كشفت دراسة حديثة أن معظم الأشخاص المصابين بالتوحد في المملكة المتحدة ممن تجاوزوا سن الأربعين يعيشون دون أن يحصلوا على تشخيص رسمي لحالتهم، ما يتركهم غالبا دون الدعم المناسب ويزيد من تعرضهم لمشكلات صحية واجتماعية.
وأجرى الدراسة باحثون من معهد الطب النفسي وعلم النفس والأعصاب في كلية كينغز كوليدج لندن في المملكة المتحدة، ونشرت نتائجها في دورية المراجعة السنوية لعلم النفس التنموي في 29 أغسطس/آب الماضي، وكتبت عنها صحيفة إندبندنت.
وأعاد الباحثون تحليل أبحاث عن بيانات الرعاية الصحية في المملكة المتحدة من عام 2018، وقدّروا أنه من البالغين المصابين بالتوحد الذين تتراوح أعمارهم بين 40 و59 عاما، لم يتلق 91.45% من الرجال و79.48% من النساء تشخيصا رسميا.
كما أظهرت النتائج أن نسبة الحالات غير المشخّصة ترتفع أكثر في الأعمار الأكبر، حيث بلغت 96.29% لدى الرجال و97.19% لدى النساء فوق سن الستين.
وفي المقابل، قدّرت النسبة بين من تتراوح أعمارهم بين 20 و39 عاما بنحو 52.54%، وانخفضت إلى 23.34% لدى من هم دون 19 عاما.
ويشير الخبراء إلى أن هذه النسب المرتفعة تجعل كثيرين يعيشون حياة مليئة بالتحديات الصحية والاجتماعية دون فهم أو دعم مناسب.
وعلّق تيم نيكولز، المدير المساعد للسياسات والبحوث والإستراتيجيات في الجمعية الوطنية للتوحد في المملكة المتحدة، على هذه النتائج: "قد يكون التقييم الطبي الخطوة الأولى لفهم احتياجاتهم، ويمكن للتشخيص أن يغير حياة بعضهم جذريا، بل وقد يكون منقذا للحياة في بعض الحالات".
ولفهم كيف يمكن أن يظهر التوحد في مراحل متقدمة من العمر، شاركت الدكتورة ليزا ويليامز، المختصة النفسية ومؤسسة عيادات خدمة التوحد في المملكة المتحدة، علامات خفية للتوحد قد تمر دون ملاحظة لدى البالغين فوق الأربعين:
يميل كثير من البالغين الأكبر سنا المصابين بالتوحد غير المشخّص إلى التمسك بروتين يومي يمنحهم شعورا بالراحة والسيطرة.
ويزداد هذا وضوحا مع التقدم في العمر، فتتحول أي تغييرات مفاجئة في الروتين إلى مصدر للتوتر والقلق.
ويظهر ذلك مثلا في الإفراط في التخطيط المسبق للمواعيد، أو الالتزام الصارم بالعادات اليومية، أو الشعور بالارتباك عند حدوث تغييرات غير متوقعة في الخطط.
من الشائع أن يكون لدى الأشخاص المصابين بالتوحد شغف عميق بمواضيع أو هوايات معينة، ويظهر ذلك بوضوح عند كبار السن، ولكن وإذا كان هذا الاهتمام يسيطر على معظم وقته وأحاديثه بشكل متكرر، فقد يكون علامة على وجود التوحد.
قد تستمر الحساسية المفرطة لدى البالغين المصابين بالتوحد حتى في مراحل متقدمة من العمر، وتشمل الضوء والأصوات والروائح وملمس الأقمشة.
ويمكن أن يظهر ذلك من شعور ملحوظ بعدم الراحة في الأماكن المزدحمة أو الصاخبة، أو عند ملامسة خامات معينة، وهو ما يعكس اختلافات في طريقة معالجة الدماغ للمؤثرات الحسية، وهي سمة مميزة للتوحد.
قد يشكل التغيير تحديا كبيرا لدى كبار السن المصابين بالتوحد غير المشخّصين. فمهام مثل الانتقال إلى منزل جديد، أو بدء وظيفة جديدة، أو حتى استخدام التكنولوجيا الحديثة يمكن أن تثير لديهم شعورا بالقلق نتيجة عدم اعتيادهم على الوضع الجديد وعدم استقرار الروتين، وتكرار هذه الصعوبات يمكن أن يكون علامة مميزة للتوحد.
قد يجد كبار السن المصابون بالتوحد صعوبة في فهم السلوكيات الاجتماعية غير الرسمية، مثل التواصل البصري، والمحادثات الجانبية، واحترام المسافة الشخصية، ولغة الجسد، أو حتى المزاح الخفيف، فالأشخاص المصابون بالتوحد غالبا ما يفكرون بطريقة مختلفة عن الآخرين، وقد يفسرون الأمور حرفيا أو يواجهون صعوبة في التقاط الإشارات الاجتماعية. وقد يشعرون بعدم الانسجام في المواقف الاجتماعية، ويحتاجون وقتا أطول للتعامل معها، حتى بعد سنوات من الخبرة.
على الرغم من براعة المصابين بالتوحد في مهام محددة، فإنّهم قد يواجهون صعوبة في التكيف مع التغييرات المتكررة أو سياسة العمل أو الاجتماعات الجماعية المرهقة.
يمكن أن يساعد وجود مديرين داعمين يقدّمون تيسيرات، مثل التعليمات الواضحة والمرونة في المهام على النجاح، بينما غياب ذلك قد يؤدي إلى ضغوط غير ضرورية أو صراعات أو حتى عقوبات غير عادلة.
الجدير بالذكر أنّ العلامات التي ذكرها الخبراء لا تعد وسيلة تشخيصية بحد ذاتها، بل هي مؤشرات قد تظهر لدى بعض الأشخاص المصابين بالتوحد، وقد تتشابه أيضا مع حالات أو سمات شخصية أخرى مثل القلق، أو الاكتئاب، أو الحساسية الحسية، أو غيرها. كما أن التشخيص الدقيق للتوحد لا يتم إلا بتقييم شامل يقوم به مختصون مؤهلون، نظرا لأن التوحد طيف واسع تتفاوت مظاهره بشكل كبير بين الأفراد.