كاتب المقال: محمد سامي محاميد- مستشار وموجّه مهني، مدير مركز توب تالنت
قد تُتقن البرمجة، تحترف كتابة الأكواد، وتحل أعقد المشكلات التقنية في دقائق… لكن في أول جلسة عصف ذهني مع الفريق، تشعر بالارتباك. في أول عرض أمام مدير المشروع، تختبئ خلف الشرائح. وفي كل مقابلة شخصية، تخرج وأنت تقول: "أنا مش فاهم، كنت مؤهل… ليه ما قبلوني؟" هذه ليست قصة فردية، بل ظاهرة تتكرر لدى شريحة واسعة من شبابنا، خاصة في مجالات الهايتك والهندسة والتقنيات المتقدمة. جيل يملك الكفاءة الأكاديمية، لكنه يفتقد أدوات التعبير، أدوات القيادة، وأحيانًا حتى أبجديات التواصل.
نحن لا نعاني من نقص في الذكاء، بل من فجوة في المهارات الإنسانية. الهايتك اليوم لا يبحث فقط عن "شخص ذكي"، بل عن شخص يستطيع أن يعمل في فريق، يُعبّر عن فكرته، يتحاور، يقدّم نفسه، ويتحمّل مسؤولية مشروع لا كود فقط. نسبة غير قليلة من شباب مجتمعنا العربي تلتحق بتخصصات هندسية أو علمية طمعًا في فرص سوق العمل، وهذا ممتاز. لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في شهادة، بل في التحوّل من "طالب متفوق" إلى "محترف متكامل". وهنا تتفجّر الأزمة: نحن ندرّب طلابنا على الحلول، لكن لا نُعلّمهم كيف يسألون. نطلب منهم الإنجاز، ولا نمنحهم وقتًا ليتقنوا الإصغاء أو التعبير.
العديد من الشركات الإسرائيلية والدولية العاملة في مجال الهايتك تصطدم بهذه الفجوة عند تقييم مرشحين عرب. "مؤهلون تقنيًا… لكنهم لا يعبّرون عن أنفسهم، لا يتحدثون بثقة، ولا يعرفون كيف يقودون موقفًا" — هذا ما نسمعه مرارًا من أرباب العمل.
الضعف في المهارات الإدارية والقيادية لم يعد مشكلة شخصية، بل تحديًا مجتمعيًا. نحن بحاجة لثورة هادئة تبدأ من داخل المدرسة والجامعة، تُعطي التواصل الإنساني نفس الاهتمام الذي تعطيه للرياضيات والفيزياء. نحتاج إلى تدريب طلابنا على تقديم أنفسهم، على الإنصات، على طرح الأسئلة بذكاء، على إدارة الخلافات المهنية دون خوف، وعلى ممارسة القيادة بأسلوب ناضج وإنساني. العالم لا يبحث فقط عن "عباقرة تقنيين"، بل عن بشر يتقنون فن التعامل. وهذا ما نفتقده أحيانًا.
لهذا، فإن كل مبادرة لتطوير المهارات اللينة (Soft Skills)، مثل: الذكاء العاطفي، إدارة الوقت، تقديم العروض، إدارة الفرق، والقدرة على اتخاذ القرار تحت الضغط… ليست تكميلية، بل ضرورية أكثر من أي وقت مضى. والسؤال الأهم: هل نُهيّئ شبابنا لمقابلات العمل كما نُعدّهم للامتحانات؟ هل نُدرّبهم على طرح فكرة، أو الدفاع عنها، أو تمثيل أنفسهم بوعي وثقة؟ هل نُعلّمهم أن المعرفة وحدها لا تكفي… إن لم يعرفوا كيف يقدّمونها؟
ببساطة: قد تكون عبقريًا، لكن إن لم يعرف أحد بذلك… فالفرصة لن تطرق بابك. لكل شاب وشابة في طريقهم نحو هذا العالم الكبير والمعقد، نقول: نَعَم، طوّر نفسك أكاديميًا… لكن لا تنسَ أن تُنضج أدواتك الإنسانية. تعلم كيف تتحدث، كيف تستمع، كيف تتعاون، وكيف تصنع حضورًا. فهذا هو الفارق بين من يبقى على الهامش، ومن يصبح جزءًا من اللعبة.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com