]، وغسان يقدس حرية الكاتب ويدعو إليها ولا يراها تتعارض مع الالتزام.

واعتراض آخر لغسان على الماركسية يتمثل في إهمال دور العائلة وأثر الماركسية في تفكك نظام الأسرة وما تبعه من مشكلات حادة بسبب ذلك، وهو بالتأكيد ما لا يتناسب مع عالم الشرق الذي تعد فيه الأسرة أو العائلة لبنة اجتماعية ضرورية تشكل لحمته وأساس بنائه.

أما الدين فكذلك يأخذ كنفاني على الماركسية إهمالها له واستبعادها أثره بأي صيغة من الصيغ، فيقول "إن إيمان الإنسان بشيء ما هو اقتناع وجداني عميق، ويتخذ في أحيان متعددة مظهرا عمليا تكون له نتائجه الحسنة، وإيمان الإنسان هو أقوى معقل لطمأنينته وجلده، فهل من السهولة أن نقضي على كل هذا بجرة قلم؟ هل من الممكن أن نمزق ذلك الاقتناع المترسب في أعماق الإنسان اليائس من حضارته" [7].

كنفاني الثائر والمثقف العضوي

لقد نتج عن العمل السياسي والحركي المباشر لغسان إلى جانب اهتمامه بالكتابة بشغف ومسؤولية أن يغدو نمطا من المثقف العضوي المنتمي، وفق تعبير غرامشي الشهير.

ويقول عنه الأديب الفلسطيني محم ....

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك الخبر

إقرأ أيضا